الاحتفال بالهزيمة.. أم بعودة الروح: بقلم - الدكتور طلعت شاهين

ت + ت - الحجم الطبيعي

الهزائم الكبرى التي تحيق بالامم في لحظات ضعفها تعتبر فرصة كبرى لاعادة بناء المستقبل على اسس صحيحة من خلال ازالة الركام الذي تخلفه تلك الهزائم بكل معانيها المختلفة, من افكار واشخاص ومؤسسات كانت قائمة وقت وقوع الكارثة , لان اللحظة التالية للهزيمة تشكل لحظة بداية حقيقية لتاريخ جديد, وليست وقتا للبكاء على الاطلال, لحظة الهزائم الكبرى مناسبة تماما ليعبر جيل جديد على جسد الجيل القديم حتى يبدأ البناء صحيحا لا علل فيه, او كما قال المفكر الاسباني (خوسيه ماريا خوفر) بعد كارثة هزيمة اسبانيا في الحرب الكوبية عام 1898, وخروجها النهائي من امبراطوريتها في بلاد العالم الجديد: (كانت الهزيمة لحظة مناسبة تماما لاعادة احلال الاجيال, وتجديد دماء الامة) .. (لقد جاءت ـ بعد هذه الكارثة ـ البرجوازية المتوسطة التي اصبحت على خلاف مع النظام القائم, ولها رؤيتها الخاصة في مسألة تصحيح الاوضاع السياسية والايديولوجية السائدة) . رغم ان هذه الطبقة البرجوازية الصاعدة في اسبانيا وقت كارثة كوبا التي حلت بها قبل عامين فقط من بداية القرن العشرين لم تكن تخلو من عيوب تشوب تكوينها بحكم التراث الذي اعتنقته وتربت عليه, الا انها كانت الطبقة المرشحة تاريخيا لعبور الازمة نظرا لاقترابها من الواقع الاجتماعي للوطن, وامساكها بزمام الامور في تلك اللحظة الحالكة, لذلك قدمت هذه الطبقة للوطن دفعة جديدة من المثالية, لكنها كانت في الوقت نفسه في مواجهة حادة مع (الطبقة العاملة) التي كانت في خطوات تشكيلها الاولى بفضل دخول الصناعة الحديثة الى البلاد, وبشكل خاص في منطقتي (قطالونيا) و(بلاد الباسك) التي كانت رائدة في مجال الصناعة, وفي قيادة الطبقة العاملة في البلاد ايضا, لذلك كان الصدام محتما, ولم يخفف من احتمالات الصدام ان تكون الطبقتان في مواجهة قوة ثالثة ترفض الرضوخ لحكم التاريخ, تلك القوة التي كانت متمثلة في القادة العسكريين للجيش المهزوم في الحرب. من هنا بدأت اسبانيا المعاصرة تدخل الازمة الخاصة بها نتيجة للكارثة التاريخية التي حلت بها, وحولتها من امبراطورية لا تغرب عنها الشمس ـ هذا التعبير اسباني وليس كما يردد البعض على انه بريطاني ـ الى بلد محطم لا يملك حاضرا, ومستقبله تغممه اشعة المجد الغاربة, حيث بدأ مفكرو الامة على اختلاف اتجاهاتهم في العمل بحثا عن مخرج حقيقي من هذه الازمة, مع استبعاد كامل لاي مسكنات يمكن ان تهيل التراب على جراح مفتوحة, فتصيب جسد الامة بقروح لا تشفى. ولان التغيير التاريخي في حياة اية امة كبرى لا يتم بين يوم وليلة, ودون اراقة دماء حقيقية ـ استبعادا لمقولات (الثورات البيضاء) التي يحاول البعض ان يؤكد انها ايضا تعتبر طريقا ممكنا للخروج من الازمات الوطنية الكبرى, فقد كان على اسبانيا ان تواجه مجموعة من العقبات الرئيسية والدموية في معظمها, لتجد لها مخرجا نهائيا من تلك الازمة الطاحنة, لان كارثة الهزيمة في المعركة الكوبية عام 1898 التي استطاعت خلالها جيوش الولايات المتحدة ان تنهي سيطرة الامبراطورية الاسبانية على امريكا اللاتينية والفلبين, تلك الكارثة كان لها ابطالها, بالسلب والايجاب, ابطالها بالسلب كانوا من العسكريين الذين لم تردعهم مسؤوليتهم عن الهزيمة على ارض معركة هي مهنتهم, بل زادتهم غطرسة فانقلبوا على المجتمع المدني يذيقونه عذابات رؤيتهم القاصرة لمعنى كلمة (الامة) , وكان ذلك المجتمع المدني المسؤول عما حل بالوطن من اهانة, واعتمد العسكريون في ذلك على ملكية وجدت نفسها تعيش محاصرة بين انعزالها في اوروبا, وبين اعتمادها على مجموعة من القوانين المتخلفة التي تربطها بماض فقد بريقه, اضافة الى الكنيسة التي كانت تعرف ان تاريخها ليس فيه ما يضمن لها السلامة في حال قيام ثورة شعبية, لانها كانت مرتبطة بالمؤسستين العسكرية والملكية, ووضعها مهدد لا محالة لو تمكنت الطبقات الجديدة من الوصول الى السلطة. في المقابل كان هناك ابطال ايجابيون يحاولون وضع امتهم على الطريق الصحيح, هؤلاء كانوا على وعي بصعوبة الازمة وامكانية الخروج منها, لكن جزءا منهم كان يرى انه من الممكن وضع الوطن على الطريق الصحيح باستخدام الطريق السلمي الذي كانوا يطلقون عليه في ذلك الوقت اسم (الديمقراطية) , على رأس هؤلاء كان هناك عدد من المثقفين اليساريين, فيما كان هناك من يؤمن ان التحول في وضع البلاد الراهن لا بد وان يكون عبر طريق صعب مخضب بالدماء, وهذا الجانب كانت تقوده المنظمات والنقابات العمالية في المناطق الصناعية والمدن الكبرى, والتي كانت على اتساق مع الحتمية التاريخية في ذلك الوقت, الذي كان يشهد تحولا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا عالميا. بدأت المواجهة بين الجميع, الجيش يحاول استخدام الملكية المنهارة درعا له ليعبر عن احساسه بمهانة الهزيمة بتحويلها الى اهانة للمجتمع المدني, وبالمقابل كان السياسيون (المثاليون) يضعون النظريات والحلول الرزينة, فيما كانت الطبقة العاملة تحاول ان تخرج من الازمة بتحويل طبقتها الى طبقة مثقفة معدة سياسيا لقيادة البلاد في وقت كانت فيه تلك الايديولوجية صاعدة في العالم كله. لكن توزيع ادوات القوة كان غير عادل بالمرة, الجيش بما يملك من سلاح وعتاد عسكري كان على رأس الجميع, خاصة بعد ان استعاض عن هزيمته العسكرية بالمواقع التي كان يحتلها في الريف المغربي, والذي قدمها له المجتمع الدولي لمواجهة امكانية احتلال بريطانيا منفردة لجانبي مضيق جبل طارق, هذا الوضع المتفجر كان يحد من التحرك السلمي المثالي الذي كان يحلم المثقفون بقيادته نحو خلق المجتمع الجديد في البلاد, فكانت النتيجة المأساوية القمع الذي مارسته الملكية باستخدام الجيش, ذلك القمع الذي بدأ عام 1917 في مواجهة بين الجيش والعمال في برشلونة, لينتهي الامر الى دكتاتورية عسكرية قامعة بقيادة الجنرال (بريمو دي ريبيرا) عام 1923. لكن دكتاتورية العسكر بقيادة (الجنرال بريمو دي ريبيرا) لم توقف حركة التاريخ, ولم تمنع من الوصول الى النتيجة النهائية التي وصل اليها الوضع في اسبانيا في اوائل الثلاثينات بانتصار اولي للسياسيين المثاليين, الذين تمكنوا من الوصول الى الحكم الديمقراطي عبر استفتاء شعبي انهى الوجود الملكي متطلعا الى حكم جمهوري برلماني, الا ان تلك الجمهورية قامت تحت ظلال التهديد العسكري الدائم لجنرالات الجيش, الذين تحصنوا في المستعمرة المغربية, ورفضوا انتقال السلطة الى مجموعة من (الرعاع) حتى لو كان رئيس الوزراء ثم بعد ذلك رئيس الدولة (مانويل اثانيا) من كبار مثقفي الامة, ومن كبار الحريصين على تجنيب البلاد حمام الدم المطلوب لوضع التغيير موضع التنفيذ. كانت الحكومة التي شكلها (المثاليون) تعيش على حافة هاويتين, الاولى الحركة العمالية المطالبة بدورها الذي يساوي حجمها الحقيقي في الوطن, والرافضة للدور البرجوازي في السياسة, والثانية للجيش الذي تمحور حول عدد من الجنرالات الذين تحصنوا في ما تبقى من مستعمرات الريف المغربي. لذلك لم يكن ممكنا للحكومة المثالية ان تستمر الى ابعد من سنوات قليلة عاشتها في قلق, مما منعها من تنفيذ برامجها الادارية لتحديث اجهزة البلاد, والاجتماعية التي تفرضها عليها انتماءاتها كحكومة ممثلة لاغلبية لا تملك شيئا, فكان الفشل مصيرها. لكن تطبيق حكم الاعدام على هذا الفشل كان على يد الجيش الذي قرر ان يضع نفسه على رأس قيادة الامة باسم (الوطنية) , في مواجهة (الشعب) المتمرد في رأي الجنرالات, الجنرال فرانكو نعت قواته باسم (الوطنيين) وصم عدوه الوطني الحقيقي بلقب غريب (الحمر) لان الاغلبية من مؤيدي الجمهورية كانوا من الاشتراكيين والشيوعيين. وبدأت الحرب الاهلية عام 1936, لتنتهي الى دكتاتورية عسكرية استمرت حوالي اربعين عاما بفضل خوف اوروبا من انتشار الحركة الثورية التي كانت البديل الوحيد لتلك الدكتاتورية في اسبانيا. في هذا المناخ الناشىء عن الكارثة الكبرى في حياة اسبانيا كان مولد ثلاثة من كبار كتابها المؤثرين في تاريخها المعاصر, في العام نفسه الذي حلت فيه الكارثة, ليكونوا شهودا على الجهود المبذولة للخروج من المأزق, ثم مشاركين في صناعة الخطوات الاولى نحو العافية, وفي الوقت نفسه ضحاياها على طريق التغيير, وان كانت المأساة وحدها من نصيب احدهم. في عام 1898 ولد (خيثنتي اليكساندره) و(داماسو الونسو) و(فيدريكو جارثيا لوركا) , ليحفظ التاريخ لهم معا دورا هاما وملحوظا في تشكيل عقل تلك الامة المنهارة, فكونوا مع عدد آخر من ابرز المفكرين والكتاب البذرة الاولى لما اطلق عليه المؤرخون اسم: (جيل 27) , واعد التاريخ كل منهم لدور خاص به, رغم مسيرتهم المشتركة منذ البدايات الاولى لهم. (فيثنتي اليكسانده) شارك في وضع اللبنات الاولى لذلك الجيل شاعرا ومفكرا, وتوج التاريخ مسيرته بجائزة (نوبل للاداب عام 1977) , بعد ان ترك بصماته شاعرا على الاجيال التالية التي حرمها المنفى والاغتيال من التعرف على غيره من شعراء اسبانيا الجمهورية. كان دور (داماسو الونسو) مهما في تغيير التفكير النقدي في اسبانيا, منطلقا من اعادة تحليل شعر العصر الذهبي, وبشكل خاص شعر (جونجورا) , فكان تحليله بمثابة تشكيل روحي جديد انطلاقا من عظمة لحظة تاريخية ماضية, ورغم انه كتب شعرا لا يقل اهمية عن شعر غيره من ابناء هذا الجيل, فكان كتابه الشعري (ابناء الغضب) من اكثر الكتب تأثيرا على الجيل الحالي, وعمله استاذا في الجامعة كان نوعا من التعليم المباشر لاجيال عديدة, الا ان التاريخ يحتفظ له بمكان بارز كمفكر ناقد. اما الدور الاكثر مأساوية احتفظ به التاريخ للشاعر الخالد (فيدريكو جارثيا لوركا) , الذي لم تنجح الاجيال التالية في تخطي انجازاته, سواء في الشعر او المسرح او الموسيقى, والفنون التشكيلية والدراسات الشعبية ايضا. رغم ان (فيثنتي اليكساندره) و(داماسو الونسو) ظلا على قيد الحياة لتتعرف عليهما الاجيال التالية, ومارسا دورا مهما في الحياة العامة رغم وطأة الدكتاتورية, الا ان (فيدريكو جارثيا لوركا) الذي رحل مبكرا كانت علاقته بتلك الاجيال الاقوى,والاكثر حميمية, والاكثر بقاء, وكما يقول احد الكتاب المعاصرين: (تحدثت مع اليكساندره, وكاتبت داماسو الونسو, الا ان لوركا كان الاقرب الى من الجميع, لانني وجدته بين يدي في هيئة كلام مكتوب,واحتفظت به في مكتبي في ركن بارز) . لذلك فان الاحتفالات التي تقيمها اسبانيا طوال هذا العام بجيل الثورة الحقيقي, خاصة فيدريكو جارثيا لوركا, لم يكن في الحقيقة سوى احتفال بالهزيمة التي كشفت عن داء الامة الاسبانية الحقيقي,واكتشاف طريقها نحو استردادها لعافيتها, اسبانيا تحتفل هذا العام بتلك الهزيمة التاريخية لا لتفتح جراحها من جديد, ولكنه احتفال ايضا بعودة الروح الى الامة, التي تحاول ان تؤكد للاجيال الجديدة ان تلك الكبوة لن تعود مرة اخرى, من خلال تذكيرهم بتلك الفترة السوداء في تاريخها, لان امة بلا ذاكرة, امة لا مستقبل لها. كاتب مصري مقيم في اسبانيا*

Email