ثلاثة دروس من نزع فتيل الضربة: بقلم- ميشال جوبير

ت + ت - الحجم الطبيعي

نعرف جميعا ان المصورين لديهم سائل كيميائي لتحميض الصور, اي تحويل الصورة من (سلبي) أسود الى رسم واضح المعالم . وهكذا فعل كوفي عنان, ربما بدون اراده, فقد حمض الامين العام لمنظمة الامم المتحدة صورة قضايا الشرق الاوسط من (السلبي) المظلم القاتم الى رسم بين, حينما أفشل الضربة العقابية الغبية التي اعتزمت واشنطن الحاقها بالجسد العراقي المتهالك تحت الحاح الاعضاء الآخرين الدائمين بمجلس الأمن. وهكذا فقد قرر الامريكان الابقاء على قوتهم العسكرية قريبة من أهدافهم مع احتفاظهم بحق (الرد الفردي) في حالة ما اذا (اخل صدام حسين بالاتفاقية الموقعة مع الامم المتحدة يوم 23 فبراير) . لكن المهم هو ان الحجة اقيمت على ان حلا سلميا للازمة امر ممكن, وان قدرية استعمال القوة لا تؤيد ما إلا نزعة انحرافية لسياسة القوة. ولعل البعض لا يرون في تلك الازمة الا حلقة من سلسلة الهيمنة الامريكية على العالم, ولكني مقتنع انهم مخطئون. الهراوة لقد اقام الامريكيون البرهان القاطع على انهم عاجزون ــ بسبب صفاقتهم أو بسبب انعدام حسهم ــ على وضع سياسة واضحة محمودة العواقب ومأمونة النتائج, اللهم الا استعمال الاخرق للهراوة. اعني بذلك ساسية تراعي مصالحهم ويمكنها حيازة اقتناع ومساندة مواطنيهم بمخاطبة عواطفهم او دغدغة كبريائهم, ولا أدل على ذلك من المغامرة الفاشلة التي قام بها ثالوث الضربة في جامعة ولاية أوهايو (مادلين اولبرايت ووليام كوهين وصمويل برجر) حين عادوا بخفي حنين امام غضب وحيرة الرأي العام الامريكي, الذي لا يقبل بسياسة عمياء لا تقرأ حسابا للغد. هل نحن أمة؟ ولعل أكبر نتيجة لهذا التخبط الامريكي هي ان شركاء الولايات المتحدة سينزعون العصابة التي عصبوا بها عيونهم ليروا اخيرا ان الديمقراطية الامريكية تمر بأزمة حادة. ونذكر ان الرئيس كلينتون تساءل اثناء خطابه (الناجح) حول حال الامة قائلا: (هل نحن بالفعل أمة؟) وهو سؤال صحيح يمس مستقبل الولايات المتحدة الامريكية وقدرتها على تجاوز محنها والحفاظ على وحدتها في تيارات المعارضات الداخلية والخارجية. واعتقد ان الاوروبيين, وبخاصة توني بلير البريطاني, لم يكتشفوا بعد ذلك الشك العميق الذي يهز كيان الحياة الامريكية العامة ويمكن ان يقود الى اسوء الاحتمالات. الكيل بمكيالين اما النتيجة او العبرة الثانية المستخلصة من الاتفاق الموقع بين بغداد والامين العام للمنظمة الاممية فهي ان على الولايات المتحدة اليوم ان تعيد لنفسها المصداقية والاعتبار لدى العالم العربي, فقد خسرت ذلك الرصيد الاخلاقي الذي كان لها وهي ما فتئت تكرر عزمها على استعمال حقها الاحادي لضرب العراق. فقدت امريكا هيبتها لدى الرأي العام العربي بسبب ما عرف عنها من استعمال المعيارين والكيل بمكيالين في مجال تطبيق قرارات الامم المتحدة ومجلس الامن, مما اضاع صبر الرأي العام العربي بازاء هذه الممارسات... والى مدى بعيد. وعلى امريكا اليوم ــ اذا ارادت الحفاظ على مصالحها الاقتصادية ومواصلة بيع اسلحتها واستخلاص فواتير حضورها بالمنطقة ــ عليها ان تعيد الاعتبار لدورها كحكم بين الفرقاء, ذلك الدور الذي لم تقم به في الحقيقة أبدا. كما ان على امريكا ان تعي الميادين والمجالات الضائعة من تحت اقدامها, منذ ان تركت فرصة السلام الموقع في اوسلو تتبدد كالدخان بين الفلسطينيين والاسرائيليين, والله وحده أعلم اليوم كيف سيفرض بيل كلينتون تحكيمه من جديد حتى يطمئن العالم العربي ويجنح للانصاف. مسؤولة اخلاقية اما النتيجة ــ او العبرة ــ الثالثة المستخلصة من هدوء رعود الصحراء التي أخمدها كوفي عنان الى حين, فهي ان الولايات المتحدة مدعوة لاحلال العراق مكانته في السوق النفطية, فالامريكان حاضرون في الشرق الاوسط منذ العام ,1944 من اجل مراقبة النفط لحسابهم, وهم عاجزون عن مواصلة حرمان العراق من ثرواته الطبيعية الأساسية, مهما كان موقف الدول المحيطة بالعراق ازاء نزول سعر البرميل الى اقل من 14 دولار, لكن منطق الثأر والاضطهاد لا يمكن ان يحل محل سياسة حكيمة, خاصة ان كان الشعب هو الضحية. وامريكا, تواصل التفاخر بأنها اقوى عملاق وحيد في العالم, وبأن لها واجبات اخلاقية! فعليها تحمل مسؤولية تلك القوة بالعدل في رعاية شؤون العالم والا جلبت كراهية العالم أجمع. وقد ذكرها كوفي عنان بذلك, فهل تشعر امريكا بثقل الامانة وتبدأ على الاقل بدفع ديونها نحو منظمة الامم المتحدة؟؟

Email