رؤية حضارية لـ (تأمل مسيحي): بقلم- د. حنيف القاسمي

ت + ت - الحجم الطبيعي

في عددها الصادر في 21/1/1998م نشرت صحيفة (الاهرام) مقالة للدكتور (الانبا يوحنا قلته) بعنوان (رمضان كريم... تأمل مسيحي) تناولت شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم, وجاءت حافلة بعبارات التبجيل والاحترام, مع الاقرار بعظمة تلك الشخصية, واثرها الكبير في التحول الهائل في مسيرة الانسانية. المقالة في مجملها, عبارة عن درس تربوي اخلاقي حضاري, تستحق وقفات عديدة عندها ولاهميتها, يجدر ان نلقي من عباراته في تلك المقالة: اتجاسر, وانا المسيحي العربي, ان اقترب في تهيب وفي خشوع من شخصية (الرسول العربي) وعن التحول الكبير الذي احدثه الرسول عليه الصلاة والسلام يقول الانبا يوحنا: من أعماق الصمت خرج صوت يؤذن: لا إله إلا الله محمد رسول الله, حدث ذلك في بداية القرن السابع الميلادي, ولد الميلاد الهجري, كانت الصرخة قوية, زلزلت عرش كسرى وعرش قيصر, والتفت العالم الفارسي والعالم البيزنطي, الشرق والغرب في غير اكتراث, لم تنصت فارس الى صوت قادم من القبائل العربية المتشرذمة, لم تهتم بيزنطة, فقد اتاها قبل ذلك اصوات كثيرة من اعماق الصحراء العربية, وعرفت كيف تكبتها وتمحو اصداءها. لم يسمع الشرق او الغرب, الشمال او الجنوب عن محمد الا حين دقت وفوده ابواب الشعوب والملوك لتعلن لهم: جاء دين جديد يقول انه امتداد وتكملة لمن سبقه, عقيدته ان محمدا بن عبدالله بعث للناس نبيا, يحمل دينا جديدا, ويحمل وحيا منزلا. بعد تلك المقدمة الرائعة, يخاطب الانبا يوحنا قلته النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وسلم) من انت يا ذا المهابة والجلال بالنسبة لي انا المسيحي؟ من انت ياصانع حضارة نقلت البشرية من عالم الى عالم وارست قواعد للدول وللشعوب؟ من انت ايها الآتي من قلب الصحراء, من قلب الامية والجهل؟ من القاع. من سقط الشعوب القديمة من اسرة فقدت الوالد, من قبيلة عبدت المال والتجارة. من انت يا انسان؟ يا رجل؟ يا رسول؟ وبعد التأكيد على انتمائه المسيحي, يختم الانبا يوحنا مخاطبا النبي محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: لكن امام (انسانيتك) امام رسالتك امام كتاب ربك الذي حملته, امام تاريخك, امام ذلك كله لا اجد حرجا,او قلقا, ان احني الرأس اجلالا واحتراما, حبا وانبهارا, لا يا سيدي, لا ينكر فضلك وسموك إلا جاحد او جاهل, دعني يا سيدي في شهر رمضان, ارفع الى مقامك السامي حبا واكراما, لانك انسان, حملت كل سمو انسانية الانسان, لانك رسول بعثت لتنقل المجتمع من حال الى حال, لانك صاحب حضارة, لانك قدوة للحكم, للمنتصر, وللمهزوم, للقوي, وللضعيف, لانك امام المؤمنين بالله الواحد وباليوم الاخر. سيدي نبي الاسلام, رسول الحضارة, تقبل حبا واجلالا من مسيحي في الشهر المبارك. عندما فرغت من قراءة ما اثبته الانبا يوحنا قلته, وتأملت في ثنائه على شخصية رسول الاسلام, استدعت الذاكرة ما يسطره بعض (المثقفين) الذين ينتسبون الى الاسلام في شأن تراثنا الفكري, وادركت مدى الجناية التي يرتكبها هؤلاء ــ بسبب جهالتهم ــ برموزنا الدينية وثوابتنا الثقافية, وقلت (يا ليت قومي يعلمون) . نعود الى مقالة الدكتور الانبا يوحنا, حيث تتمثل اهمية تلك المقالة في مضمونها ــ والذي اشرنا الى طرف منها ــ وفي مكانة صاحبها الذي يعد من الباحثين البارزين وله تاريخ طويل في المؤسسات الاكاديمية, فقد عمل استاذا للدراسات الاسلامية والعربية بجامعة القاهـرة وبالجامعة الامريكية, واكاديمية الفنون. بالاضافة الى ما عرف به من اهتمام كبير بالتواصل مع المسملين, وعناية ظاهرة بالعلاقات المسيحية الاسلامية. والاهم من ذلك كله, انه تبوأ مكانة رفيعة في الكنيسة المسيحية, فهو النائب البطريركي للاقباط الكاثوليك. اذا نحن امام حالة ايجابية تستدعي وقفة خاصة, لاسيما في ظل اجواء التوتر والاثارة تجاه الاسلام ورموزه وثقافته. والتي تسعى العديد من الجهات الى تصعيد درجة ذلك التوتر وتلك الاثارة ضد الاسلام فكرا واتباعا. ولاشك ان تلك الجهات تمثل اطرافا لها مصالح مهمة في افتعال ازمة بين الغرب والشرق الاسلامي واستمرارها. ولعل صموئيل هنتجتون الذي يفصح اسمه عن هويته في رؤيته لصدام الحضارات من اولئك القوم المفتعلين لذلك الاشتباك, والمروجين له. كما ان تصدي مسيحي في مستوى الانبا يوحنا قلته للكتابة في موضوع الاسلام وقضاياه على ذلك النحو المتقدم, فيه من الدلالات الحضارية التي تستحق التوقف عندها. ذلك ان المسلمين قد ألفوا في الغالب ان تكون الكتابات الصادرة عن غير المسلمين والمتعلقة بشخصية نبيهم, غير خالية من المساس, او الانتقاص من شأن تلك الشخصية, او التطاول عليها, او التشكيك في صحة الرسالة التي يبلغ عنها, وقد تورط في هذا النوع من الكتابات العديد من المستشرقين الذين تناولوا دراسة تاريخ الاسلام وشخصية الرسول, محمد عليه الصلاة والسلام, نذكر هذا دون اخلال بما اسهم به بعض المنصفين ممن اعتني بدراسة الاسلام من مستشرقين وغيرهم دون تزييف او تحريف. مقالة الانبا يوحنا قلته كانت محاولة جريئة لكسر حاجز الصمت والخوف الذي يلف علاقة المسلم بالمسيحي, وقد عبر عن ذلك الانبا يوحنا نفسه عند تصديره لتلك المقالة, حيث قال: احاول ان اخترق الحاجز التاريخي, حاجز الصمت والخوف, حاجز الجهل وثماره, التعصب والخصام, اغامر لكي اعبر فوق اوهام لاتمت للحقيقة بصلة, سكنت في وعي او في لا وعي الشرق وفي الغرب, واستوطنت اعماقه ولايزال وجدان البشر, شرقا وغربا, ممزوجا بما يشبه صراع العواطف, وممزقا بأصوات تناقلها التاريخ عبر القرون الطوال, وبالاحمال الثقال من المغالطات, والتهم الباطلة, والتفسيرات الغبية القاصرة, وزيف الشروحات, والتحامل على الانسان الآخر, احمال ناءت بها عقول المفكرين, واجهدت ضمائر ذوى الارادة الصالحة. ولعل حاجز الصمت والخوف الذي اشار اليه الانبا يوحنا قلته لازال مؤثرا في اثبات موقف الاحجام عن الخوض في التواصل او حتى التحاور مع (الآخر) , ذلك ان مجرد طرح تلك الفكرة اصبح يعد من قبيل الشبهات التي يجب الابتعاد عنها, وهو عند البعض من قبيل (الاثم) الذي يجب اجتنابه. ولعل الانبا يوحنا قلته نفسه ــ على الرغم من تأكيداته المتكررة في شأن انتمائه العقيدي المسيحي في تلك المقالة ــ قد دفع ثمن كسر ذلك الحاجز الذي اشار اليه في تلك المقالة حيث كان هناك ردة فعل عنيفة تجاه المعاني التي صرح بها, وواجه هجوما عنيفا وحملة شرسة بلغت اتهامه بالردة عن المسيحية الى الاسلام, وقد لعبت المنظمات القبطية المشبوهة في اوروبا وامريكا دورا رئيسيا في هذا الشأن, وطالب آخرون بعزل الانبا يوحنا قلته بعد اتهامه بالخروج على المسيحية! وعلى الرغم من الضجة التي احدثتها المقالة في الاوساط المسيحية ــ الى درجة ان بعض الصحف اعتبرتها حربا داخلية بين الاقباط ــ الا ان المقالة اوجدت صحوة ايجابية, لتسهم في تعزيز التقارب والتعايش مع (الآخر) , وهو الامر الذي لقي احتفاء ظاهرا في اوساط المثقفين المسلمين, ووجد كذلك, ترحيبا من المعتدلين والعقلاء المسيحيين, لذا انبرت مؤسسات واصوات مسيحية عديدة لموافقة الانبا يوحنا قلته فيما جاء في مقالته. وذلك امر ايجابي, يضاف الى ما اسهم به مفكرون مسيحيون آخرون, ربما كان احد ابرزهم الاسقف البريطاني الن سميشسون, احد اساقفة الكنيسة الانجليكية, والذي احدث ضجة كبرى في الكنيسة الانجليكانية في العام الماضي, واغضب التقليديين فيها, وذلك عندما قرر التفرغ لقراءة وترجمة القرآن الكريم, واعتكف لمدة اسابيع على قراءة 20 صفحة يوميا من القرآن, وقال الاسقف سميشون انه وجد في القرآن من الحقائق ما يطابق الحقائق التي يعتنقها كمسيحي, وانه غير نادم على هجره للانجيل واقباله على قراءة القرآن الكريم, وقال: انه رغم الاختلاف فإن هناك الكثير من الجوانب المشتركة, وانه يأمل في ان يجلس المسيحيون والمسلمون يوما لبعضهم بعضا بكل احترام وتقدير. (الشرق الاوسط: 1997/4/2). يضاف الى ذلك, الاقوال والتصريحات التي صدرت عن مسؤولين غربيين مسيحيين لا يعدون من رجلا الدين, وربما كان الامير تشارلز ولي عهد بريطانيا احد ابرز هؤلاء الذين اثنوا على التجربة الحضارية الاسلامية, مع التأكيد على ان هناك الكثير ليتعلمه الغرب من الاسلام, وخاصة في ظل طغيان المادية, وانحسار القيم, وتراجع الاخلاق الفاضلة. لاشك ان تلك الاشارات الايجابية سوف تسهم في تبديد اجواء التوتر, وفي اشاعة مناخ تسوده الثقة والاحترام المتبادل بين الثقافات المختلفة, والى القبول بالآخر, حوارا وتواصلا وتعار فا, تحقيقا لقول الله عز وجل (يا ايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى, وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا, إن اكرمكم عند الله اتقاكم) .

Email