في الأزمة الجزائرية: لنبتعد عن الأحكام المسبقة والتعميمات المجانية: بقلم - الدكتور محمد قيراط

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ بداية الازمة في يناير 1992م تكاثرت وتعددت المقالات والتحاليل والبرامج التلفزيونية المختلفة حول المشكلة وابعادها وخلفياتها والحلول المقترحة. وعبر اخواننا العرب عن حسرتهم واسفهم لما يجري في الجزائر لأن الاحداث والمجازر فاقت كل التخيلات وكل ما يستطيع ذهن الانسان ان يتوقعه . وفي ظل تعقد الازمة وتشعبها وقلة المعطيات والمعلومات كثرت المساومات والمبالغات والتعميمات وبعض الاطروحات الساذجة التي تعتبر شتما وسبا لذكاء الانسان. والمقلق في الامر ان كل واحد كان ينتظر من المساهمات والتحاليل اضافات لحل الازمة والمصالحة بين الاطراف والنوايا الحميدة لمعالجة الازمة, لكن مع الاسف الشديد لوحظ ان الكثير من المقالات ومن التحليلات طغت عليها العاطفة والحساسية الزائدة. فجاء الكثير من التحاليل يتحسر على المشروع الاسلامي الذي لم ينجح ليس في الجزائر فحسب وانما في العديد من الدول العربية وغير العربية, لأن هذا المشروع لم يأت ببديل وبجديد. فما لم يتحقق في غير الجزائر اراده الاخوان ان يتحقق وبالقوة والعنف والتزييف والمغالطة والخداع في ارض المليون شهيد. جاء العديد من المقالات والتحاليل ليرثي الجبهة الاسلامية للانقاذ ويطلق عنانه لكل انواع الانتقادات والتهم والاحكام المسبقة والتعميمات المجانية بدون حجج ولا براهين وكأن الازمة الجزائرية ستعرف نهايتها باقامة الجمهورية الاسلامية في الجزائر, وكأن الجبهة الاسلامية للانقاذ المسكينة اليتيمة قد ظلمت ولم تكن سببا في ادنى شيء حدث في الجزائر ولا في ادنى عملية ارهابية او قتل او بطش او اغتصاب. والغريب في الامر والمؤسف له ان عددا كبيرا من النقاد والمحللين والمفكرين تعامل ويتعامل مع الاسلام السياسي والحركات الاسلامية في الوطن العربي بمكيالين. ففي الوقت الذي سكت فيه هؤلاء الكتاب تماما عما يحدث في بلدانهم واداروا ظهرهم للقمع والتعسف وانتهاك حرية الرأي والفكر نراهم قد اطلقوا حقدهم على السلطة الجزائرية بدون اي مبرر وبدون براهين وبدون حجج. وكلنا يعلم كيف تعاملت الكثير من الدول العربية مع الحركات الاسلامية والاسلام السياسي ولا داعي لذكر الاسماء هنا لأن الامور لا تحتاج الى ذلك. هل بهذه الطريقة نخدم قضايانا العربية ونساهم في اطلاع الرأي العام على حيثيات وخلفيات القضايا في مجتمعاتنا العربية. هؤلاء الكتاب جعلوا من الجبهة الاسلامية للانقاذ مشعل النور والعدالة الاجتماعية والحق والحرية, وتجاهلوا تماما ان هذا الحزب هو المتسبب الرئيسي في كل ما حدث ويحدث في الجزائر ابتداء من تزييف الانتخابات التشريعية في ديسمبر 1991م الى يومنا هذا. المتعاطفون مع الجماعات المتطرفة والمنظرون للاسلام السياسي ولتسييس الدين الحنيف مع الاسف الشديد لم يحاولوا في يوم من الايام ان يفرقوا ما بين الدين الحنيف وهؤلاء الذين يساومون به ويقومون بتطويعه وتفسيره وشرحه حسب اهوائهم وشهواتهم ونزواتهم. هؤلاء الكتاب والمحللون لم تكن لديهم الشجاعة الكافية للاعتراف بان الذين يعملون على انشاء الجمهورية الاسلامية في الجزائر قد تدربوا في افغانستان وغيرها بميزانية المخابرات الامريكية التي حققت ومازالت تحقق اهدافها الاستراتيجية بواسطة مئات الشباب الطائش الذي فشل في حياته وبدلا من الذهاب لتحرير القدس الشريف ذهب لتحرير امريكا من عدوها اللدود الشيوعية. في هذا المقال وبعيدا عن الانحياز لأي طرف في الازمة وبعيدا عن الدافع عن اي جهة من الجهات المتورطة فيما يدور في الجزائر سنحاول ان نلقي الضوء على بعض المساومات والمغالطات والتعميمات التي وان كان اصحابها يريدون الخير من ورائها للشعب الجزائري ولانفراج الازمة الا انها اطروحات تضلل الرأي العام وتصب الزيت على النار. والغريب في الامر ان هذه المساومات والمغالطات وردت من ائمة ومفكرين وعلماء اسلاميين ومن ناس كنا نكن لهم وافر الاحترام والتقدير. ومن اهم التناقضات والمغالطات والتعميمات المجانية والاحكام المسبقة الي لاحظناها في موضوع ازمة الجزائر سواء تلك التي جاءت على شاشات القنوات الفضائية العربية او تلك التي نشرت في الجرائد والمجلات العربية ما يلي: تساؤل اصبح يتداوله العام والخاص عند الكلام في الازمة الجزائرية هو فشل السلطة الجزائرية في القضاء على الارهاب او تخاذلها وعدم اخذ الموضوع بجدية, وكأن الذين يطرحون هذا السؤال لا يعرفون مسلسلات وحكايات الارهاب عبر العالم. ولنبدأ بالجيش الجمهوري الايرلندي ومئات العمليات الذي قام بها عند انف سكوتلنديارد والمخابرات البريطانية, والى يومنا هذا لم تستطع المملكة المتحدة ان تقضي او تتحكم في العمليات الارهابية التي تقوم بها (الايرا) . مثال آخر من الجبهة الوطنية لتحرير كورسيكا في فرنسا حيث ان هذه الجبهة تطالب باستقلال الجزيرة منذ عقود عديدة وقامت على مر السنين بمئات العمليات الارهابية ومازالت تقوم بهذه العمليات رغم ثقل وحجم وخبرة اجهزة الامن والمخابرات الفرنسية. وللعلم لقد استطاعت المجموعات الارهابية الجزائرية ان تلقن دروسا في الارهاب لأجهزة الامن الفرنسية وفي عقر دارها دون ان تستطيع السلطات الفرنسية ان تفعل شيئا. مثال آخر نسوقه من اسبانيا وحركة الباسك الانفصالية (الايتا) حيث استطاعت هذه الحركة ان تقوم عبر السنين بمئات العمليات الارهابية امام فشل السلطات الاسبانية او قدرتها على التحكم فيها. هذا ناهيك عن الكتائب الحمر وكارلوس وعصابة بادر وغيرها من الحركات الارهابية التي اثارت الرعب والخوف في العديد من الدول والحكومات في مختلف دول وانحاء العالم. هذا بطبيعة الحال ليس تبريرا لما يجري في الجزائر وليس دفاعا عن الجيش الجزائري وقوات الامن حيث ان هنالك نوع من التهاون ووجود استراتيجية محكمة للقضاء على الارهاب لكن العملية ليست كما تبدو للكثير سهلة وبسيطة. وليعلم من يتعامل مع شرح وتحليل الازمة الجزائرية انه مطالب بوضع بعض المعطيات الجغرافية وتضاريس الجزائر في ذهنه قبل الكلام عن مكافحة الارهاب وتطويقه واحتوائه في الجزائر. حيث انه حسب ما يستنبط من الكثير من المقالات والتحاليل ان معظم من كتبوا في الازمة لا يعرفون جبال (بابور) و(جرجرة) وجبال (غروش) و(الزيبان) و(الونشريس) و(زكار) و(الشريعة) و(تيكجدة) و(تلاغيلاف) و(شيليا) والقائمة مازالت طويلة. فالجزائر تبلغ مساحتها 000.325.2 كيلو متر مربع وتحتوي على 48 ولاية واكثر من 1800 بلدية واكثر من 000.30 قرية. فعند قراءة هذه الارقام اظن ان الاخوان المنظرين والمحللين سيقتنعون ان التحكم والسيطرة وحماية كل هذه المساحة وكل هذه القرى ليس بالامر الهين ولا بالامر السهل. كما يتساءل البعض لماذا لم تستطع السلطات الجزائرية القبض على الارهابيين وتقديمهم للقضاء ومحاكمتهم, والظاهر هنا كذلك ان الزملاء لا يعرفون حقيقة ما يجري في الجزائر والمحاكمات التي تصدر وعدد الارهابيين الذين يقتلون ويستجوبون من قبل اجهزة الامن والسلطات الجزائرية. فالكثير من المجرمين والارهابيين ادلوا بشهاداتهم امام الرأي العام الجزائري عبر التلفزيون ووسائل الاعلام المختلفة. الكثير لا يعلم ان اجهزة الامن الجزائرية القت القبض على الكثير من الارهابيين من دول افريقية وعربية وآسيوية اتوا للجهاد في الجزائر من اجل اقامة الجمهورية الجزائرية. الكثير اظن لا يعرف تورط دول بكاملها لا داعي لذكر الاسماء في مساعدة الجماعات الارهابية في الجزائر في الحصول على العتاد والاسلحة وغير ذلك من الاحتياجات المختلفة. الكثير كذلك لا يعلم او يتجاهل ان نسبة كبيرة من هؤلاء الارهابيين تدربوا بتواطؤ دول اسلامية وعربية وبتواطؤ المخابرات الامريكية والموساد في افغانستان على القتال والارهاب وصنع القنابل ثم عادوا لمواصلة الجهاد في الجزائر. في تدويل الازمة الجزائرية: رحب الكثيرون من الاخوة العرب واصروا على تدويل الازمة الجزائرية وضرورة تدخل الاتحاد الاوروبي والامم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية, لكن هؤلاء لا يعرفون ان تدويل الازمة هو الاعتراف الضمني بالارهاب وكذلك فتح المجال لدول ومنظمات ما يهمها في الجزائر الا بترولها وثرواتها الطبيعية. وقد يسأل سائل ويقول اين كان الاتحاد الاوروبي منذ 1992م؟ فالاتحاد الاوروبي اذا كان يريد الخير للجزائر فليبدأ من عقر داره ويتخلص من القواعد الخلفية للارهاب وهو الذي يضمنها للجماعات التي تجمع الاموال وتشتري الاسلحة وتشحنها للجزائر انطلاقا من موانىء اوروبا لقتل الابرياء من الجزائريين العزل اطفالا وشيوخا ونساء. الجماعات التي تستعمل اوروبا قاعدة ارضا حرة لنشاطاتها تتذرع باللجوء السياسي وحقوق الانسان وغير ذلك من الانغام والاوتار التي تعودناها من الغرب وحبذا لو كانت معاملة الغرب للانفصاليين (الباسك) و(الكورس) والايرلنديين بنفس المعاملة وحفاوة الاستقبال. وليعلم اخواننا المحللون والمنظرون في الازمة الجزائرية ان حادثة الاقصر الارهابية الفظيعة تم التخطيط لها في لندن عاصمة بريطانيا التي تتغنى بالحرية والتي ترأس الاتحاد الاوروبي والتي اقامت الدنيا واقعدتها من اجل التدخل في الجزائر. اعتمد معظم من تطرقوا للازمة الجزائرية على بعض التصريحات لعدد قليل من المنشقين على النظام الجزائري سواء من الذين مارسوا السلطة او كانوا في السلك الدبلوماسي او في جهاز الامن, وهل يعقل منطقيا وموضوعيا وعلميا ان نحكم على نظام بكامله وعلى ازمة بحجم ازمة الجزائر من خلال تصريحات وزير حكومة سابق غادر البلاد لاكثر من عشر سنوات بعيدا عن الواقع وعن ما يجري في الميدان, اضف الى ذلك ان وزيرنا المحترم كان من هؤلاء الذين حطموا كل ما بناه المرحوم هواري بومدين وكان من المساهمين والمشاركين في الازمة التي تمر بها الجزائر اليوم. وكل تصريحاته وتصريحات امثاله هي تصريحات انتقامية, عشوائية, عاطفية خالية من الادلة والبراهين والمعطيات العلمية, كتلك التصريحات التي ادلى بها قبل عشر سنوات والتي مفادها ان المسؤولين الجزائريين تقاضوا 26 مليار دولار كرشاوى للصفقات التي ابرموها. وعندما سئل عن الادلة وحصوله على هذه المعلومة اجاب بكل بساطة انه قام بعملية حسابية حيث خصم 10% من مجموع الصفقات التي ابرمتها الجزائر مع الدول الاجنبية والشركات متعددة الجنسيات. هذه هي العينة التي يعتمد عليها في تحليل وتفسير الازمة الجزائرية. اعتمد بعض الذين حللوا وحاولوا تفسير الازمة الجزائرية على كتابات وتحاليل صحف وجرائد ومجلات ووكالات انباء غربية واعتمدوا هذه الكتابات وكأنها كتاب منزل لا ريب فيه. والغريب في الامر ان بعض المفكرين الاسلاميين الذين كانوا بالامس يحذرون من هذه الكتابات المسمومة ومن الصراع الحضاري ومن معاداة الغرب للاسلام اصبحوا يستشهدون بالغرب ويرجعون لتحاليل الغرب في الازمة الجزائرية. وليعلم اخواننا المحللون ان الغرب تبنى الجبهة الاسلامية للانقاذ ولعب ورقتها وهذا حتى يتجنب الغلطة التي ارتكبها في ازمة الرهائن الامريكان في نهاية السبعينات. والهدف هنا من هذا السيناريو هو استعمال الاسلام السياسي لخدمة مصالحه, لكن عندما لم تتأكد الفرضيات والامنيات انقلبت الامور واصبحت الدول الغربية تعمل جاهدة للحفاظ على مصالحها من البترول والغاز في الجزائر رغم الحرب الباردة غير المعلنة القائمة بين الولايات المتحدة وربيبتها بريطانيا من جهة وفرنسا والمانيا من جهة اخرى. قسم الاتصال الجماهيري جامعة الامارات*

Email