الصدام الأمريكي العراقي والمرحلة الجديدة، بقلم: د. شفيق ناظم الغبرا

ت + ت - الحجم الطبيعي

اليوم يتغير الوضع حول العراق كما تتغير أفكار وقيم سياسية كانت في حكم المتعارف عليه بعد حرب تحرير الكويت عام ,1991 إذ تسود اليوم نظرة مختلفة تقول بعدم إمكانية التعايش مع الرئيس العراقي صدام حسين. ولقد كانت الرؤية السائدة بعد حرب 1991 تقول بضرورة ابقاء صدام حسين في السلطة وذلك لما لقوته ولسيطرته من دور خاص في الامساك بالعراق والحفاظ على وحدته ولما لدور صدام أيضاً من أهمية في الحفاظ على هذه الوحدة في مواجهة إىران. فالاحتواء الذي خطته أمريكا عقب حرب 1991 عنى عدم السماح للعراق بأن يكون ضعيفاً أمام إيران وعدم السماح للعراق أن يكون قوياً بما يسمح له بتهديد جيرانه. وقد استفاد صدام حسين كثيراً من هذه المعادلة الأمريكية, إذ انطلق من ان دوره مطلوب, وانطلق أيضاً من أن عجز الإدارة الأمريكية عن إزاحته في نهاية الحرب يجعله غير معرض للسقوط في المستقبل, وبالتالي فهو باق في السلطة مهما كانت الأوضاع. إن نقطة اللقاء في السياسات الدولية بل والأمريكية كما والعراقية كان في كل المراحل التي جاءت بعد حرب تحرير الكويت: بقاء الرئيس العراقي في السلطة ووجود دور له في اطار تطبيق قرارات مجلس الأمن. ومن هنا فعندما قمع الرئيس العراقي الانتفاضة بقوة تركت الولايات المتحدة الأمر يمر بل سمحت له باستخدام طائرات الهيلوكبتر لضرب الانتفاضة, وعندما أيدت الولايات المتحدة المعارضة في نهاية حقبة الرئيس بوش عاد الرئيس كلينتون وتخلى عنها رويداً رويداً, وعندما أدين العراق بمحاولة اغتيال الرئيس بوش تركت الولايات المتحدة الأمر بلا ردة فعل كبيرة, وعندما حشد العراق قواته عام 1994 ثم عندما هاجم الشمال عام 1996 لم يكن الرد الأمريكي ذو قيمة تذكر. في كل هذا كان الأساس ان صدام حسين يجب أن يطبق القرارات الدولية وأن الجزرة هي في نهاية الطريق اعادة التأهيل وفق أسس وسياسات متفق عليها. ولكن تقرير اليونيسكوم في مارس 1995 والذي كشف ان صدام حسين كان قد أخذ قراراً بالحفاظ على عدد من البرامج التسليحية ذات الطبيعة البيولوجية واليكيمائية أفسد الأمور على الرئيس العراقي الذي كان يأمل برفع قريب للعقوبات في أعقاب اعترافه بالكويت في أكتوبر 1994. ثم جاء بعد ذلك بشهور خروج حسين كامل الذي قدم معلومات جديدة عن البرامج العراقية المستمرة والتي أشرف هو شخصياً عليها. هنا بالتحديد تغير الوضع إذ لم يستطع العراق الاجابة على أسئلة عديدة طرحتها اليونسكوم وتتعلق بالمواد والأسلحة التي كشفها حسين كامل أو التي تتعلق بمعلومات اللجنة. بل جاء الكشف عن طبيعة الحوارات داخل القيادة العراقية وعن طريقة تفكير الرئيس العراقي التي لا زال يحلم بإمكان العودة لاحتلال الكويت لتطرح قضية النوايا العراقية تجاه الدول المحيطة. وقد أكد كل هذا حسين كامل والصحفي العراقي المنشق سعد البزاز ثم رئيس الاستخبارات العراقية السابق المنشق وفيق السامراني. لهذا بدأ يقوى في الإدارة الأمريكية الاتجاه الصقوري الذي يخشى من الرئيس العراقي ويرى بأن ازاحته ضرورة وبأن بقاءه بعد عاصفة الصحراء كان خطأ كبيراً. لقد بدأت التوجهات تتغير خاصة طوال عامي 1996 و1997 تتغير في الكونجرس وفي وكالة المخابرات المركزية, وبين العديد من المستشارين ومؤسسات الدراسات الاستراتيجية بالإضافة إلى اللوبي اليهودي. منذ 1995 بدأ يسود المنطق الذي يقول بأن الرئيس العراقي لن يسلم أسلحة الدمار الشامل وان الأسلحة أهم بالنسبة إليه من رفع العقوبات, وان كل ما قام به بعد حرب 1991 هو من باب التكتيك وانه عاقد العزم على العودة إلى الكويت وإلى نفس الوضع السابق. أما الرئيس العراقي فقد استبق الأمر بأن خط سياسة تصعيدية منذ بداية ,1997 لهذا بدأ في مواجهة فرق التفتيش ووضع العراقيل أمامها وذلك على أمل أن يفرض على الدول في مجلس الأمن خياراً أخيراً: رفع العقوبات. ولقد استنتج الرئيس العراقي بأن ردة الفعل الأمريكية أضعف من أن تقوم بمنازلته في مواجهة شاملة, فهي لن تستطيع أن تأتي بنصف مليون جندي كما فعلت عام ,1991 وهو ثابت في السلطة بفضل القبضة الحديدية التي يمارسها, كما انه يمتلك ورقة الجماهير العربية التي سبق وامتلكها عام 1991 ولكن هذه المرة من خلال التحدث عن معاناة الشعب العراقي في ظل الحصار الدولي. لهذا اعتمد التكتيك العراقي حتى الآن على مسألة أساسية: ان التصعيد بهدف الوصول إلى ضربة أمريكية سوف يكون مفيداً للعراق, فأي ضربة غير مميتة من شاكلة الضربات التي عرفها العراق منذ انتهاء حرب 1991 سوف تكون مفيدة, فبعد أن يهدأ الغبار بامكان الرئيس العراقي أن يتبنى موقف المنتصر وبامكانه أن يعتمد على الرأي العام العربي ومواقف دول عديدة تقول انها ضد الضربة العسكرية. هذا هو التكتيك العراقي في استحداث ضربة نتيجة التصعيد الذي بدأه العراق منذ مارس 1997 ثم في يونيو 1997 ثم في سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر 1997 ثم في يناير 1998. في كل هذا يبدو ان لحظة مواجهة قد اقتربت, فالإدارة الأمريكية عازمة على جعل العراق يطبق القرارات الدولية بكليتها. ولكن الإدارة الأمريكية أميل إلى فرضية صعوبة التعايش مع الرئيس العراقي وذلك لانه غير قادر على التأقلم مع معطيات ما بعد 1991 من حيث تسليم أسلحة الدمار الشامل وابراز نوايا سليمة تجاه جيرانه واجراء اصلاحات داخلية تغير من سياساته وخطابه. في غياب سياسة عراقية تسعى لإثبات النوايا الحسنة تجاه الآخر, وفي ظل التصعيد العراقي والهادف للدخول بمواجهة مع الولايات المتحدة بالتحديد فنحن على أعتاب مرحلة جديدة. ان مواجهة جديدة تلوح في الأفق إلا إذا نجحت الجهود الدبلوماسية الدولية بجعل صداها يتراجع وهذا احتمال يزداد ضعفاً مع مرور الوقت. إن المواجهة القادمة مختلفة من حيث انها تتم في ظل اطار سياسي جديد أميل لانهاء ما فشل الرئيس بوش في عمله: بدء مسلسل أحداث قد لا ينتهي إلا بسقوط الرئيس العراقي. وقد لا تكون آفاق المرحلة القادمة التي يرجح أن تنتهي بضربة عسكرية جوية مكثفة كما تؤكد المصادر الأمريكية واضحة من الآن, ولكن من الواضح المواجهة الجديدة سوف تفتح آفاق جديدة: ملف المعارضة العراقية ودورها, دور الجيش العراقي, شكل العراق ونظامه السياسي في المستقبل, العلاقة بين العراق والعالم وبين العراق والعراق وبين العراق ودول الخليج في المرحلة القادمة. في ما نشاهد الآن تطورات سوف يساهم تجمعها وتسلسلها في تشكيل حالة جديدة لها انعكاساتها السياسية والاقتصادية والمعنوية على منطقة الخليج وعلى العراق.

Email