العولمة والمخاطر الاقتصادية على الدول العربية: بقلم - فاطمة شعبان

ت + ت - الحجم الطبيعي

شكلت تطورات السنوات القليلة الماضية وخاصة الثورة العلمية - التقنية انقلابا في أولويات الدول, فبعد ان شكلت القضايا السياسية والأمنية والعسكرية الأولوية المطلقة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية, اخذ الاقتصاد يتطور بخطوات ثابتة لينتقل الى أولوية تتقدم على القضايا السياسية والأمنية والعسكرية, لدرجة ارتباط مستقبل الدول ليس الصغيرة فحسب, بل والكبيرة أيضا بأدائها الاقتصادي, وتم ربط كل القطاعات الأخرى بهذا القطاع الرئيسي والحيوي ستكون أساس الصراع في العقود المقبل. واستجابة للمتطلبات الكبيرة التي يفرضها الاقتصاد الحديث, أخذت الدول الصناعية الأكثر تطوراً في العالم في أوروبا وأمريكا وجنوب شرقي آسيا ببناء تجمعات إقليمية لتحسين وضعها في المنافسة الاقتصادية, فولد (الاتحاد الأوروبي) و(النافتا) و(الآسيان) , ودلت هذه التجمعات بصورة حاسمة على عدم قدرة الدول منفردة على مواجهة التحديات التي تواجهها والتي أصبحت بحاجة الى تعاون جماعي, حتى يكون لهذه الدول مكانة في عالم المستقبل. ومع هذه التطورات تفككت من بين ما تفكك مقولة (العالم الثالث) ففي الوقت الذي كانت هذه الدول تملك من السمات المشتركة ما يجعل الدارسين يصنفونها في خانة واحدة تحت مقولة (العالم الثالث) , فإن التفاوت في التطور بين هذه الدول جعل الفوارق بينها كبيرة, مما أفقد مقولة العالم الثالث شموليتها, لتخرج بعض الدول من أسرها وتكتسب تصنيفاً آخر. أخذت في آسيا تسمية (النمور) للدول التي شهدت تطوراً اقتصادياً ملفتاً, أطلق عليه البعض تعبير (المعجزة الاقتصادية) , مما جعل هذه الدول تعطي درساً هاماً للدول الأخرى, بأن إمكانية الانطلاق الى الأمام وإيجاد موقع أفضل في هذا العالم إمكانية يمكن انجازها رغم كل الصعاب. وان الدول التي ترسم سياسات صحيحة وواقعية, تستطيع ان تحسن مواقعها الاقتصادية وان تجني مكاسب هذا التحسن من خلال تضافر مجموعة من السياسات التي تخطط للمستقبل بشكل جدي وثابت, وان الفقر في مثل هذه الحالة لا يشكل عقبة لا يمكن تجاوزها. بذلك أصبحت المشكلات التي تعاني منها أفريقيا مختلفة جداً عن المشكلات التي تعاني منها أمريكا اللاتينية أو دول جنوب شرقي آسيا. وظهر هذا التفاوت بسبب اختلاف الاستجابة للتطورات والتبدلات السريعة التي تزداد وتائرها سرعة من قبل الدول المختلفة. فهناك دول استطاعت التكيف مع التطورات المذهلة التكنولوجية والتقنية, مما جعلها تستحق موقعاً أفضل من مواقعها السابقة, في الوقت الذي لم تعن هذه التطورات مجموعة واسعة من الدول الأخرى مما زاد الفوارق ليس بينها وبين الدول الصناعية المتقدمة فحسب, بل حتى بينها وبين تلك الدول التي كانت الى وقت قريب تشترك معها في مقولة (العالم الثالث) , مما يجعل الهوة بينها وبين الحصول على مكانة مناسبة ومتقدمة في ظل العولمة المتسارعة أكثر صعوبة وتعقيداً, ويجعلها مهددة بمزيد من التهميش, خاصة انها ما زالت تعتمد على تصدير المواد الأولية, التي تراجع دورها بشكل مريع خلال السنوات والعقود الأخيرة, وانخفضت أسعارها الى أدنى حد ممكن, وأصبحت ذات دور ثانوي في ظل ثورة المواد البديلة, واختلفت بذلك شروط الكفاءة الاقتصادية, فلم يعد توافر الموارد الأولية شرطاً يجعل البلد الذي يملكها غنياً, كما لم يعد عدم توفرها عاملاً على بقاء الدولة فقيرة. وباتت شروط مختلفة العامل الحاسم في النمو الاقتصادي للدول يأتي على رأسها, التنمية البشرية, وأبحاث التطوير, والقدرة على الإستثمار والادخار, وتوظيفها في إطار سياسات صحيحة وملائمة من أجل إنجاز الأهداف التي يتم وضعها. كما اختلفت مع هذه التطورات أهداف التنمية, فقد كانت التنمية في الماضي تقاس بازدياد الناتج المحلي الإجمالي. لكن هذه الأهداف تبدلت وأصبحت ترتكز على تحسين مستوى المعيشة, وأصبح هذا المعيار أهم من زيادة الناتج المحلي, كذلك تحسين مستوى التعليم والتأهيل المهني ومستوى الرعاية الصحية, مما يعني تحول تركيز التنمية بشكل رئيسي وحاسم على البشر وتنمية قدراتهم ومهاراتهم. ان المتطلبات الداخلية لم تعد كافية للاستمرار بالتنمية خلال العقود القادمة, وقد أدركت ذلك العديد من الدول التي أخذت بالعمل على إقامة تجمعات إقليمية, لتتصدى من خلالها للمتطلبات التنموية, فقد أصبحت الأسواق القومية أضيق على الإنتاج, وكذلك متطلبات التوظيف المالية المرتفعة التي تحتاجها الاقتصادات الحديثة, فرضت هذا التوجه بإنشاء تجمعات إقليمية في العديد من المواقع في العالم, فالعولمة المتسارعة التي تصيب العالم في كل مكان تحول العالم الى سوق موحدة, ويعمل على ذلك النمو المذهل للاتصالات, وسرعة وسائل النقل, وسرعة نقل الاستثمارات الى المواقع الأكثر ملاءمة لنموها. ان الدول العربية ليست بعيدة عن هذه التطورات, رغم انها لا تصنعها, والمؤشرات العربية الحالية تدل على عدم جاهزية الدول العربية لا منفردة ولا مجتمعة لتكون طرفاً في المنافسة الاقتصادية القادمة. وان تفاعل الدول العربية مع هذه التطورات من الموقع السلبي المنفعل, وليس من الموقع الإيجابي الفاعل في التأثير والتكيف مع ما يجري من تطورات, مما يعني ان الدول العربية عرضة الى مزيد من التهميش. وفي سياق هذه التطورات التي تصيب العالم في جميع مناطقه, تتعرض الدول العربية الى ضغوط مكثفة ومتصاعدة لاتمام عملية دمجها الاقتصادي في إطار الاقتصاد الرأسمالي العالمي, لإسقاط كل العقبات والحواجز التي تحول دون دمج البلدان العربية بشكل كامل في دورة الاقتصاد الرأسمالي العالمي, بصرف النظر عن الكلفة السياسية والاجتماعية التي تدفعها الدول الأكثر فقراً من الدول العربية جراء عملية الدمج هذه. ومعنى ذلك ان البلدان العربية أخذت في الانخراط رغم إرادتها في إطار عملية تحول كبرى في هياكلها الاقتصادية والاجتماعية مدفوعة في ذلك بضرورات المواءمة مع مقتضيات النظام الدولي الجديد, بصرف النظر عن الاعتبارات الوطنية ومصالح الدول العربية. إضافة الى المواءمة مع النظام العالمي والسوق الرأسمالية العالمية, تتعرض الدول العربية الى مشاريع ترتيبات إقليمية مطروحة عليها من خارجها. وتأتي على رأس هذه المشاريع مشروع الشرق أوسطية الذي طرحته اسرائيل والمدعوم أمريكياً, ومشروع الشراكة الأوروبية - المتوسطية. يقوم المشروع الشرق أوسطية على تأسيس تجمع إقليمي شرق أوسطي اقتصادي, يعمل على الدمج الجوار العربي إضافة لإسرائيل من خلال إقامة علاقات اقتصادية علاقات اقتصادية متشابكة بين هذه الدول, متجاوزة الدول العربية والسمات المشتركة فيما بينها, وتتعامل مع الدول العربية بصفتها دولاً متفرقة. ان هذه النظرة تخدم النظرة الإسرائيلية الى المشروع, والتي تسعى الى دمج إسرائيل في المنطقة كلاعب مركزي - محور, تعبر من خلاله المساعدات والأموال والمشاريع. لذلك لا تعترف إسرائيل بوجود اقتصاد عربي جماعي, وهو ما يسهل على إسرائيل ان تضمن دور المركز في هذا التجمع الإقليمي. كما تسعى من خلال عملية السلام والترتيبات التي تتبعها الى إضافة الهيمنة الاقتصادية الى الهيمنة الأمنية والعسكرية التي تمارسها على المنطقة. لذلك على التفوق العسكري ان ينتج تفوق اقتصادي, وان يوازي تفوقها الاقتصادي في المرحلة المقبلة تفوقها العسكري في المرحلة السابقة, ويدعم التفوق العسكري التفوق الاقتصادي. وكل الجهود الإسرائيلية في المشروع الشرق أوسطي تقوم على إقامة ترتيبات اقتصادية تكون جل مكاسبها لصالح الاقتصاد الإسرائيلي الذي يعتمد على عدد من المزايا التفوقية على الاقتصادات العربية, على رأسها التفوق التقني الإسرائيلي, وتطور مجال الأبحاث, وبنية الاقتصاد الإسرائيلي, ووجود الموارد البشرية التي تشكل البنية التحتية الملائمة. مقابل مشروع الشرق أوسطية, هناك المشروع المتوسطي الذي يقوم على الشراكة الأوروبية - المتوسطية, والتي يسعى من خلالها الاتحاد الأوروبي الى إنشاء منطقة للتجارة الحرة بين الدول المتوسطية بحلول 2010 حسب إعلان مؤتمر برشلونة. وينطلق المشروع المتوسطي من مجموعة من الترتيبات الفوقية للوصول الى أهداف مؤتمر برشلونة. وتتطلب الشراكة الأوروبية المتوسطية مجموعة من الإجراءات التصحيحية الهيكلية حتى تتلاءم دول الجنوب المتوسطي مع طبيعة الاقتصادات الشمالية, وهو ما يؤدي الى كلفة اجتماعية عالية, على دول الجنوب ان تدفعها. ان هذه الشراكة تقوم على علاقة غير متكافئة بين دول الشمال المتوسطي والجنوب المتوسطي, فإذا كانت دول الشمال ذات بنية اقتصادية مؤهلة للمستقبل, فإن الدول في الجنوب التي تتشكل من الدول العربية فإنها بحاجة الى تصحيحات تجعلها تدخل هذه الشراكة من موقع الضعيف. ولا شك بأن الاتحاد الأوروبي يسعى من خلال هذه الشراكة الى توسيع نفوذها ومواجهة التكتلات الأخرى, مثل (النافتا) و(الأسيان) . في الوقت الذي يتعامل المشروع المتوسطي مع جزء من الدول العربية ويترك الجزء الآخر, يسعى المشروع الشرق أوسطي الى دمج دول إقليمية غير عربية عبر مجموعة من الترتيبات التي تتعامل مع الدول العربية متفرقة. وهذا ما يضع أمام الدول العربية مهمة لا تقبل التأجيل, وهي العمل على إيجاد صيغة عربية للتعامل مع المشاريع المطروحة على المنطقة والتي تستهدف الدول العربية بشكل رئيسي. واستجابة لهذه الظروف يجب على الدول العربية إيجاد صيغة من التعاون والتكامل الاقتصادي تحسن من أشكال دخولها في المشاريع المطروحة من خارج المنطقة. ان المخاطر الاقتصادية التي تواجه الدول العربية سواء من الداخل أو من الخارج, تدفع لا محالة الى العمل العربي المشترك, إذا ارادت الدول العربية ان تحسن من فرصها بمستقبل أفضل, وان تحسن من شروطها للدخول في المشاريع المطروحة على المنطقة. ولأن اي دولة عربية منفردة لا تحظى بما يكفي من تكامل الموارد الطبيعية والبشرية لتحقيق تنميتها الناجزة, فالعمل المشترك يعطي قدرة أكبر للدول العربية على المنافسة في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية. فلا خيار للدول العربية إلا الاعتماد الجماعي على الذات, وهو وحده الكفيل بتحسين الصورة العربية, بعد الصورة السلبية التي رافقت العرب في السنوات الماضية. كاتبة فلسطينية*

Email