المثقفون المغاربة والسياسةـ بقلم: عبد القادر الشاوي

ت + ت - الحجم الطبيعي

اذا صح ان هناك عزوفا عن السياسة, فقد يكون مرده الى اعتبارات تتعلق بمفهوم العمل السياسي المنتهج المتسم في غالب الاحيان بالحلقية والتكتم والتوتر. وفي هذا الاطار يجوز الحديث عن عزوف مؤكد حيال اشكال الممارسة السياسية والمنطق المتبع في المجال السياسي العام . ويعود الامر في اعتقادي الى (التحول) الذي اصاب وظيفة المثقف من جهة مثلما اصاب اسلوب الممارسة السياسية من جهة اخرى. اذ يمكن القول باختصار ان مفهوم المثقف (الملتزم) الذي تبلور في فترة الستينات بفعل انجذابه الى الحقل السياسي المعارض وتعلقه بشعارات التغيير والثورة وتعبيره عن الاشواق الشعبية... الخ, قد اخلى سبيله في ظل متغيرات اخرى ترتبط بالتجربة الديمقراطية المنتهجة في المغرب منذ قرابة ربع قرن, من حيث اشاعة جوا من الاختلاف والتعدد, لبروز مفهوم المثقف (البراغماتي) الساعي الى بناء قيم فردية مرتبطة بميدان انتاجه الفكري. فالتحول الذي اصاب الوظيفة هو تحول في الارتباط وكذا في الاختيار والتوجه. يضاف الى ذلك ان انهيار بعض العقائد الايديولوجية الكبرى التي كانت باستمرار مراجع (كلية) لتكوين المعرفة, كان ادعى الى بروز اهمية السؤال واعمال النقد والاعتداد بالاختلاف وسوى ذلك مما يمكن اعتباره فضاء (ليبراليا) للممارسة الثقافة. ترتبط الحركية السياسية الجارية الآن في المغرب بفكرتي النمو والاصلاح, ضمن مناخ الحرية النسبية افضت الى تخلق اشكال مدنية متنوعة لم تكن معروفة من قبل. ومما يلاحظ على الحركية السياسية المذكورة انها تفتقد, كلا او بعضا, الى مشروع تنموي وثقافة اصلاحية, وهو ما يجعل تلك الحركية عبارة عن سلسلة من الاستجابات الظرفية للمتغيرات التي تطرأ على هذا الصعيد او ذاك من اصعدة العمل والممارسة. يضاف الى هذا ان المجال السياسي, بحكم خطابه التعبوي وكذا بسبب خاصية وطبيعية الفاعلين السياسيين المتصدرين لحركيته يبدو مجالا لافظا لجميع الاختيارات الثقافية المؤسسة على تصورات غير نمطية او كلاسيكية في التعاطي مع مختلف التحولات الحادثة في البلاد. وهو ما ساهم في تكريس ما اسميته بأدوات العمل المدني التي صارت بمثابة منافس لاشكال التأطير الاجتماعي الموروثة او الجديدة القائمة على الزبونية والاغراء. ويبدو لي ان محددات التطور المستقبلي تؤثر من الآن على نوع من الانقسام الحاد بين حركيتين متباعدتين في الواقع: حركية المجتمع السياسي التي تميل الى الانكماش بحكم التناقضات الذاتية التي تعتمل في صفوف كثير من اطاراتها بسبب طبيعة بناها المكتفية بذاتها والصراعات الذاتية المثارة فيها, وبين حركية اخرى يمكن تسميتها بحركية المجتمع المدني الناهض, مع الاخذ بعين الاعتبار ما تشكو منه هذه الحركية, في الوقت الراهن, من امراض طفولية... الخ, ويظهر لي ان التنافر الملحوظ بين الحركيتين يعود, في المقام الاول الى صيغ التنافس المعروضة والظاهرة بينها على استمالة وتأطير الزبناء المحتملين. افهم من المجتمع السياسي مختلف الهيئات والمنظمات العاملة في حقل الصراع السياسي سواء في تعارضها او توافقها مع الدولة واجهزتها القائمة. ويمكن القول ان المجتمع السياسي مجتمع مساوم وله استراتيجية صراعية تسعى الى الدفاع وحماية المصالح القطاعية والسياسية والاقتصادية المرتبطة بمجال الممارسة التي تتوجة اليها وبنوعية الافراد الذين يدورون في فلكها. في حين يمكن النظر الى الثقافة كبنية مختلفة تنهض على مجموعة من القيم والتصورات والاوهام اللصيقة بوجود الافراد والجماعات. ويخيل الى ان علاقة المجتمع السياسي المغربي بالثقافة كانت على الدوام علاقة مرتبكة: علاقة استئناس حين يضيق المجال السياسي تحت وطأة المصادر او العسف... (كما كان عليه الشأن في الستينات) الخ, او علاقة تجاهل حين تتحول الثقافة الى منظور نقدي لاثارة الاسئلة وتقليب المواقف ونقد التصورات... الخ. والناظر في برامج الاحزاب السياسية المغربية يدرك مقدار غربتها عن الثقافة... كما ان عدد المثقفين النقديين الفاعلين في صفوف تلك الاحزاب لا معنى له بالمقارنة مع عددهم خارجها أو ضدها. ان العمل الثقافي في المغرب يتسم بالاجتهاد, وهو ذو منظور حداثي في كثير من جوانبه, على الاقل حين نلغي من اعتبارنا نوعا من الثقافة السائدة المتكئة على المحافظة واجترار القيم التقليدية. بيد ان المجال الثقافي يبدو في مطلق الاحوال, ضيقا لا اعتبار له على صعيد التنمية. ويضاعف حدة هذه الوضعية غياب البنيات الحقيقية للتطور الثقافي واستقالة الدولة من رعاية هذا المجال الحيوي والانفاق عليه من المال العمومي,مع انه على ارتباط حقيقي بالقيم الفكرية والروحية والمادية لعموم الناس, ومن الواضح انه بدون ايلاء الحقل الثقافي حقه من الاعتبار, وربطه ربطا مؤكدا بحلقات التنمية العامة عى صعيد المجتمع فان اي تحول سياسي ممكن لن يكون له اي اثر على مستقبل الثقافة في المغرب, او على الاقل سيكون اثرا ظرفيا زائلا بزوال المبررات السياسية التي احدثته.

Email