مع اطلالة 1999: عملة أوروبية موحدة: بقلم - د. زكي الجابر

ت + ت - الحجم الطبيعي

أوروبا تشهد وحدتها لتدخل القرن المقبل وهي أقرب ما تكون الى تكامل في البنى والتوجهات الاقتصادية. ففي يونيو 1997 توالت في (أمستردام) وقائع مؤتمر ما بين الحكومات من أجل إعادة النظر في معاهدة ماسترخت, ولقد ختمت تلك الوقائع باجتماع قمة لرؤساء دول أو حكومات المنضوية في الاتحاد الأوروبي, وكان أبرز ما نال الاهتمام والتأكيد هو اعتبار اليوم الأول من عام 1999 موعدا تصبح مع اطلالته الوحدة النقدية الاوروبية سارية المفعول, ومع اطلالته تنطلق العملة الأوروبية الموحدة, وتتوطد دعائم (البنك المركزي الأوروبي) متسلما سلطات (بانك دي فرانس) و(بندسبانك) ومن المؤمل خلال فترة انتقالية تنتهي عام ,2002 ان يختفي من التداول المارك, والفرنك, والجلدر, ليتناقل ما بين أيدي المتعاملين (اليورو) و(السنت) تساند كل ذاك اجراءات أخرى مثل عقد حلف للاستقرار وميثاق للتشغيل والنماء. ذلك الحدث ومافي طياته من تفاصيل, ومايحمل من دلالات يحملنا على أن نعيد التأمل في الأمل الذي كان يراودنا في يوم ما, الأمل في أن تكون لأمة العرب سوقها المشتركة, وعملتها الموحدة, وأن ينعكس تكاملها في الماضي على تشتتها في الحاضر, فيستحيل التشتت إلى تقارب, والضعف إلى قوة, وانقسام الكلمة إلى كلمة ذات صوت وصدى وتأثير. وقد يكون جميلاً ومفيدا أن نتأمل كيف أقامت هذه الدول الأوروبية هذا التكامل الفريد من نوعه وهي المتباينة لغة, وهي التي طالما تطاحنت على ساحات من الدم والعداء وتعارض في الطموحات والايديولوجيات. ان التأمل يقودنا بادئ ذي بدء إلى التعرف على الاجتهادات التي فحصت المبادئ التي يستند إليها التقارب, ويقوم على التكامل, وأول هذه المبادئ هو التخلي عن العنف, وفي هذا التخلي دعم للتكامل وتوطيد للمجتمع الآمن, وتحت ظلال الاستقرار يتحقق المزيد من التلاؤم بين القيم وتوفير الجو العام للاستجابات المشتركة والتواصل بين الأفراد, ان ذلك لايعني (الامتزاج الكلي) وانحسار الهويات الوطنية بقدر ما يعني رعاية التعددية في مجتمع يجني ثمار التكامل تحت وريف من ظلال حالة (السلم الاجتماعي) . ان توفير ذلك الجو العام, يرتبط ايضا بمسألة الانتقال بكل متضمناته من انتقال بضائع, وحراك اجتماعي, وتواصل بين الافراد من خلال الزيارات, ورسائل البريد, وحركة الطيارات والسيارات, وتدفق الاعلام, وانتشار المعلومات, والتفاعل الثقافي الذي تتجسد فيه حركية التثاقف وفعالية التربية, كما يرتبط بمدى ما تتوفر عليه النخبة على اختلاف مجالات عملها, من قوة في الارادة السياسية المثابرة والمطمئنة إلى انجاز الفعل التكاملي, والمتوجهة بوعيها الى خلق وعي سياسي لدى المواطنين باهمية هذا الفعل وضرورته, وبما ينتهي الى تكوين مواقف ايجابية من عملية التكامل. واذا ما تهيأ الجو العام الملائم, وتحققت انجازات فعلية تكاملية تقود الى انجازات أخرى, فإن المحصلة, وحدة النقد, ستأتي ثمرة يانعة وفي أوانها من موسم القطاف. وهكذا وجدتني وانا أتحدث عن المبادئ التي يستند اليها التكامل الاوروبي لا اتحدث مثلما تحدث دعاة شوفينيون عن (الأصل) وان هذا الأصل نقي متميز يفوق العناصر الأخرى انجازا ومدنية وعبقرية ذهنية وبسطة جسمية وشجاعة ذلك لعلمي ان البشر هم البشر مهما اختلف بهم الزمان أو المكان, ولم أتحدث عن (اللغة) مع ايماني العميق بدور اللغة في ربط الوشائج بين افراد الأمة, ولغة العرب لها فرادتها في هذا الشأن, فبها تنزل التنزيل (تنزيل من الرحمن الرحيم, كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون) ولم أتحدث عن التاريخ ودوره في وعي الذات, انه موطن ذكريات, وبوتقة مشاعر وعواطف وأحداث ورموز, لم أتحدث عن كل ذاك, لأني رأيت هؤلاء الأوروبيين يحققون تكاملهم وهم لايفخر بعضهم على بعض, وهم مختلفون لسانا, ويتباينون تاريخاً, بل حتى من ناحية جغرافية يحاولون أن يعبروا بخصائصهم البحر المتوسط ليتلقوا بساكنة تلتف على ضفافه. ولا أكتم أني أتحدث بكل ذاك والخارطة العربية أمامي تضم شتاتا يتباعد بالرغم من وحدته, ويتناءى بالرغم من الوشائج التي تشد بعضه الى بعض, قد تكون العملة العربية الموحدة حلما, ولكن ما يثير الأسى هو هذا العجز عن خلق جو عام للتكامل / وهذا الخلل البين في ديمومة عمل مؤسسات العمل العربي المشترك, وإذا ما أخذنا بالاعتبار تقسيم كوكبنا الى عالم واقاليم وأوطان, فإن أهم ما يلفت النظر هو هذا الجهد الملحوظ الذي يبذله كل اقليم من اجل التكامل, وبشكل لايجعل من هذا التكامل عقبة تعترض سبيل التلاؤم مع متغيرات (العولمة) . ان ما يزيد الأسى تفاقما هو أن التشتت العربي يكاد يكون فريدا مع توفر كل ما يدعو إلى التكامل فضلا عن وجود الكيان الصهيوني الذي تغتصب قواته الأرض, وتجرح كرامة العربي, وتهين تاريخه, وعلى نطاق الافتراض, فإن وجود هذا الكيان العدائي يشد من عرى التقارب العربي, ويلهب الإحساس وينمي الادراك بالمصير المشترك, اما على نطاق الواقع, فإن الحال يبدو معاكسا, فالعدو يزداد شراسة, ونسيج الروابط العربية يعاني من التمزق ما يعانيه. وليس خفيا ان منطلق الوحدة الاوروبية كان وما زال متفائلا الى حد بعيد حتى تكاد كلمات التحذير تتلاشى امام انجازات افعال التكامل وتواليها, هناك من يرى في الوحدة الاوروبية اقتصاديا ونقديا ما يدعو إلى زيادة في العمالة والتضخم, وربما الى صراع بين الحكومات وهي تعترك في اطار وحدة عريضة ذات مسؤوليات عريضة في الاقتصاد والشؤون العسكرية والسياسات المحلية, لقد كتب مارتن فيلدشتاين في (التايم) معبرا عن وجهة النظر المتشائمة هذه إذ رأى ان أوروبا في سعيها للوحدة انما تسعى الى الاضطراب والصراع, بدلا من الاستقرار والانسجام, انه يتوقع صراعا بين فرنسا والمانيا في أفق القوة والتأثير, كما يتوقع عدم ارتياح في بريطانيا قد يدفعها الى اثارة المشاكل كحصيلة للاحساس بالتهميش, ويذهب الكاتب الى أبعد من ذلك, ليقول ان وحدة سياسية تحتضن ثلاثمائة مليون انسان, ولديها القدرة لنشر قوة عسكرية عبر العالم ستكون في العقود المقبلة مصدر عدم استقرار في العالم. ان ما يثير الاستغراب في كل ذاك هو ان اقطار أوروبا أخذت تتجاوز مشكلاتها الداخلية, كما يثير الاستغراب ان وجهة النظر تلك تصدر عن كاتب يعيش على أرض تشدها عرى فريدة ومتينة من نظام فيدرالي, وانتقال, بكل ما ينطوي عليه هذا المفهوم من أنواع الانتقال, وبسطة في النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري والتكنولوجي, ان تساؤلي لِمَ تكون حديقة جارك جميلة دائما بل أجمل من حديقتك؟ واتساءل مع نفسي لم لا تكون حديقتي العربية جميلة موحدة على تعدد أزاهيرها وأشجارها وعطورها! لايحسن بأي كاتب أن يكون متشائما لأن مسؤوليته هي اشاعة الأمل وحب الحياة والتطلع الى المستقبل الأجمل, وإذا ما كانت اطلالة العام الجديد ستشهد انطلاقة العملة الأوروبية الموحدة, فلا أريد, كعربي وبالرغم من الحسن بلدغة المرارة تشيع في الفم واللسان, فانني ومع اطلالة كل عام جديد, ننتظر اطلالة الحلم والشوق والمنى بوحدة الارادة العربية على الأقل. خبير اعلامي عربي *

Email