على ضوء زيارة الأمين العام لبغداد: ما هي مهمة الجامعة العربية الحقيقية الآن: بقلم- د. محمد الرميحي

ت + ت - الحجم الطبيعي

استمعت الى لقاء في برنامج جديد بثته اذاعة الـ (بي.بي.سي) البريطانية صباح الخميس الفائت وكان المتحدث هو محمد حسنين هيكل الكاتب الناصري المعروف بمنطلقاته النظرية التي كثيرا ما تصب في ساحة التمني اكثر منها في ساحة الواقع , ولا يعنيني كثيرا ما قاله هيكل وكان يتحدث عن تصوراته تجاه الموقف المعلق بين الامم المتحدة وبين العراق, والذي في نهايته نصح صدام حسين بالتراجع لأن ذلك كما قال (لا ينقص من السيادة العراقية لأنها الآن منقوصة بالفعل) ولكن ما عناني هو تعليقه على زيارة احمد عصمت عبد المجيد امين عام الجامعة العربية الى بغداد, وذلك لأكثر من جانب, الاول لأن الامين العام هو شخصية سياسية عربية له موقع رسمي يمثل فيه ليس نفسه ولكن مجموع الدول العربية والثاني دور الجامعة العربية الذي اصبح تفعيله اليوم للعربي العادي مثل ثالث المستحيلات برغم اهمية الدور وحيويته. لقد تحدث هيكل في ذلك اللقاء فقال ان مهمة الامين العام كما فهمها من المقربين منه حتى قبل ان يذهب الى بغداد هي مهمة (شكلية او ديكور) وهذا بحد ذاته اهانة جديدة لهذه الجامعة العتيدة, والذي اجتمع الكثير من المفكرين العرب قبل اشهر قليلة في ابوظبي عاصمة الامارات العربية المتحدة من اجل النظر في تفعيل دورها واعطائها المنزلة المناسبة في الساحتين العربية والدولية. لا اريد ولا ارغب في الحديث عن شخص الامين العام, فقد ادى لوطنه وامته الشيء الكثير, وقد انصفه الدكتور بطرس غالي وزير الدولة للشؤون الخارجية المصري الاسبق في مذكراته التي نشرها في كتاب عنوانه (الطريق الى القدس) شرح فيه جهود الوزير الامين فيما بعد (حيث كان موظفا كبيرا في الخارجية المصرية وقتها) في التحضير لاجتماع فندق مينا هاوس الذي كان من المفروض ان يحضره بجانب الوفد المصري والاسرائيلي الوفد الفلسطيني, ولكن كل ذلك تاريخ ينصفه او ينقده الجيل المقبل بعدنا. السيد أمين الجامعة عندما ذهب الى بغداد ذهب على خليفة نعرفها جميعا فقد صرح اكثر من مرة في السنوات السبع التي لحقت احتلال وتحرير الكويت, انه لن يذهب الى بغداد الا بعد ان تفرج بغداد عن الاسرى والمرتهنين الكويتيين والعرب الذين اختطفتهم السلطة العراقية من الكويت ابان الاحتلال سنة 1990 ويقدر عددهم بحوالي ستمائة اسير ومرتهن, وكان ذلك موقفا مقدرا ومبدئيا وشهما, الا ان الامين اضطرته ظروف الازمة الاخيرة بين العراق والامم المتحدة للذهاب الى بغداد, وقد كافأه النظام العراقي على موقفه ذاك باطلاق سراح المسجونين العرب او بقاياهم في سجون بغداد وهم في الغالب من اصحاب السوابق والذين صدرت بحقهم احكام جزائية, وليس فيهم واحد فقط من المسجونين بسبب الرأي او اسرى الحرب, وكأن النظام العراقي اراد ان يقول للأمين انه يقدره الى درجة انه يستعيض بواسطته عن الانتربول الدولي وفي ذلك اشارة, ليس فقط الى اهانة شخصية ولكن ايضا اهانة وظيفية لما يمثل الامين من موقع عربي رفيع نريد جميعا ولمصلحتنا ان نربأ به عن مواطن الاهانة, وقارن الرأي العام العربي المستنير هذه المكافأة بما فعله النظام العراقي مع ليث شبيلات المعارض الاردني الذي سلمه الرئيس صدام حسين المحكومين من الاردنيين في سجون بغداد كمكافأة له على الجهر بدعمه. السيد الامين قبل اسابيع قليلة وقبل ان تندلع آخر لعبة من العاب النظام العراقي مع هيئات الامم المتحدة ولجانها توسط كما نقلت الصحف لاحدى الهيئات الشعبية المصرية مع الامم المتحدة كي تسمح بمرور طائرة اغاثة للعراق في عيد الفطر المبارك, وقد سمحت الامم المتحدة بذلك ولكن البعض تساءل برغم ان المشروع هو انساني يشكر عليه, فالمهمة الاكبر للأمين ليست ذلك فقط, حيث ان اية هيئة اسنانية عربية لها قدرة على الاتصال بوزارة الخارجية في بلدها لاتمام ذلك, ومهمة الامين هي مهمة جماعية تأخذ بالحسبان التوازن المطلوب بين الدول التي يمثلها ولو نصح تلك الهيئة الشعبية بالاتصال بالمعنيين في بلادها لكان ذلك مما ينسجم مع عمله الرفيع. السيد الامين العام في طريقه الى مقر عمله توقف في عمان وادلى بتصريحات حتى قبل ان يصل الى الدولة التي كلفته بالسفر الى بغداد وادلى بتصريحات يقول بعضها انه لمس تطورا في موقف بغداد من الازمة وان العراق سمحت للامم المتحدة بتفتيش القصور الرئاسية المختلف عليها, وسرعان ما كذب ذلك وزير الخارجية العراقية في بغداد ونقلت الصحف تصريح الصحاف بقولها (تصريحات عبد المجيد غير دقيقة) وهنا تعرض اسم وعمل الجامعة العربية الى اهانة اضافية تصيب المصداقية لهذه المؤسسة في صميمها, وكأنها تحتاج الى ذلك في هذا الوقت بالذات. ما سمي بالمبادرة العربية هو في حقيقته مبادرة روسية حاولت بعض الاوساط العربية ان تقفز الى قطارها المتعثر, وهنا يبقى التفكير في وضع الجامعة العربية كوسيط خاصة مع بغداد, فهناك تاريخ طويل لقوى ودولة عربية بما فيها الجامعة العربية في اتصالها ببغداد, فالنظام العراقي لا يحترم هذه المؤسسة, بل يسخر منها ولا يقيم لها وزنا وتدخلها الاخير حتى لو جاء على خلفية دعوة وزير الخارجية التركي بأن تذهب دول الجوار الى بغداد لاستطلاع امكانية زحزحتها عن موقفها المتشدد في استكمال تطبيق قرارات الامم المتحدة, اقول حتى لو جاء ما حدث على تلك الخلفية فان احدا لا يصدق ان تذهب دول الجوار الى بغداد لأنها تعرف من خبرة سابقة ان في ذلك ارضاء ضارا لغرور العظمة في بغداد وليس له نتيجة اخرى غير ذلك, فان كانت بغداد تريد ان تقدم تنازلات فسوف تقدمها لمن يستطيع ان يدفع ويقبض الثمن السياسي مثل دولة كبرى كفرنسا او روسيا لا الدول التي تعتبرها بغداد بشعورها البارانوبي (الخيلائي) معادية اصلا. ولكن تبقى المعضلة التي يواجهها امين عام الجامعة وكل مواطن عربي يرجو لهذه الجامعة العربية ان تقوم بدورها, وهي ما العمل مع نظام مثل نظام بغداد؟ من الواضح انه لن يستقيم العمل العربي, وهذا النظام العراقي يهدد جيرانه والعالم بين فترة واخرى ومن الواضح انه حتى السذج والبسطاء لم يعودوا يصدقون تباكي النظام العراقي على مساندة الحق العربي في فلسطين, فقد ارسل رسالة اخيرا من بين اشارات اخرى كثيرة انه ليس لديه الرغبة ولا النية في مهاجمة اسرائيل وعندما سئل طارق عزيز مساء الجمعة الماضي على محطة الجزيرة القطرية عن هذه الرسالة قال كلاما مقتضبا: (لم نتعود ان نرسل مثل هذه الرسائل) ولم يجب عن السؤال, اما البضعة صواريخ التي ارسلها النظام العراقي في سنة 91 الى اسرائيل واصابت بضعة مواطنين فيها, فقد قبضت اسرائيل بسببها بلايين الدولارات, ولعل لسان حال اسرائيل يتمنى ان يرسل صدام حسين بضعة صواريخ اخرى ولن يفعل لتتحول الى مال وفير واسلحة فتاكة لتصويبها الى صدور العرب, ففرقعة لا تقتلك تقويك, ولذلك لم يعد هناك احد يصدق مواجهة العراق لاسرائيل بعد كل الشواهد المعروفة. اما المشكلة الحقيقية فهي الشعب العراقي وللتذكير فقط فان اكبر كتلة بشرية مهجرة من العرب هي الكتلة العراقية, فهناك ما يربو على ثلاثة ملايين عراقي مشردين في المنافي في انحاء العالم المختلفة, ولقد استخدم النظام العراقي اسلحة الدمار الشامل ضد مواطنيه فكان فريد عصره, وفي حروبه الاقليمية خاصة ضد ايران, كما ان المتابع لتصريحات اركان النظام العراقي سوف يرى بوضوح ان اسباب غزو الكويت مازالت قائة كما تراها هذه التصريحات ومن افدح الاخطاء التي ترتكبها قوى ومؤسسات سياسية عربية هي ان تتخذ مواقف احادية من تقليل نتائج وآثار كارثة غزو الكويت, على منطقة الخليج وعلى العرب وعلى الشعب العراقي ايضا, لأن في هذا الموقف تشجيعا ضمنيا على اعادة الكرة من جديد. ان السر في هذا العذاب السرمدي للشعب العراقي هو فشل نظام الفرد النخبة, ومصادرة قرار الاغلبية لمصلحة الرئيس الضرورة التي تحول الى ضرر واضح, والحكم المستهتر بشعبة الى درجة ان طارق عزيز وهو يتحدث في مقابلة محطة الجزيرة المشار اليها سابقا يقول انه لا يوجد سجناء رأي في العراق (يابا ليش يكونوا موجودين وهما يروحوا الى لندن ويأخذوا مرتبات وشقق) اضاف متهكما, هكذا نظام يعرف امين عام الجامعة ان ليس له مثيل في التسلط على شعبه والاستخفاف بمؤسسات دولية واقليمية منها الجامعة العربية, وكان بودنا ومن قلوبنا ان يوفر الامين العام اعطاء اسمه ومؤسسته التي نحترمها لقمة سائغة لاعلام النظام العراقي واستخفافه السياسي, وكان بودنا ايضا ان تبني مصداقية جديدة لجامعة الدول العربية التي فقدت شيئا كثيرا من مصداقيتها منذ ,1990 معتمدة على العمل الجاد لمصلحة الشعوب في هذا العصر التعددي والديمقراطي والمنفتح على العالم, لا الانجرار وراء نظام يعرف الجميع انه لا ينتمي لهذا العصر لا في خطابه السياسي ولا ممارساته الداخلية او الخارجية. مهمة كل من يرد ان يرى مستقبلا افضل للعراق والمنطقة العربية ان يبحث مع العالم في الطرق والوسائل لتخليص الشعب العراقي من هذا النظام المتسلط الذي يحكم بالحديد والنار, وان يقدموا الحماية للشعب العراقي الذي طال عذابه, وان نبني جميعا مرجعية عربية لها مواصفات الحد الادنى من الفعالية المعتمدة على الاقل على ارادة اخلاقية وقانونية وسياسية واضحة.

Email