في الأزمة الجزائرية (4/4) لنبتعد عن الاحكام المسبقة والتعميمات المجانية - بقلم: د. محمد قيراط

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ بداية الازمة في يناير 1992م تكاثرت وتعددت المقالات والتحاليل والبرامج التلفزيونية المختلفة حول المشكلة وابعادها وخلفياتها والحلول المقترحة. وعبر اخواننا العرب عن حسرتهم وأسفهم لما يجري في الجزائر لان الاحداث والمجازر فاقت كل التخيلات وكل ما يستطيع ذهن الانسان ان يتوقعه. وفي ظل تعقد الازمة وتشعبها وقلة المعطيات والمعلومات كثرت المساومات والمبالغات والتعميمات وبعض الاطروحات الساذجة التي تعتبر شتما وسبا لذكاء الاطراف والنوايا الحميدة لمعالجة الازمة لكن مع الأسف الشديد لوحظ ان الكثير من المقالات ومن التحليلات طغت عليها العاطفة والحساسية الزائدة. فجاء الكثير من التحاليل يتحسر على المشروع الاسلامي الذي لم ينجح ليس في الجزائر فحسب وانما في العديد من الدول العربية وغير العربية, لأن هذا المشروع لم يأت ببديل وبجديد. فما لم يتحقق في غير الجزائر اراده الاخوان ان يتحقق وبالقوة والعنف والتزييف والمغالطة والخداع في ارض المليون شهيد. جاء العديد من المقالات والتحاليل ليرثي الجبهة الاسلامية للانقاذ ويطلق عنانه لكل انواع الانتقادات والتهم والاحكام المسبقة والتعميمات المجانية بدون حجج ولا براهين وكأن الازمة الجزائرية ستعرف نهايتها باقامة الجمهورية الاسلامية في الجزائر, وكأن الجبهة الاسلامية للانقاذ المسكينة اليتيمة قد ظلمت ولم تكن سببا في ادنى شيء حدث في الجزائر ولا في ادنى عملية ارهابية او قتل او بطش او اغتصاب. والغريب في الامر والمؤسف له ان عددا كبيرا من النقاد والمحللين والمفكرين تعامل ويتعامل مع الاسلام السياسي والحركات الاسلامية في الوطن العربي بمكيالين ففي الوقت الذي سكت فيه هؤلاء الكتاب تماما عما يحدث في بلدانهم واداروا ظهرهم للقمع والتعسف وانتهاك حرية الرأي والفكر نراهم قد اطلقوا حقدهم على السلطة الجزائرية بدون اي مبرر وبدون براهين وبدون حجج. وكلنا يعلم كيف تعاملت الكثير من الدول العربية مع الحركات الاسلامية والاسلام السياسي ولا داعي لذكر الاسماء هنا لأن الامور لا تحتاج الى ذلك. هل بهذه الطريقة نخدم قضايانا العربية ونساهم في اطلاع الرأي العام على حيثيات وخلفيات القضايا في مجتمعاتنا العربية. هؤلاء الكتاب جعلوا من جبهة الانقاذ للانقاذ مشعل النور والعدالة الاجتماعية والحق والحرية, وتجاهلوا تماما ان هذا الحزب هو المتسبب الرئيسي في كل ما حدث ويحدث في الجزائر ابتداء من تزييف الانتخابات التشريعية في ديسمبر 1991م الى يومنا هذا. المتعاطفون مع الجماعات المتطرفة والمنظرون للاسلام السياسي ولتسييس الدين الحنيف مع الأسف الشديد لم يحاولوا في يوم من الايام ان يفرقوا ما بين الدين الحنيف واولئك الذي يساومون به ويقومون بتطويعه وتفسيره وشرحه حسب اهوائهم وشهواتهم ونزواتهم. هؤلاء الكتاب والمحللين لم تكن لديهم الشجاعة الكافية للاعتراف ان الذين يعملون على انشاء الجمهورية الاسلامية في الجزائر قد تدربوا في افغانستان وغيرها بميزانية المخابرات الامريكية التي حققت ومازالت تحقق اهدافها الاستراتيجية بواسطة مئات الشباب الطائش الذي فشل في حياته وبدلا من الذهاب لتحرير القدس الشريف ذهب لتحرير امريكا من عدوها اللدود الشيوعية. في هذا المقال وبعيدا عن الانحياز لأي طرف في الازمة وبعيدا عن الدفاع عن اي جهة من الجهات المتورطة فيما يدور في الجزائر سنحاول ان نلقي الضوء على بعض المساومات والمغالطات والتعميمات التي وإن كان اصحابها يريدون الخير من ورائها للشعب الجزائري ولانفراج الازمة, الا انها اطروحات تضلل الرأي العام وتصب الزيت على النار. والغريب في الامر ان هذه المساومات والمغالطات وردت من ائمة ومفكرين وعلماء اسلاميين ومن ناس كنا نكن لهم وافر الاحترام والتقدير. ومن اهم التناقضات والمغالطات والتعميمات المجانية والاحكام المسبقة التي لاحظناها في موضوع ازمة الجزائر سواء تلك التي جاءت على شاشات القنوات الفضائية العربية او تلك التي نشرت في الجرائد والمجلات العربية ما يلي: من التناقضات التي برزت في كتابات الكثير من المحللين والنقاد والكتاب خاصة الاسلاميين منهم انهم لم يتطرقوا ولو مرة واحدة للفشل الذريع للحركات الاسلامية سواء في افغانستان او السودان وكذلك فشل مشروع هذه الحركات في العديد من الدول العربية للوصول الى السلطة او فشلها عندما وصلت الى السلطة في تقديم البديل. النظر الى النظام الجزائري وكأنه اسوأ نظام فوق الارض وانه نظام لم يحقق شيئا سوى الفشل الذريع على مختلف المستويات سواء في الماضي او الحاضر والجهل المقصود والتناسي المتعمد للانجازات المختلفة التي حققها الشعب الجزائري سواء على صعيد بناء المؤسسات الدستورية حيث وجود برلمان تجلس فيه احزاب سياسية من اقصى اليمين الى اقصى اليسار مرورا بالتيارات الاسلامية او سواء على مستوى الاحزاب السياسية او حرية الصحافة او الممارسة السياسية او الحياة النقابية او على مستوى التحول من نظام الاقتصاد المخطط الى اقتصاد السوق. كما تجاهل اخواننا الكتاب والمفكرين ان المرحلة التي يمر بها المجتمع الجزائري هي مرحلة انتقالية صعبة تتطلب الكثير من التضحيات وتواجه الكثير من الحواجز والصعوبات. حقائق لابد من ذكرها: حتى ننصف ذكاء القارىء ونحترم ذكاءه يجب ان ننوه ونشير الى بعض المعطيات وبعض الحقائق التي تركت بصماتها على الازمة الجزائرية ومن اهمها ما يلي: النظام الجزائري كأي نظام في العالم له نقائصه واخطاؤه وعيوبه. وقد يكون قد اساء التخطيط او اخطأ في معالجة بعض الامور وهذا نظرا للظروف والمعطيات الداخلية والخارجية. فداخليا هنالك المصالح المتضاربة ووجهات النظر المختلفة والنزاعات المتواجدة داخل بعض المؤسسات الفاعلة على مستوى الساحة السياسية والاقتصادية والجزائرية. على المستوى الخارجي يجب علينا فهم وتحليل الازمة الجزائرية في السياق الدولي وفي ما يحدث اقليميا وقاريا ودوليا, وهذا انطلاقا من نظرية المؤامرة ووصولا الى مصائب قوم عند قوم فوائد. عدم اعتماد استراتيجية اعلامية واضحة ومحكمة من قبل النظام الجزائري وذلك لتقديم كل المعطيات والمعلومات الضرورية واللازمة للرأي العام المحلي والدولي الامر مع الأسف الشديد الذي ادى الى انتشار الشائعات والمساومات والمزايدات والاحكام المسبقة والتعميمات المجانية. هذا الفراغ فسح المجال امام الاعلام الغربي وامام اصحاب الاماني والاحلام ان يستبقوا الاحداث وينتظرون اقامة الجمهورية الاسلامية الى الجزائر. خلال السنوات السبع الماضية ارتكبت السلطات الجزائرية في بعض الاحيان تجاوزات راح ضحيتها ناس عزل, ابرياء لا ناقة لهم ولا جمل فيما يحصل ما بين السلطة والجماعات الارهابية. مارست السلطات الجزائرية خلال الفترة السابقة بعض المضايقات على المؤسسات الاعلامية وعلى الصحافيين الجزائريين الامر الذي ادى بهؤلاء الى وجود انفسهم بين المطرقة والسندان, مطرقة الارهاب وسندان السلطة وللتذكير فقط حصد الارهاب 59 صحافيا منذ بداية الازمة. انفلات الامور من جبهة الانقاذ حيث ظهرت عدة عصابات ومجموعات ارهابية مسلحة تقتل وتنهب وتغتصب باسم الاسلام, وحتى لو وصل التيار الاسلامي إلى الحكم في الجزائر فان هذه العصابات لا تتوقف عن اعمالها الاجرامية. تبرأ الجيش الاسلامي للانقاذ من الجماعات الاسلامية المسلحة واعلن الهدنة من طرف واحد في شهر اكتوبر من السنة الماضية واعلن اخيرا الحرب على هذه العصابات, كما ادان هذا الجيش ويدين هذه الجماعات بالقيام بالمذابح وعمليات النهب والقتل والاغتصاب, كل هذه المعطيات مع الأسف الشديد تجاهلها اخواننا الكتاب والنقاد والمحللين عند معالجتهم للازمة الجزائرية. ان الطروحات المتطرفة لجبهة الانقاذ لقيت صداها عند الشرائح المهمشة والامية حيث لعبت على عواطف واحاسيس الناس والبديل بالنسبة لها كان السنة والكتاب بدون اجتهاد وبدون تقديم بديل, كما اعتمدت هذه الطروحات اقصاء الاخر واقصاء كل من لديه رؤية مخالفة أو وجهة نظر مختلفة, الامر الذي ادى إلى استعمال العنف والعنف المضاد. انتقال الصراع إلى اطراف عديدة ومختلفة تتنوع وجهات نظرها ورؤاها ومصالحها, ولم يتوقف الصراع والتنافس مثل ما كان عليه في بداية الازمة بين السلطة والجبهة الاسلامية للانقاذ, ونظرا لانعدام الرؤية الاستراتجية لهذه الاخيرة اخترقت وانضم اليها كل من هب ودب ولذلك لم تصبح لاحد في الجبهة الاسلامية للانقاذ التحكم في الامور ومعالجة الازمة. ان تسوية الازمة الجزائرية تعود بالدرجة الاولى إلى الشعب الجزائري دون سواه وأي تدخل خارجي يعتبر زيادة تعقيد الازمة وتشعبها, فالرهان على الاتحاد الاوروبي أو منظمة الامم المتحدة أو اي تنظيم اخر يعتبر هروبا إلى الامام. * موقف العالم العربي: مع الأسف الشديد معظم الكتاب الذين تطرقوا للازمة الجزائرية مروا مرور الكرام عن الدور العربي في الازمة وموقف العرب من هذه المجازر التي تحدث يوميا في بلد عزيز على كل عربي, بلد لم يتأخر يوما في تقديم ما عليه للاشقاء العرب, واذا كانت نية هؤلاء الكتاب والمحللين والصحافيين هي مساعدة الجزائر للخروج من ازمتها ــ وليس الحلم باقامة الجمهورية الاسلامية التي لم تتحقق في بلدانهم وكذلك ليس التجريح والقذف والتشهير والشتم المقنع ــ فكان من واجب كل واحد منهم على الاقل الدعوة لوضع استراتيجية عربية مشتركة لمكافحة الارهاب, لكن مع الأسف الشديد وباستثناء عدد ضئيل لا يتجاوز اصابع اليد الواحدة من الدول العربية الشقيقة فان الغالبية العظمى بقيت تتفرج على ما يجري في الجزائر بدون تحريك ساكن, أين موقف المثقفين العرب؟ والمثقفون في اوروبا تحركوا وقاموا بمظاهرات ومسيرات تضامنا مع الشعب الجزائري, أم ان المثقف العربي مغلوب على امره ذائب في النظام والاجهزة السياسية والامنية وغيرها ولا حول ولا قوة له. موقف العالم الاسلامي: اما على صعيد منظمة المؤتمر الاسلامي فالامور بقيت ساكنة لم تتعد بعض خطب الجمع وبعض الاقتراحات المحتشمة وحتى المؤتمر الاسلامي الاخير الذي انعقد في طهران لم يحاول وضع استراتيجية واضحة للحد من الارهاب التي تعيشه الجزائر وللحد من التلاعب بالاسلام وبالدين الحنيف من قبل قطاع طرق ومجرمين ومهمشين فشلوا في حياتهم والاسلام منهم براء, فالاسلام اصبح مجال للمساومة واصبح يشوه ويقدم بصورة تقشعر لها النفوس على القنوات الفضائية وعلى صفحات الجرائد العالمية وعبر برقيات وكالات الانباء العالمية والكل يتفرج, وحتى البعض من وسائل اعلامنا العربي والاسلامي انجر وراء اجندة وسائل الاعلام الغربية بدون مساءلة ولا استفسار, وان الحكومة الجزائرية تذبح يوميا شعبها في القرى والمناطق النائية هكذا بكل بساطة. * الذي يقتل في الجزائر هم جماعات لا علاقة لهم بالدين الاسلامي ولا علاقة لهم بالانسانية, ركبوا قطار الجبهة الاسلامية للانقاذ وهم يحلمون بالجمهورية الاسلامية وبالخيرات والنعم وعندما انكشفت اوراق الجبهة وفلتت الامور من اياديها لم يجدوا امامهم سوى القتل والذبح والسرقة واتلاف كل ما يقع بين ايديهم لانهم خسروا كل شىء حتى الامل في الحياة, هذه الجماعات تكونت من جهلة ومهمشين لا يعرفون حتى اساسيات الدين الحنيف, نفسيات غير سوية حاقدة على اي شىء وكل شيء في المجتمع يؤمن بالنظام وبالدولة, هذه المجموعة من الناس المريضة وجدت دواءها وحلول لمشاكلها فيما يسمى بالتيار الاسلامي المتطرف الذي لا يؤمن الا بنفسه ويعمل على اقصاء الاخر كطريقة لتحقيق مشروعه, هذا التيار استغل كل ما وقع تحت يديه وكل من كان بشر حيث فتحت الجبهة الاسلامية للانقاذ ذراعاها لكل من هب ودب لأنواع واشكال من المرضى والمنحرفين والمجرمين والمسجونين وغيرهم, حيث ان اي انسان يقدم صورة شمسية و100 دينار جزائري يصبح عضوا كامل الحقوق في الجبهة الاسلامية للانقاذ يفتي ويشرع ويخطط ويصبح (امير) يوجه ويعطي أوامر لكتيبة من 30 شخصا للقتل والبطش والاغتصاب ويصبح يفتي ويشرع للصحوة الاسلامية وللمشروع الاسلامي, من هنا بدأت الازمة الجزائرية وهكذا قامت الجبهة الاسلامية للانقاذ بارتكاب اكبر خطأ تكتيكي ومنهجي لا يغفره لها التاريخ, لان النية لم تكن صادقة وطاهرة منذ البداية وهذا هو الامر الذي جعل عباسي مدني وعلي بلحاج لا يستطيعان التحكم في الجماعات المسلحة التي تقتل وتذبح الشعب الجزائري البريء باسم الاسلام. ان رهانات الازمة الجزائرية كثيرة ومتشعبة والمصالح متقاطعة ومتداخلة بعضها داخلي والبعض الاخر خارجي, والسلطة الجزائرية كأي سلطة في العالم فيها صراعات وفيها تحالفات وفيها تيارات متضاربة, ولا يجب علينا كمحللين وكنقاد لما يجري في الجزائر ان تنظر للازمة بنظرة احادية وبنظرة ضيقة بعيدة عما يجري في العالم عن الصراع الحضاري القائم بين الشرق والغرب. الدرس المستفاد منه في الازمة الجزائرية يتجسد في نجاح المجتمع في مناقشة تناقضاته ومشاكله واخطائه والتطرق اليها والتعبير عنها امام الملأ, صحيح ان الفاتورة مكلفة جدا والصراع دموي لكن الفائدة ستكون اكبر بكثير وضحايا الازمة ما هم الا ضريبة التاريخ الحتمية للشعوب التي اختارت ان تكون فاعلة في التاريخ وليست تابعة وخاضعة, وان آجلا أم عاجلا فالربيع سيقبل على الجزائر مختالا ضاحكا ومشرقا بمستقبل زاهر واعد, ومن يحلم بحكومة الارهاب وقطاع الطرق في الجزائر فليتأكد انه اخطأ في العنوان وليبحث عن بلد آخر لتحقيق ذلك.

Email