اليابان: امبراطورية اقتصادية بلا دولة كبرى: بقلم- د. شفيق ناظم الغبرا

ت + ت - الحجم الطبيعي

اذا كان الناتج القومي العام يعبر عن القوة الاقتصادية لدولة فان الناتج القومي لليابان هو الثاني بعد الولايات المتحدة ويساوي 18% من الناتج القومي في العالم , بمعنى اخر ان الناتج القومي الياباني يساوي مجموع الناتج القومي البريطاني والالماني, والفرنسي والايطالي مجتمعين بينما هو الثاني بعد الناتج القومي الامريكي الذي يساوي 24% من الناتج العالمي, لو عرفنا ان الناتج القومي الصيني لا يتجاوز 2.5% وان مجموع الناتج القومي لكل دول الشرق الاوسط لا يتجاوز 3.2% وان امريكا اللاتينية لا تتجاوز 16% وان كندا 2% لعرفنا معنى الناتج القومي الياباني الذي يمثل امة عاملة تعداد سكانها لا يتجاوز 120 مليون تعيش في جزيرة خالية من المواد الخام ومن الزراعة وتقوم في اعمالها على الاستثمار في التكنولوجيا والصناعة والعقل والعلم ودخل الفرد فيها هو الثالث في العالم. اليابان العاملة حققت معجزة في طريقة تجاوزها لهزيمة الحرب العالمية الثانية وفي طريقة انطلاقها اذ حولت نشاطها لطاقة اساسية صبت بشكل مباشر في نهضة آسيا: فتايلاند وتايوان وسنغافوره وكوريا ما كانت لتنهض لولا النموذج الياباني ولولا حجم الاستثمارات والمساعدات المالية اليابانية لهذه الدول, وقد اقترضت الشركات المحلية في آسيا من البنوك اليابانية 97 مليار دولار وهذا يشكل ثلاثة اضعاف قروضها الامريكية, بل في عام 1996 لوحده صبت الشركات اليابانية في آسيا ما لا يقل عن عشرة مليارات دولار استثمارات وفروع جديدة لشركاتها العملاقة, بل هناك اكثر من الف شركة يابانية في اندونيسيا لوحدها, والشركات اليابانية توظف اكثر من 7% من قوة العمل الاندونيسية. ان شركات مثل تويوتا وميتسوبيشي, هوندا, كانون, ننتندو, سوني, هيتاشي, نيسان وعشرات غيرها هي من القدرة اليوم على ضمان استمرارها واستمرار قوتها نحو القرن المقبل, فاليابان في القرن المقبل سوف يتمتع بقوة كبيرة وسيكون معه في هذا دول جنوب شرق آسيا التي ستنجح في تجاوز ازمتها الاقتصادية, ان اليابان في القرن المقبل سوف يعزز سيطرته الاقتصادية ودوره, فهو يصدر لاسيا لوحدها ما قيمته مائة وسبعون مليار دولار سنويا, ويتطلع لان تكون اجهزته متفوقة على الغرب والشرق. اليابان يبحث عن النبوغ والتوسع الاقتصادي واجادة لعبة الاستهلاك وذلك لتعميم بيع منتجاته, بل الواضح اليوم للزائر إلى اليابان انه يصنع كل شيء من الابرة الصغيرة إلى كل انواع الاستهلاك الممكنة إلى الآلات الثقيلة, وفي هذه الصناعة الكثير من الدقة التي يتميز بها اليابان. ولكن الذي وضح لنا في هذه الزيارة بالوقت نفسه ان اليابان لا يطمح على الاطلاق في المدى المنظور للتحول إلى دولة كبرى بالمعنى العسكري والسياسي, فبينما يستمر اليابان في موقع الدولة الثانية الاقتصادية في العالم (بعد الولايات المتحدة) الا انه يقاوم امكانية دفع ثمن سياسي من خلال التحول لدولة كبرى لديها مسؤولياته سياسية وعالمية وعسكرية, اذن اليابان ومن تجربة الحرب العالمية الثانية اخذ قرارا ضمنيا بعدم المشاركة في مسؤوليات عالمية تضعه في الضوء وفي المقدمة, وهذا ما يفسر تأخر اليابان في المبادرة لطرح خططها الاقتصادية لمساعدة اسيا في ازمتها الراهنة, انه بطيء في اخذ المواقف السياسية, وبطيء في التحرك للعب دور في الامم المتحدة, لانه تعلم من الحرب الثانية ان ثمن القيادة كبير ومدمر وان السعي نحو القيادة لا يبرر الثمن المادي والانساني الذي يدفع في سبيلها, بل ان المنطلق في العقلية اليابانية انه ما من دولة تصل لمصاف الدولة الكبرى الا وتتجمع عليها التحديات مما يساهم في تراجعها وسقوطها, ان الاستراتيجية اليابانية تقوم اساسا على البقاء قدر المستطاع بلا مسؤوليات سياسية عالمية, وبلا مسؤوليات عسكرية عالمية وألا تكون القوة الاولى بل ان تحتل الارض الواسعة والاساسية بين الاول والثاني: في هذا الجال لن يتعرض اليابان لمخاطر الحرب ولمخاطر السقوط التي تعرض لها في الحرب الثانية. لقد جير اليابان كل نظامه التعليمي إلى حالة تسمح له بانتاج شعب يعمل في كل الاوقات, ولقد انتج شعب قلما يبدع فرديا بقدر ما يبدع جماعيا, بل ان اي مراجعة مثلا للحاصلين على جوائز عالمية في مجالات شتى من شاكله جائزة نوبل لوجدنا ان عدد اليابانيين يكاد لا يذكر نسبة للامريكيين ونسبة لشعوب اخرى, وهذا يعود إلى ان النظام الياباني التعليمي لا يشجع على الابداع الفردي بل على الابداع الجماعي, وان عقيدة العمل اليابانية تجعل كل ياباني بمثابة قطعة عاملة في آلة كبيرة, وبينما نظام التعليم الامريكي ينتج مبدعين فرديين وقادة عالميين نجد ان النظام الياباني الاكثر صرمة والاقل تشجيعا على الفردية ينتج افرادا لا يشعرون بقيمة ذاتية بعيدا عن الجماعة وولائهم للشركة أو المؤسسة, في هذا اليابان يشكل نظاما خاصا ينتج منتوجا محددا وموازيا للنظام الامريكي ولكنه مختلف عنه في التوجه والاسلوب. ان طريقة الحياة في اليابان مازالت مرتبطة حتى اليوم بعقلية الجزيرة, وهي عقلية فيها الكثير من التكتم على شؤون اليابان وفيها الكثير من التضامن والتحزب والوطنية في التعامل مع العالم, فاليابان ليس بلدا سياحيا وهو لا يشجعها كثيرا, واليابان ليس متحمسا ابدا لجلب عماله غير يابانية للعمل على اراضيه بل تندر هذه العمالة في اليابان, واليابان ايضا ليس متحمسا لتعلم واجادة اللغة الانجليزية بل ان اليابانيين الذين يجيدون اللغة الانجليزية أو اية لغة اخرى اقلية محدودة, واليابانيون متحمسون للسفر لقضاء اعمالهم في خارج اليابان وهم اقل حماسا لمجىء اعداد كبيرة لبلادهم, بل ان هذه العقلية جعلت الكثير من الشركات الامريكية الكبرى غير قادرة على العمل في طوكيو كما تؤكد الاتفاقات الدولية, فكما يسمح لليابان بفتح شركات في الغرب والولايات المتحدة يسمح اليابان للاخرين بفتح فروع في طوكيو, ولكن هذه الشركات واجهت صعوبة وذلك لانها تعجز عن فهم طريقة سير الامور في اليابان كما انها تفشل في اختراق الوضع الياباني وذلك نتيجة تضامن اليابانيين وتعقد نظامهم, فمثلا يصعب معرفة ميزانيات واعمال الشركات اليابانية من المعلومات التي تنشرها وذلك لانها تقوم بذلك بطريقة مختلفة لا توضح الحقائق, اذن الجزيرة كتلة متضامنة وذلك لضمان تفوقها وعدم اختراقها وهي تنطلق من مسألة اساسية: لا موارد في اليابان سوى الشركات اليابانية والعلم والتكنولوجيا ولهذا يجب الا يسمح لاحد بالدخول لاختراق هذه القلعة المتينة. ولكن في زيارتنا التي استمرت اكثر من عشرة ايام يمكن الاستنتاج ايضا بأن اليابان بلد قابل للتغير, بل انه بلد التغير وذلك لانه يمتلك رؤية منفتحة لكل شيء حديث بالوقت نفسه يمتلك اعتزازا كبيرا باليابان وبتاريخها ولغتها, ان اهم عناصر التغير الراهنة متأثرة بحقائق الاقتصاد والعولمة القوية, فالشركات التي تعيد النظر بسياساتها الوظيفية بدأت تعيد تنظيم وضعها بطريقة تخلخل سياسة التوظيف مدى الحياة التي تشتهر بها اليابان, وهذا يعني ان مزيدا من اليابانيين سوف يفقدون اعمالهم لاول مرة, وهذا يعني انهم مضطرون للتأقلم مع عادة البحث عن عمل باستقلالية وعدم الارتباط بالشركة وكأنها الاسرة أو اهم منها, بل نجد ان المرأة ودورها قد صعد في اليابان بشكل اكبر في السنوات الماضية, فمثلا منذ عشرين عاما كان عدد الطالبات لا يتجاوز في الكثير من الجامعات 10% اما اليوم فهن يتجاوزن 40%, ومنذ 20 عاما كانت اغلبية النساء يبحثن عن الزواج والاستقرار الاسري, الان النسبة الاكبر يبحثن عن النجاح في مهنة اولا, كما ان 40% من النساء يعملن, من جهة اخرى نجد ان النظام الياباني الوظيفي كان ومازال يكافىء موظفيه وفق الاقدمية في العمل لا وفق الابداع والنبوغ, وهذا يعني ان الكثير من مدراء الشركات لا يتمتعون بامتيازات خاصة كما هو الحال في الشركات الامريكية, بل ان الكثير من المبدعين يعاملون مثل الموظفين العاديين مما يهدد بهجرة عقول يابانية إلى شركات غير يابانية, ان لهذا تبعات وتغيرات بدأت تصيب النظام الياباني, ان اليابان مضطر في المرحلة المقبلة لممارسة التغير, بل ان اليابان بدأ يبحث عن دور اكبر نسبيا في العالم وعن دور في الامم المتحدة, وعن انفتاح نسبي اكبر, ولكن سوف يبقى كل هذا في اطار النظام الياباني والطريقة اليابانية الخاصة التي شرحناها, اذ سيبقى اليابان يتجنب في المدى المنظور آفاق التحول إلى دولة كبرى بينما يحمي بقوة من خلال مزيد من الانتشار والتحديث اقتصاده العملاق وانظمته السياسية والاخلاقية والنفسية والاجتماعية. رئيس تحرير مجلة العلوم الاجتماعية- قسم العلوم السياسية- جامعة الكويت*

Email