أزمة مفتشين أم أزمة سياسة واشنطن الخارجية: بقلم - عادل لطيفي

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ بداية الأزمة الحالية بين العراق وبين لجنة التفتيش الدولية يونسكوم ومن ورائها واشنطن, كانت الشكوك تحوم حول خفايا هذه الأزمة وحول النوايا الحقيقية للولايات المتحدة من وراء التصعيد العسكري بالرغم من الرغبة الدولية في ايجاد مخرج دبلوماسي للازمة . فقد عبرت اغلب البلدان عن رغبتها في بلورة حل سلمي وبالتالي معارضة واشنطن سواء بشكل صريح او من خلال الفتور الذي ابدته في قبول الحل العسكري. وفي الأونة الاخيرة بدأت تتأكد ان المسألة تتجاوز بكثير مجرد اختلاف حول امور تقنية مع اليونسكوم لتشمل فضاء العلاقات الدولية عموما وذلك من خلال الانقسامات التي ظهرت في مجلس الامن, اي بين القوى الكبرى, او على صعيد الدول الاخرى. وتدعو هذه المعطيات الى طرح سؤال قد يتجاوز الابعاد الظرفية للمسألة ليتعمق في واقع السياسة الخارجية الامريكية التي يبدو وانها تخفي شيئا عن عجزها وراء ازمة المفتشين. فهل ان الأزمة فعلا ازمة مفتشين ام انها ازمة سياسة واشنطن الخارجية؟ يبدو التوجه نحو التصعيد العسكري هدفا في حد ذاته كان مقررا منذ فترة من قبل الدوائر الفاعلة في السياسة الامريكية, وما مشكل التفتيش الا الغطاء. وتتأكد صحة هذا التفسير من خلال هشاشة التبريرات التي تقدمها واشنطن كتغطية لخيارها العسكري. اذ يبدو من غير المعقول ومن غير المنطقي الموازاة بين رفض بغداد السماح للمفتشين الدوليين بزيارة بعض المواقع السيادية, وهي مسألة تقنية, وبين الاصرار على الضربة العسكرية كحل وحيد من وجهة النظر الامريكية. ولو صح التقابل بين مثل هذين المسألتين واصبح ذلك قاعدة التعامل في العلاقات الدولية فالاكيد ان التوترات ستعم بشكل لن يجد معه مجلس الامن لا الوقت ولا الامكانيات للتصرف فيها. وبكثير من السخرية والاستهزاء من الرأي العام العالمي يقول المسؤولون الامريكيون ان غاية الضربة العسكرية هي القضاء على اسلحة الدمار الشامل العراقية التي تهدد جيرانه, وكذلك القضاء على قدراته على انتاج هذه الاسلحة. ولا تخلو مثل هذه التصريحات من المغالطة والتناقض والغموض. غير ان سلاح واشنطن الوحيد يتمثل في التهويل الاعلامي بحكم ان ما يهم المسؤولين الامريكيين فهلا هو الرأي العام الداخلي. وتكمن المغالطة هنا في كون الحديث عن تدمير الاسلحة العراقية هذه يفترض تأكد واشنطن من وجودها فعلا. وهنا يطرح السؤال حول تفسير توفر مثل هذه المعلومات لدى واشنطن وغيابها لدى مجلس الامن بالرغم من ان هذا الاخير هو المكلف بمتابعة مسألة نزع السلاح العراقي وهو الذي يتجول مفتشوه في كامل العراق من دون ان يؤكدوا بالاثباتات وجود اسلحة اخرى مجهولة. وتدعم تصريحات رئيس المفتشين ر. باتلر حول امتلاك العراق لاسلحة قادرة على تدمير تل ابيب, الشكوك في حقيقة الموقف الامريكي. اما التناقض فيتجلى في التعارض بين التأكيد على ان الضرب ستكون ناجحة الى ابعد الحدود في القضاء على اسلحة الدمار الشامل العراقية وبين القول بان الضربة ستشمل مواقع يشتبه في استغلالها اسلحة الدمار الشامل العراقية وبين القول بان الضربة ستشمل مواقع يشتبه في استغلالها لاخفاء هذه الاسلحة. فبين التصريح الاول الذي يفترض التأكد التام من كمية ونوعية الاسلحة ومن مواقع اخفائها والقول ان المواقع التي سيتم ضربها يشتبه فيها لا اكثر, هناك بون شاسع. ويظهر الغموض في الحديث عن الرغبة في تدمير قدرات العراق في صنع اسلحة الدمار الشامل. وتجسد كلمة القدرات كل هذا الغموض. فان كان المقصود القدرات المادية, اقتصادية منها او تقنية, فواقع العراق الحالي ابعد ما يكون عن القدرة على صنع الاسلحة بسبب الحصار وكذلك بسبب المراقبة الدقيقة من طرف لجنة اليونسكوم. اما اذا كان المقصود القدرات البشرية اي العلمية فلا وجود لوسيلة لغلق مفلها سوى القضاء على العقول التي تقف وراء برنامج التسلح العراقي, ولا ارى ما الحل الذي يراه الامريكيون ناجعا لمثل هذا الوضع, لكن يرجح ان واشنطن تريد الابقاء على هامش من الغموض قد يكون ضروريا في اختلاق الذرائع للدفاع عن المصالح الامريكية. لقد أدى التضخيم الامريكي لمسألة المفتشين, وعدم القدرة على الاقناع إلى النفور والفتور من طرف اغلب البلدان تجاه موقف واشنطن, وتأكد ذلك من خلال عجز المبعوثين الامريكيين على اقناع الاطراف التي كانت حليفا رئيسيا للولايات المتحدة سنة 1991, ومن وراء ثغرات الخطاب الرسمي الامريكي في خصوص العلاقات الدولية يمكن ان نتبين عجز السياسة الخارجية الامريكية في التعامل مع قضايا مثل مسألة الشرق الاوسط, ويظهر هذا المأزق في اتساع رقعة المعارضة لهذه السياسة, فالموقف الامريكي من كوبا وليبيا وايران, بالاضافة إلى العراق, وضعت البلدان الاخرى في موقف حرج تجاه شعوب البلدان المذكورة, كما اصبحت السياسة الخارجية الامريكية تسبب الكثير من الاحراج للمنظمة الدولية, اذ بدت هذه الاخيرة آلة طيعة في يد الخارجية الامريكية, تنشط بفاعلية اذا اقتضت المصلحة الامريكية ذلك كما يغيب وجودها اذا ارادت واشنطن ترهيب تغييب المنظمة من خلال الضغط على كوفي عنان باتجاه منعه من المساهمة في حل الازمة, كما انها تلوح علنا في الفترة الاخيرة برفضها اي حل يتعارض والمصالح الامريكية التي يجهل العالم اغلبها, فالعجز عن الاقناع يعني عجز الخطاب الذي يعني بدوره عجز المؤسسة. باحث تونسي *

Email