وراء كل بحر تاريخ وفي كل زاوية تنهات وغصات، باب الجمر وبابي تصادق الطبيعة أفضل لك من اظهار العداء لها:بقلم- عبدالرحمن منيف

ت + ت - الحجم الطبيعي

يمزج وليد اخلاصي في روايته باب الجمر التاريخ بالاسطورة بالواقع ثم بالاحلام والرغبات حتى تبدو هذه الأشياء كأنها سبيكة قوية متماسكة الابواب كما الجسور من الرموز الكبيرة الموحية في الادب والفكر والتاريخ لما تحمله من دلالات تتجاوز معناها المباشر , لانها تؤدي بنا الى الاكتشاف والدهشة والجديد والآخر وتضعنا ايضا في مواجهة الاسرار والغريب والمختلف. اذا كان ياقوت الحموي قد ذكر في فتوحات البلدان ان من بين ابواب حلب باب السر فان وليد اخلاصي من خلال رواية (باب الجمر) وضعنا ايضا في مواجهة بوابة كبيرة, وليس مجرد باب لدخول حلب, هذه المدينة التي تعبق برائحة التاريخ والملاحم والاساطير, وتنبض بدوي الحياة, وتتلاحق فيها الاحلام والهزائم كما تفيض بعذوبة الليل والغناء, والحرير بنفس المقدار الذي تضيق بالقهر والخديعة وتبحث عن شيء تقدمه لنفسها وللآخرين. ان حلب في التاريخ والذاكرة شديدة الكثافة دائمة الحضور, كما تختلف عن مدن كثيرة فهي ليست مدينة مؤقتة او مدينة مملكة او عائلة, تبقى او تزول ما دامت تؤدي دورا مرحليا. وتبعا لوجود المملكة او العائلة, ان حلب مدينة مستمرة دائمة ولها قابلية غير عادية للتجدد والانبثاق مرة بعد اخرى عكس مدن اخرى كثيرة وجدت ذات يوم لسبب ما ثم غابت اذ انهالت عليها الرمال وطواها النسيان. مدينة مثل حلب لابد ان تكون شديدة الغنى مليئة بالاسرار. وعلى كل من يريد دخول هذه المدينة ان يأتيها من احد ابوابها, وان يؤذن له. فإذا اجتاز باب السر, كما يقول ياقوت, ودخل دون دليل, فلابد ان يضيع في زحام البشر وضوضاء التاريخ وسوف تختلط عليه الحقائق وتلفه الاساطير بحيث يصبح اكثر جهلا بالمدينة من قبل! يحصل ذلك اذا لم يأخذ بيده انسان يعرف المدينة واسرارها, ويقوده عبر اسواقها وشوارعها الخلفية من اجل اكتشاف المدينة الحقيقية, والتعرف على نبضها وليدرك في الختام ما يعتمل في داخلنا من افكار واحلام وهموم. وليد اخلاصي كاتب رواية باب الجمر مثل الاسدي مثل بعض المنذورين لا يكف لحظة واحدة عن التعريف بمدينة حلب وبدعوة الآخرين للتواصل معها, يأخذ بأيديهم ليقودهم في مسالكها, انه يفعل ذلك ليس لنا قبيل التعصب وانما شعوره بثقل التاريخ, وبهذه الكثافة التي تتميز بها المدينة وبارتباطها وعلاقتها بما حولها وبالتالي لشعوره ان مدينة مثل حلب تحتاج الى الكثيرين وفي مجالات عديدة, لاعادة اكتشافها, لاعادة قراءتها نظرا للثراء الذي تنطوي عليه, ولما يمكن ان تضيفه للحضارة الانسانية. ان مدينة حلب على مر العصور تردد ذكرها واكدت اهميتها, اكثر من مدن عديدة في هذا العالم. لم تكن فقط بوابة الشرق وطريق الحرير وحامية الثغور ولم تقتصر على كونها طريق الفرات والبريد ومحطة الرحالة والقناصل والجيوش ولم ينظر اليها باعتبارها توأما لاشبيلية والقيروان وفاس او صدى لبغداد والموصل ودمشق كانت شيئا من كل هذا وكانت ايضا هي نفسها اي مدينة متفردة شامخة مليئة باسرارها الخاصة وكبريائها. وهذا ما اراد ان يقوله وليد اخلاصي في روايته المهمة (باب الجمر) . واذا كان من الصعب الفصل بين المدينة وتاريخها فان من الصعب الفصل بين مدينة معينة وكتاب بالذات. فايفو اندريتش مثلا يجول في انحاء العالم الاربع ويتعرف على بلدان وثقافات عديدة, لكنه اينما ذهب وكل جديد يتعرف عليه يزيده تعلقا بالبوسنة التي ولد فيها اكثر من ذلك: حيثما ذهب يحمل معه بوسناه يحملها معه كرقية كحبل نجاة ويتعرف عليها اكثر لكي يحبها اكثر مما احبها! ووليد اخلاصي, كما اعتقد يفعل الشيء ذاته, فحلب لا تفارقه ولا تغيب عنه, لذلك لا يمل من اعادة اكتشافها مرة بعد اخرى ليزيد تعلقه بها وتاليا للحديث عنها. واذا كانت لحلب ابواب عديدة ويمكن الدخول اليها عبر اي من هذه الابواب, فإن وليد اخلاصي يروق له بل ويتعمد ان يدخل من اي باب بطريقة مختلفة عن المرة السابقة اي برغبة رؤية الباب وما وراءه بشكل جديد أي يغسل عينيه بعد كل مشاهدة بعد كل اكتشاف, لكي يرى الاشياء والبشر والحياة والتاريخ بطريقة مختلفة وكأن الاشياء تولد من جديد او تتكون في التو واللحظة. واذا كانت اسوأ طريقة للتعامل مع رواية, اية رواية هي تلخيصها اذ يصعب ذلك في اغلب الاحيان فان مجال العمل الفني ايا كان هذا العمل, رؤية او لوحة او قطعة موسيقية في ان يدخل الانسان الى رحاب العمل ذاته. اي ان يتعامل معه مباشرة, من خلال التفاصيل والدقائق الصغيرة التي تشكل نسيج هذا العمل ثم ان يعيد بناءه وتركيبه مرة اخرى اعتمادا على الادوات التي يملكها القارىء ووفقا لاحساسه وذوقه بهذه الطريقة يكتشف الجمال والمتعة. وينظر الى العمل ككل وايضا كاجزاء وبالتالي تتبين مواضع الاجزاء في البناء. وليد اخلاصي في باب الجمر يحرص على البناء الكلي للرؤية قدر حرصه على الاجزاء والتفاصيل كما لا ينسى ان يقول رأيه, من خلال الشخصيات في امور كثيرة. العمر في البلاد المقهورة مثلا يختلف عنه في البلاد السعيدة التي تتمتع بالحرية يختلف من حيث المدى والمعنى. يقول في احد الحوارات: (ما أقصر عمر الشباب في هذا البلد, تكون صغيرا فتلحق بك دودة الهرم بشراهه ويقول (استمع الى كل شيء وصدق كل شيء, ثم تعرف على الحقيقة بهدوء, تلك هي الطريقة المثلى لمعرفة التاريخ ويضيف ايضا: (ما الذي يدفعنا الى سكب الدم على الارض والدم لا يغير الارض) اما وهو يقارن سلوك المخلوقات ومن ضمنها البشر فيقول : (تصبح الذئاب وحوشا حين تجوع وتكون من ابناء الطبيعة عندما تأخذ حقها في الحياة) . اما عن العلاقة مع الطبيعة فيلخصها بكلمات قليلة, لكنها شديدة الوضوح والحسم : (الخشب انبل ما تعطيه الارض) (وان تصادق الطبيعة افضل لك من اظهار العداء لها) . اما عن جفاف النهر او انحباس المطر فيقول: (ان جحود الناكرين سبب في جفاف النهر) وانقطاع الحوار بين الارض والسماء. والعدل كما يفهمه, وكما يريده هو ان (يتوزع كلما تتوزع اشعة الشمس بالتساوى على الجميع. ويقول على لسان بطله, الصالحاني, (تظل الامور طبيعية الى ان تختل الموازين وتهتز القوانين ويسود الوهم ويفرغ العقل... ثم تعود الى طبيعتها) . هناك مقاطع كثيرة يمكن الاستشهاد بها للتدليل على الاهمية التي يوليها وليد اخلاصي للحوار الذي يجري بين ابطاله. وهذا الحوار بقدر ما يدفع الرواية الى الامام ويطور الاحداث والشخصيات فإنه يحمل في ذاته الكثير من المعاني والمواقف التي تستحق النظر والتأمل, وهذا ما يجعل الرواية بالاضافة الى كونها رواية احداث واشخاص رواية الموقف الفكري فمايضيف لها ميزة اخرى , خاصة في رحلته عبر باب الجمر , بقدر مايدهش وليد اخلاصي من أن يكون دليلا له فانه هو نفسه يندهش من خلال الاكتشاف او اعادة الاكتشاف لانه في كل مرة يجد جديدا لم يره في المرة السابقة. وقد لا يكون من الاسرار التي يمكن ان يتكتم عليها الروائي انه في احيان كثيرة يفاجأ او لم يتوقع منذ البداية, ان تكون مسيرته في دروب باب الجمر بهذا الشكل قبل ان يبدأ تلك المسيرة. لقد مزج وليد اخلاصي في باب الجمر اشياء لا يسهل امتزاجها فالتاريخ الى جانب الاسطورة الي جانب الواقع القاسي, وايضا الى جانب الاحلام والرغبات حتى تبدو هذه الاشياء كلها سبيكة قوية متماسكة, اذ تلتقي وتتداخل بذكاء وعمق بحيث يستطيع الانسان ان يقرأ التاريخ والهموم واحلام الفقراء, كما يرى اهواء الاقوياء وميولهم ثم تسلطهم وعتوهم وكيف يتصرف هؤلاء اقوياء المال والسلطة بمقدرات الآخرين وبتراث الوطن وبيع تاريخه وآثاره انهم يفعلون ذلك لقاء شيء يعتبرونه ابديا, لكن لا يلبث ان يتكشف عن وهم كبير لان قوة الحقيقة ورسوخ التاريخ وقوة الاشياء لا يمكن ان تمتهن لفترة طويلة او يجري التلاعب بها دون عقاب. رواية باب الجمر رواية مهمة وذكية لانها بمقدار ما تبحث عن باب قد يكون موهوما تحفر عميقا بحثا عن الحقيقة والوقائع والاشياء الصلبة. وهي بمقدار ما نغوص في الواقع فانها تحلق بحثا عن انبل ما في الانسان والحياة وحتى الطبيعة, كما تتوقف لحظات طويلة, وفي اماكن عديدة, للتأمل والمراجعة, وايضا لاعادة ترتيب اولويات الانسان في هذه الحياة. فالصبي الذي يولد بعد انتظار طويل, ومدى الحفاوة التي ترافق هذا الميلاد, وتتضاعف اثر كل سنة تمر ويبقى حيا, بقدر ما يشير الى ما يمثله من أهمية كركن مماثلة ولاستمرارها فانه يعكس جزءا من التقاليد السائدة اي القيم التي تحكم النسيج الاجتماعي (والتراثية) كما انه يلخص جانبا من الصراع الذي يدور بين ناس القمة اي المالكين ثم بين هؤلاء والفقراء وايضا بين الاقوياء الذين يريدون كل شيء واولئك الذين يدافعون عن حقهم في هذه الحياة, وعن كرامتهم في الوقت نفسه, حتى عندما ينصب الاغنياء الشباك لاصطياد الفقراء واعادة تدجينهم فان الفقراء رغم الحاجة لا يسلمون بسهولة, اذ يظلون يدافعون عما يعتبرونه حقا وحقيقة بغض النظر عن النتائج التي يمكن ان يؤدي اليها هذا الصراع. رواية (باب الجمر) من الروايات العربية الهامة, وهي بقدر ما تختص بحلب, اذ تقرأ هذه المدينة قراءة جيدة, فانها تحرض على اكتشاف كل ما حولنا, وتطالبنا ان نعيد النظر بالمسلمات, وان نرى الاشياء بعيون جديدة دائما, لان وراء كل بحر تاريخ, وفي كل زاوية تنهدات وغصات كثيرة, وفي كل منعطف احداث واشياء جديرة بأن تعرف من جديد. واذا كان احمد النساج, احد ابطال (باب الجمر) يقول في ختام الرواية ان الصبي الذي جاء ثم مضى (كان انتظار مولده شاقا) لكن عودته لن تكون اكثر مشقة (فان صوت هذا الصبي يسمع دائما, واثار غنائه ترددها الطيور عند الفجر) ولابد أن يأتي, او يظهر, مرة اخرى, لان (الاحساس الصادق هو الحكم على الاشياء وعلى الناس ايضا) .

Email