سوق السلاح السوداء عائق أمام التنمية ـ بقلم: محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

ان الأخطر في مجال تلك السوق الشريرة السوداء ان ترويج الاسلحة يتم على أساس مقايضة السلام مقابل الموارد الطبيعية.. بمعنى انك تحرم البلد من رأس ماله الطبيعي .. مقابل أدوات الفتك والتدمير والتخريب مسكين هذا العالم الذي نعيش فيه.. كم دفع ثمنا باهظا ايام الحرب الباردة التي ظلت (مستعرة الاوار) طيلة اربعة عقود بين المعسكرين الشرقي والغربي. وعندما آذنت الحرب الباردة الى نهايتها, وبدأ العالم يتخيل, مجرد تخيل, أنه جاء الآوان لكي يستريح, اذا به يواصل دفع الثمن ربما اضعافا مضاعفة, ذلك لان انتهاء الحرب الباردة اصبح معناه تحجيم جيد بين المعسكرين اللدودين سابقا, ومعناه احالة مئات الاطنان من الاسلحة التي دفعت فيها كل من موسكو وواشنطن دم قلبها لزوم التحديث والتطوير.. وايضا التكديس ثم هاهي ذي وقد باتت مطروحة في اسواق سوداء بالتهريب, او اسواق رمادية في صفقات تقوم بها وكالات أو مؤسسات خاصة تمارس أعمالها مستترة بقوانين او بالادق بثغرات في تلك القوانين, ثم في اسواق لا هي بالرمادية ولا هي بالسوداء, اسواق كالحة اللون كئيبة المظهر تقوم على امرها هذه الحكومة او تلك قد لا يكون عليها من غبار, ولكن الغبار الذي يعتريها رغم مشروعيتها الظاهرة او الشكلية يتمثل في انها تؤدي الى اذكاء نيران النزاعات الداخلية وتأجيج لهيب الحروب الاهلية وخاصة في افقر بلدان العالم واكثرها مسغبة واشدها احتياجا الى التنمية بدلا من الحرب, والى رغيف الخبز بدلا من المدفع الرشاش. أخطر معوقات التنمية وبمناسبة قضية التنمية, فقد أثبتت الاحصاءات والمعلومات المتاحة في كبريات معاهد ومراكز دراسات الاسلحة, ان اخطر ما يعوق مسيرة التنمية هو اشتعال الصراعات الأهلية وأسبابها في البلدان النامية ــ فلنقل صراحة المتخلفة والفقيرة ــ اسباب جاهزة ومعروفة بل ويمكن التنبؤ بها سلفا اذا ما احسن المرء قراءة خريطة الواقع في تلك البلاد ما بين اختلاط خطوط الحدود وتقسيمات المياه ومواقع الموارد وتلك تركة موروثة عن عهود السيطرة الكولونيالية ــ الاميريالية, في تلك الاقطار, وما بين الثارات والعداوات الموروثة بدورها بين القبائل والعشائر, اضف الى ذلك, من فضلك ان شعوب تلك الاقطار التاعسة تخلصت من نير الاستعمار الغربي, كي يسلمها ذلك الى قبضة الاستعمار الوطني (تأمل المفارقة التاريخية!) متمثلا في نظم القمع والاستبداد وفساد العسكرتاريا وفشل تلك النظم الانكشارية في تحقيق التنمية بما ادى اليه ذلك من تفشي البطالة وتدني معدلات الناتج القومي المحلي واتساع ظاهرة تهميش القوى الاجتماعية الاساسية لحساب نخب ظلت طافية على سطح تلك المجتمعات وقد احتلت مواقع الصفوة, لا بفضل ابداعاتها ولا طاقاتها الفكرية او قدراتها العلمية (على نحو ما تتسم به عادة الطبقات الوسطى البانية للتقدم في اي مجتمع صحي وسليم) ولكن بحكم اقترابها عشائريا او مصلحيا او انتهازيا من مواقع السلطة مكامن النفوذ.. هذا كله فيما تزداد الفئات الغاطسة وهي قوام تلك المجتمعات الفقيرة وعماد القوى العاملة المنتجة بين صفوفها تظل تهوى الى حيث قاع الحرمان والاستعباد والتمييز والقهر, (مصطلحا الفئة الطافية والفئة الغاطسة من ابداع استاذنا وصديقنا الدكتور رشدي سعيد في توصيفه او لتشخيصه لادوار مجتمعاتنا المعاصرة). واذ ترتطم تلك القوى المهمشة بالقاع, يحدث ارتطامها دويا هائلا قد ترتج به جنبات البنية الاجتماعية وقد تأتي زلزلته على شكل تقلصات وتشنجات ظاهرة او باطنة في الجسد الاجتماعي العام مجسدة في الارهاب او في اللا مبالاة او في عنف وخشونة يشوبان السلوك والمعاملات اليومية واحيانا في جلافة وسوقية تصيبان البنى الفوقية في المجتمع, تلك التي يجسدها رد الفن والفكر والابداع الثقافي بشكل عام. الشيزوفرانيا آفة العالم انظر الى مكان ومواقع العنف المسلح في امريكا اللاتينية وامريكا الوسطى, وفي مواقع شتى من افريقيا (الجزائر شمالا ــ الى رواندا او انجولا او سيراليون... الخ) ولا تغمض العين ــ مجاملة او تجاهلا ــ عن عنف الجماعات المسلحة داخل اعتى الدول واكثرها تقدما (الجيش الايرلندي في الجزر البركانية ــ الباسك في شمال اسبانيا ــ الجيش الآري العنصري في امريكا ثم اضف الى هذه الامثلة وهي مجرد امثلة ليس الا حالات العنف والصراع المسلح بين جمهوريات الاتحاد السوفييتي سابقا ناهيك عما تشهده شبه القارة الهندية وما يتوقع لها ان تشهده في المستقبل القريب للأسف من نزاعات...), تلك صورة مؤسية للغاية لعالم يستعد لدخول قرن جديد وألفية زمنية ثالثة بعد الميلاد, عالم شديد التناقض بل هو مصاب بمرض الشيزوفرانيا في الفكر والحسابات والسلوكيات يبدع اروع السمفونيات ومعها اشد الاسلحة فتكا بحياة الانسان ويرنو الى استيطان النجوم في الفضاء ثم لا يتورع عن التسبب في اصابة هذا الفضاء بالتلوث المنقول مع الحدود عبر الامصار والقارات ثم من كوكب الارض الى الغلاف الجوي المحيط بالكوكب العابر المهيض ومن ثم يرتد الينا احتباسا حراريا وتحدق اخطاره بصحة البشر وتتهدد عواقبه حياة الانسان والنبات والحيوان على السواء, وتستوي الحكومات والمؤسسات الرسمية العامة. تجار السلاح حكومات وشركات وهل اتاك مثلا حديث التقديرات التي توصل اليها مؤخرا معهد الامم المتحدة لبحوث نزع السلاح وهو اكبر هيئة دولية موثوقة في هذا الصدد وتتخد مقرها في جنيف؟ لقد اكد المعهد ان هناك اكثر من 300 شركة او مؤسسة لانتاج الاسلحة الصغيرة موجودة في 52 بلدا وذلك في احصائية تعود الى عام 1994 ومن ثم فهي تسجل زيادة في انتاج هذه النوعية من ادوات ومعدات الدمار بنسبة 25 في المائة عن عقد الثمانينات. واذا فهمنا وسلمنا بالخطر الذي يلحق بالحياة البشرية من جراء هذه الكميات المنتجة من الاسلحة الصغيرة فان اهم ما يطالعنا او بالادق يروعنا في هذا السياق حقيقة بازرة تقول بالتالي: ان السوق السوداء في ترويج وتبادل تلك الاسلحة لا تتعامل على اساس بيع السلاح مقابل اموال ومن ذا الذي يأمل في ملايين الدولارات يقتضيها من مسلحي رواندا او حكومة بوروندي او مقاتلي جماعة بونيتا في انجولا ان الاخطر في مجال تلك السوق الشريرة السوداء ان ترويج الاسلحة يتم على اساس مقايضة السلاح مقابل الموارد الطبيعية من هذا البلد او ذاك والمعنى انك تحرم البلد من رأس ماله الطبيعي ومواده الخام او ثروته الحيوانية او النباتية وتقدم له مقابل هذا الرأس مال الثمين - وبعضه غير قابل للتجدد ـ ادوات للفتك والتدمير والتخريب وكأنك تحرمه في هذه الصفقة الكاسبة من جانبك والحمقاء الخاسرة من جانبه ـ من ادوات وامكانات التنمية في الحاضر في مقابل ادوات وتقانات تستهدف في بداهة ضرب آفاق هذه التنمية وتدمير مقوماتها في الحال وايضا في الاستقبال. على ان الصفقة ليست كاسبة في كل حال على مستوي المصدرين فهم من يقدم سلاحا في مقابل مخدرات.. والكاسب هنا هم تجار الموت الاحمر وتجار السموم البيضاء على السواء والخاسر في الحالين هو الشعب الذي يقوم بالاستيراد لكي يموت ابناؤه في الصراعات الداخلية او الحدودية وايضا الشعب القائم بالتصدير الذي تجتاح ابناءه ايضا آفة المخدرات وقد يتوسع هذا الاجتياح ليشمل شعوبا اخرى ليس لها في الثور ولا في الطحين كما يقول المصريون في تعبيرهم الدارج المعروف. بين السلاح والالماس في هذا السياق اجرى البروفيسور و(تايلور استاذ الاقتصاد في جامعة مونتريال في كندا دراسة في غاية الاهمية حول مبيعات ــ بالأدق مقايضات الاسلحة الصغيرة وسوقها السوادء وخاصة على مستوى العالم الثالث ونشر دراسته تحت العنوان التالي: هيكل وعمليات السوق السوداء الحديثة في الاسلحة الصغيرة, ومن اهم الملاحظات التي اوردتها الدراسة المذكورة مايلي: ان كثيرا من التجارة الدولية المشروعة (يقصد تجارة التهريب) في سلع مثل الماس والاحجار الكريمة والعاج والاخشاب الثمينة (وبالطبع) المخدرات فضلا عن الاثار النادرة المنهوبة من مصادرها ومواقعها الاصلية انما تقع عند المنبع تحت سيطرة الجماعات المنشقة المتحاربة او على الاقل تخضع لارهابها او ابتزازها مقابل حمايتها وتسهيل تلك التجارة غير المشروعة وبقدر ما ان العالم يشهد نموا في الاقتصاد الدولي ـ الباطني (حسب تعبير الاستاذ الكندي) او هو اقتصاد تحت الارض فان هذا التوسع في ذلك النمط الغريب المستجد من الاقتصاد يكفل لتسهيل عمليات الامداد بالاسلحة الصغيرة فيما ييسر للجماعات المتحاربة والعاملة ايضا تحت ارض السرية او التمرد كافة السبل التي تتيح لها دفع اثمان تلك الاسلحة. ثم هناك مصدر آخر للحصول على الاسلحة الصغيرة. وهو مصدر غريب ـ غرابة الظواهر غير المسبوقة التي بتنا نشهدها في عصرنا. وهو غريب بقدر ما أنه مباشر وحاسم ان شئت التعبير, ذلك هو هجوم الاهالي من منطق اليأس والتفكك وترهل ومن ثم تسيب السلطة الناظمة للمجتمع, على مخازن ومستودعات السلاح كي يعمل فيها النهب يد الاهالي في ظل الفوضى وانعدام الضبط والربط وانهيار النظام العام. ومن البديهي ان يكون النهب للاسلحة الصغيرة (هل رأيت يوما لصوصا ينهبون ربابة ـ اللهم الا في امريكا؟) . ان الاستاذ مايكل رينر في دراسته التي احلنا اليها سابقا وعنوانها الاسلحة الصغيرة واثارها. كميات من الاسلحة والذخائر الكبيرة يأتي بالمثل على هذه الفوضى التي نقلت الاسلحة الصغيرة من عنابر مستودعات الدولة الى ايدي الدهماء ومنها الى مخازن اباطرة الحرب وتجار ادوات الهلاك والمثل معاصر وهو البانيا التي شهدت في العام الماضي انهيار الجهاز المصرفي وانكشاف اضاليل مؤسسات الاستثمار (مشاريع الريان والسعد والهلال ولكن بالالباني هذه المرة!) وهو ما اضاع على عامة الناس تحويشات العمر واذا لاحت في عيون الناس في تيرانا وغيرها من انحاء البانيا ــ الشيوعية سابقا ــ اشباح العوز والفاقه دع عنك شياطين ماتعرضوا له من تزييف وتدليس وسرقة وخداع فقد هبت جموعهم الغاضبة والبائسة في مظاهرات شوارع سرعان ما تحولت بفعل حركة الدهماء الى العنف فاتجهت الى مستودعات الجيش والشرطة ونهبت ماكان فيها من كميات الاسلحة والذخائر حتى لقد بلغ المنهوب حسب احصاءات وزارة الدفاع الالبانية في ذلك الحين نحو 800 الف قطعة سلاح بالاضافة الى نحو 1.5 مليار رصاصة.. ومن ثم يضيف الاستاذ مايكل رينر فلم تمكن عدة اسابيع الا واصبح سكان البانيا وعددهم 3.5 ملايين نسمة مسلحين جميعا عن بكرة ابيهم, نعم عن بكرة ابيهم بمعنى ان وزارة الدفاع الالبانية افادت ايضا ان اصبح كل فرد في البلاد يحمل قطعة سلاح خاصة به ــ يستوي في ذلك الرجال والنساء والاطفال. النار ومستصغر الشرر على ان مثل هذه الاخطار لا تقتصر على سكان البلد المعني.. فالاسلحة الصغيرة ــ كما اسلفنا في احاديث سبقت ــ سهلة النقل ميسورة التهريب عبر الحدود, فضلا عن كونها زهيدة الثمن وبسيطة من حيث التركيب والتفكيك والتدريب والاستخدام وحالة البانيا نموذج يجسم الخطر المحدق الناجم عن مثل هذه الظروف..وهنا يضيف الاستاذ رينز قائلا: ــ ورغم ان الوضع في البانيا اهدأ حاليا الا ان الحالة مازالت ابعد عن الاستقرار هناك عصابات مدججة بالسلاح مازالت تروّع اجزاء شاسعة من البلاد. وهناك علميات التهريب والاسواق السوداء التي ادت الى بيع كميات ضخمة من الاسلحة المنهوبة لقطع ايدي جماعات السكان من اصل الباني الذين يعيشون في البدان المجاورة مثل مقدونيا وكوسوفو وايضا في اليونان نفسها. ومعظم النار ــ كما هو معروف ــ من مستصغر الشرر. ولا يستهين احد بالشرر المحدود الذي قد يتطاير من الاسلحة الصغيرة فالعالم لا ينسى ان ادل بروفة للمذابح الجماعية التي تعرضت لها البشرية وكان اسمها الحرب العالمية الاولى انما اشتعلت من سلاح صغير.. مسدس قديم اطلق رصاصاته طالب صربي متعصب وراح ضحيته ارشيدوق النمسا فرانز فرديناند.. كان ذلك يوم 20 يونية عام 1914 وفي مدينة سيراييفو بالذات.. وكانت شرارة اضرمت النار في اوصال العالم على امتداد اربع سنوات

Email