تعدد التعاريف للمحور المركزي للصراعات على ساحة السياسة الدولية، بقلم: الدكتور تيسير الناشف

ت + ت - الحجم الطبيعي

السؤال الذي سيطر وما زال يسيطر على المناقشات الجارية حول الشؤون الدولية هو ما هي طبيعة الصراعات على ساحة السياسة الدولية في الحال والاستقبال ؟ في السنوات القليلة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية كان من الشائع ان توصف تلك الفترة بأنها فترة ما بعد الحرب. ولكن فترة ما بعد اي شيء تتخذ في النهاية اسما مميزا لها. وفي حالة فترة ما بعد الحرب بدأ ظهور اسم مميز لها في سنة 1947 وترسخ الاسم حوالي سنة 1949 واصبحت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تدعى عهد الحرب الباردة. ولعله لم ينشأ بعد اسم مميز لوقتنا الحالي. وحتى وقت قصير كان من الشائع وصف الفترة الحالية بأنها عهد ما بعد الحرب الباردة. ولكن الاستمرار في وصف الفترة الراهنة بأنها فترة ما بعد الحرب الباردة يبدو انه من قبيل شد الاشياء اكثر مما ينبغي. ومن الناحية الاخرى فان وصف الفترة الراهنة بأنها عهد ما بعد الحرب الباردة قد يبدو سخيفا اذا قد يعني هذا الوصف عدم الاتفاق على تحديد طبيعة هذه الفترة. وفي الحقيقة انه لا توجد تسمية يقبلها الجميع لعهدنا الذي نعيشه والذي لا جدال في ان له سمات جديدة. والافتقار الى القبول العام لمصطلح او تسمية لهذا العهد يدل على الافتقار الى فهم وتفسير مقبولين عموما للحالة الدولية وعلى وجود منطلقات مختلفة ومتباينة تنطلق منها السياسات الخارجية التي تتبعها الدول على ساحة الشؤون الدولية. في العقد الحالي وضع محللون تعاريف متنافسة للمحور المركزي للصراع الدولي بعد الحرب الباردة ولطبيعة العهد الذي نعيش فيه في الشؤون الدولية. ويزيد عدد هذه التعاريف عن اربعة. ويهدف هذا المقال الى تبيان هذه التعاريف. من سمات هذه التعاريف ان محاورها او مركزها التصادم والصراع والحرب, وهي تعاريف مستمدة من عهود ماضية. الحروب العراقية (الاثنية) ركز بعض المحللين على حدوث حروب فعلية, وخصوصا الحروب المتصلة بعودة نشوء المنافسات القومية التي ميزت عهود ما قبل الحرب الباردة. لقد كان انهيار يوغسلافيا انهيار دولة متعددة القوميات. وكان انهيار الاتحاد السوفييتي انهيار امبراطورية متعددة القوميات. لقد انتهى النظامان الاشتراكيان في الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا السابقان دون ان يبذل هذان النظامان جهودا كبيرة لقمع القوى التي عملت لزوالهما. بيد انه فور انهيارهما حدث قدر كبير من العنف الدموي فيما بين الجماعات العرقية التي بقيت على خرائب الاتحاد السوفييتي ودولة يوغسلافيا المتعددي القوميات تماما كما انتهت الامبراطوريات المتعددة القوميات مثل السلطنة العثمانية. وبدت الصراعات في يوغسلافيا على نحو خاص للكثيرين من المحللين محددة لطبيعة العهد الجدد. الحروب الدينية وجد محللون آخرون بعد ايديولوجيا للعهد الجديد. بانهيار الاشتراكية بدأ منظرون يشيعون تصورهم لنشوء صراع جديد مع ايديولوجية اخرى في نظرهم تتسم بالتطرف او تحل محل ايديولوجيات اخرى. وحتى تكون ايديولوجية من الايديولوجيات قوية في السياسة الدولية فانها بحاجة الى وجود دولة تقوم بالدفاع عن العقيدة او تقوم بحمل الفكرة بوصف تلك الدولة الرئيسية المحتضنة لها والمنافحة عنها والناهضة بها. وبالنسبة الى الشيوعية ادى الاتحاد السوفييتي السابق ذلك الدور. ويرى محللون غربيون انه بزيادة قوة الحركات الاسلامية في العالم الاسلامي يبدو انه توجد اسباب وجيهة للقول بأن الصراع بين الاسلاميين والغرب سمة مميزة للعهد الجديد. حروب التجارة فور انهيار الاتحاد السوفييتي وانهيار نظامه الاشتراكي اكد عدد من المحللين على انتصار الرأسمالية الليبرالية الغربية وعلى انتشار الاقتصاد الرأسمالي السوقي العالمي, واعتبروهما الميزتين الرئيسيتين اللتين تسمان العهد الجديد. واعتقد محللون اما مواصلة لعهود ماضية او قياسا عليها, بأن الجهات الفاعلة الرئيسية في السياسة الدولية المتاجرة وليس الدول العسكرية ــ السياسية. وفقا لهذا المفهوم القوى العظمى هي الاقتصادات العظمى, اي اوروبا الغربية بقيادة المانيا الموحدة مؤخرا واليابان والولايات المتحدة الامريكية. ووفقا لهذا المفهوم فان الصراع الدولي يتخذ على نحو رئيسي شكل الصراع الاقتصادي او حروب التجارة. الحروب الباردة المجددة وجد محللون آخرون بعد من ابعاد الاستمرار او القياس في النظم السياسية والقدرات العسكرية التي ميزت الحرب الباردة. في نظر هؤلاء المحللين كان الاتحاد السوفييتي السابق مصدر تهديد بسبب مساحته الشاسعة وقوته العسكرية ونظامه السياسي العقائدي الذي كان الفرد فيه يخضع للدول خضوعا تاما او يكاد يكون تاما. وبعد نهاية الحرب الباردة كان عدد سكان الاتحاد الروسي نصف عدد سكان الاتحاد السوفييتي, وعلى الرغم من ذلك فان الاتحاد الروسي بهذه المساحة الجديدة اكبر دولة في العالم والاهم من ذلك انه بقي للاتحاد الروسي عشرون الف رأس حربي نووي, مما يجعله الدولة الوحيدة في العالم في العالم التي تستطيع ان تدمر الولايات المتحدة الامريكية. في هذه الحالة من الممكن, في رأي هؤلاء المحللين, ان تنشب حرب باردة مجددة بين الاتحاد الروسي والولايات المتحدة. وتمثل الصين شكلا مختلفا لهذا الموضوع موضوع نشوب حرب باردة مجددة. فالصين باقتصادها النامي واسلحتها النووية والعدد الضخم من سكانها وجيشها الكبير ومساحتها الشاسعة وبنظامها الذي لا يزال اشتراكيا لديها قدرات كبيرة تمكنها في نظر هؤلاء المحللين ان تشكل مجتمعة تهديدا للولايات المتحدة. بذلك بينا اربعة تعريفات رئيسية متنافسة للعهد الجديد في السياسة الدولية. ويستند كل واحد منها بالاستمرار او بالقياس, الى تجارب ومفاهيم ماضية. ويبدو ان كل واحد منها تؤيده احداث كبرى حدثت مؤخرا. وبسبب تعدد هذه التعاريف لم ينشأ توافق في الآراء على تحديد طبيعة العهد الجديد. ولقد اسهم ذلك الاختلاف وذلك التعدد في عجز حكومات غربية, مثل حكومة بيل كلينتون عن وضع سياسة خارجية متماسكة. مفهوم هننتون لتصادم الحضارات لقد استهللنا المقال بطرح السؤال: ما هي طبيعة الصراعات المركزية في السياسة العالمية؟ لقد قدم صموئيل هننتون استاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد جوابا اكثر شمولا واكثر اثارة للجدال عن هذا السؤال. لقد صنف هننتون الى حد كبير الانواع الاربعة المذكورة اعلاه للصراعات او الحروب تحت المفهوم الاعم, مفهوم (تصادم الحضارات) الذي سنعرضه بايجاز في مقال لاحق.

Email