أجداد (صبري جاد) وأحفاده، بقلم: صلاح عيسى

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الجزء الاخير من (ثلاثية نجيب محفوظ) , وذات يوم من صيف 1937, تدور مناقشة بين فريق من طلبة الجامعة في الثلاثينات, حول تحول جمعية الاخوان المسلمين الى حزب سياسي. فيتساءل أحدهم: وما الاخوان المسلمون؟ ويرد آخر: جمعية دينية تهدف الى احياء الاسلام علما وعملا. ويضيف (عبدالمنعم شوكت) , باعتباره احد هؤلاء الاخوان المسلمين, موضحا: لسنا جمعية للتعليم والتهذيب فحسب, ولكننا نحاول فهم الاسلام كما خلقه الله, دينا ودنيا.. وشريعة ونظام حكم.. ويتساءل طالب ثالث مستنكرا: أهذا كلام يقال في القرن العشرين؟! فيجيب (عبدالمنعم) بصوت قوي: ويقال في القرن العشرين بعد المائة.. ويسأله رابع: وهل ترجمون الناس اذا خالفوكم؟! فيرد عليه قائلا: ان الشباب يتهددهم زيغ في العقيدة وانحلال في الخلق وليس الرجم بأشد ما يستحقونه, ولكننا لا نرجم, وانما بالموعظة الحسنة والمثال الطيب.. نهدي ونرشد.. ويضيف وهو يشير الى شقيقه الشيوعي احمد شوكت: وآية ذلك ان بيتنا يضم واحدا ممن يستحقون الرجم, وها هو يمرح امامكم.. وارتفع صوت الطالب الاول يقول: احترنا يا هوه بين الديمقراطية والفاشستية والشيوعية.. هذا خازوق جديد. بعد أقل من عشر سنوات على ذلك التاريخ, وفي الهزيع الاخير من احدى ليالي خريف عام 1944, تقتحم الشرطة بيت (آل شوكت) لتقود الشقيقين الى السجن, وفي الزنزانة التي ضمت كثيرين غيرهما من شباب كل الاحزاب, يهمس (الاخ عبدالمنعم شوكت) في اذن شقيقه: ايزج بي الى هذا المكان لا لسبب الا أنني أعبد الله؟! فيهمس (الرفيق أحمد شوكت) في أذنه باسما: وما ذنبي أنا الذي لا أعبده؟! وفيما بعد يقول ثالث معلقا: يجب ان تعبد الحكومة اولا لكي تعيش مطمئنا.. ولعل هذا هو السبب, في ان حملة الاعتقالات لم تشمل ابن خالهما (رضوان ياسين عبدالجواد) الانتهازي الوصولي الذي لا مبدأ له, والذي يعبر القوة ويؤيد الحكومة. ومع ان (صبري جاد) ليس من ابطال الثلاثية, اذ هو من شخصيات (المرايا) , ومع ان (نجيب محفوظ) لا يشير ـ في ترجمته له ـ الى أية صلة بينه وبين رضوان عبدالجواد, فانه يبدو تنويعه على نفس النمط الانتهازي الذي يزدحم به عالم (نجيب محفوظ) والذي يضم من انتهازيي الثلاثينات والاربعينات (محجوب عبدالدايم) بطل (القاهرة الجديدة) و(رضوان عبدالجواد) احد ابطال (السكرية) ومن انتهازيي الخمسينات والستينات (رؤوف علوان) ـ احد ابطال (اللص والكلام) و(سرحان البحيري) احد ابطال (ميرامار 3) , والاختلاف بينه وبينهم, هو اختلاف في الدرجة لا في النوع, وفي العمر لا في الاتجاه.. اذ المؤكد انهم جميعا كانوا قد شاخوا او اكتهلوا, حين ظهر صبري جاد على خشبة المسرح في اواخر عام 1967, بعد شهور قليلة من النكسة, وكان آنذاك في الثانية والعشرين من عمره. وكان صبري جاد, قد طلب من صاحب (المرايا) ان يقدمه لصديقه, الكاتب المعروف ومحقق التراث عباس فوزي لكي يجري معه حوارا ينشره في صحيفة كان ـ آنذاك ـ يعمل بها محررا تحت التمرين, ويدور حول مؤلفاته عن التراث العربي القديم.. وبعد انتهاء الحوار, استبقاه عباس فوزي واستأذنه في ان يجري معه حوارا ليس للنشر,ولكن للعلم, ولا يدور حول التراث, بل حول هذا الجيل الشاب, الذي لا يعرف الكاتب الشيخ, كيف يفكر, والى اين يسير! في البداية لم يفهم صبري جاد مغزى سؤال عباس فوزي عن القيم التي يقدسها جيل شباب الهزيمة, مما اضطره لتعديل صياغة اسئلته لكي تتناول المحسوس بدلا من المجرد.. فقال صبري جاد ردا على سؤال حول موقف الجيل من الدين, ان الايمان ـ بصفة عامة ـ لا يلعب دورا في حياة الشباب, ولكن الوضع قد يتغير بعد الهزيمة, التي يرى بعض افراد الجيل, ان اهمال الدين كان سببا رئيسيا في وقوعها.. اما التعليم فهم لا يقبلون عليه حبا في العلم, او رغبة في التوصل الى اضافات جديدة اليه تفيد الوطن والانسانية, بل فقط لكي يحصلوا على وظيفة توفر لهم الحياة السعيدة, التي هي المسكن الصحي والمأكل اللذيذ والملبس الانيق وغير ذلك من مسرات الحياة.. واعترف صبري جاد بان جيلهم لا يقرأ كتب التراث, بما فيها مؤلفات عباس فوزي, اذ لا صلة لها بزمانهم, فضلا عن ان لغتها معقدة, ومحصولها ضحل, وانهم بشكل عام يفضلون السينما والاذاعة والتلفزيون على قراءة الكتب, ولا يعنيهم الاختيار بين الرأسمالية والاشتراكية, وليس لديهم بديل عنهما, فتلك كلها ـ في رأيهم ـ عناوين.. وما يعنيهم هو ان تتحقق لكل فرد حريته ونجاحه وسعادته, وان ما يشدهم للحياة هي غريزة حب البقاء, وما يسعدهم هو لقمة سائغة وفيلم جيد وعلاقة بريئة, اي ليس استدراجا لزواج. وفي المقارنة بينه وبين ابيه قال صبري جاد: ان أباه كان مضحكا, لانه كان يقدس سعد زغلول ومصطفى النحاس وقد ثبت فيما بعد انهما اصنام لا اكثر ولا اقل.. وانه يعتقد ان العالم كله عدم وهباء, وان الوسيلة الوحيدة لتحسين احواله هي القضاء على جميع المسؤولين فيه.. وسوف يؤدي ذلك الى تحسين احواله.. وحين عبر عباس فوزي ـ في نهاية الحوار ـ عن دهشته, لانه جاء ليجري معه حوارا عن التراث الذي لا يعرفه ولا يحترمه, وعن كتبه التي لم يقرأها, لمجرد ان يتقاضى عن ذلك اجرا, لم يجد صبري جاد في ذلك ما يدعو للدهشة, ولم ينزعج حين وصف الكاتب الكبير سلوكه بأنه انتهازية صريحة وقبيحة, وقال ببساطة: وما العيب! اي وسيلة تنفع للوصول في هذا العالم المكتظ.. فهي مشروعة! والغالب ان صبري جاد هو احد ابناء محجوب عبدالدايم او سرحان البحيري او رؤوف علوان, على الرغم من اننا لا نملك مستندا يثبت هذه الصلة, ولا بد انه ـ وقد اقترب الآن من الخامسة والخمسين ـ قد اصبح صحفيا شهيرا, وقد يكون احد رؤساء تحرير الصحف العربية, ولعله يكون قد تولى الوزارة, او تفرغ لتأليف كتب في التراث الذي لا يؤمن به ولا يحترمه ولا يقرأ فيه, فالقراءة لم تعد شرطا للكتابة في زماننا, ولا بد ان له ابنا ينتمي لجيل التسعينات العربي, الذي نتحدث كل يوم عن انه لم يعد ينتمي لا للأمة ولا للوطن ولا حتى للاسرة, ولا يتحمس لشيء خارج ذاته.. وقد يكون قد انتمى لواحدة من تلك الجماعات الارهابية التي ترفع السلاح لتدافع عن الاسلام الذي لا تفهمه, ولكي تحطم ما هو قائم من دون ان يكون لديها بديل عنه, اعتقادا منها بان ذلك سوف يحسن احواله تلقائيا.. وذات يوم, فكرت في ان اجري حوارا مع شاب من جيل التسعينات, كذلك الذي اجراه عباس فوزي مع صبري جاد فانقطع بعد أول سؤال.. فقد أجابني بكل بساطة انه لا يعنيه الا ذلك الحجم الذي يشغله جسمه من الفراغ الكوني, ولا يشغله من امور العالم الا ما يتعلق به, فاتعسني ذلك تعاسة بالغة, وسألت نفسي من المسؤول عن تدهور الامور الى هذا الحد؟ فقد كان الانتماء الى الذات.. في ثلاثينيات القرن, وفي عصر محجوب عبدالدايم تيارا من بين تيارات اخرى, بل لعله كان اقلها جاذبية للشباب, فلم يعد في زمن ابناء صبري جاد احد الاختيارات المطروحة امام جيل التسعينات بل اصبح الاختيار الوحيد امامهم, كيف يكون الحال في عصر احفاده.. واحفاد احفاده؟! وكيف يحدث ذلك مع ان الامة كانت ترزح في الثلاثينات تحت نير احتلال اجنبي, يحكمها بالحديد والنار والمعتقلات والسياط. وينهب مواردها, ويسد أبواب الانتماء!!الوطن والمشاركة في تقرير مصيره امام شبابها, فأصبحت ـ بحمد الله ـ مستقلة من المحيط الى الخليج.. يحكمها ابناؤها, ويتصرفون في مواردها, ولهم كلمة في ادارة شؤونها.. فكيف تراجع الانتماء في عصر الاستقلال, عما كان عليه في عصر الاحتلال, مع ان العكس كان هو المتوقع. هل يعود ذلك لان مساحة الحرية التي كانت متاحة في عصر الاحتلال, قد اصبحت اقل مما اصبح متاحا في عصر الاستقلال, ولان الاستبداد الوطني قد ورث الاستبداد الاجنبي, بل واصبح أشد وطأة بعد ان اكتسب مشروعية بحكم وطنيته, بحيث اصبح من الشؤون الداخلية لكل بلد! تلك اسئلة لا اعرف لها اجابة محددة. اما المؤكد فان شخصية صبري جاد لم تكن لتدهش الاستاذ عباس فوزي لو انه تذكر تعليقه على الهم الذي ركب صاحب (المرايا) في الايام التالية لهزيمة يونيو 1967.. اذ قال له باسما: شاب شعرك ولم تتعلم الحكمة بعد.. ثم تساءل بسخرية: هل ثمة فارق حقا بين ان يحكمك الانجليز أو اليهود أو ابناء وطنك؟! ويا له من سؤال ـ أو جواب ـ قاس!.

Email