العـلاقات السودانية المصرية (5): دور مصر:بقلم: الصادق المهدي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لقد كان للتقلبات السياسية في السودان اثراً كبيراً في اضطراب العلاقات السودانية المصرية. هنالك اسباب سأخوض في تفاصيلها في مقام آخر جعلت القيادة في مصر تخطئ كثيراً في قراءة التطورات السياسية الأساسية في السودان, ففي التاريخ الوسيط يوجد سوء فهم كامل للثورة المهدية اللهم الا لدى قلة من الكتاب استطاعوا تبين حقيقتها رغم أوهام الأغلبية. المهدية لم تكن ثورة قطرية وكانت تهدف الى اسقاط الخلافة العثمانية لإقامة خلافة اسلامية مبرأة من عيوب العثمانيين وكانت تنظر لمصر والسودان وكافة الأقطار نظرة واحدة انها ثورة وحدوية اسلامية ولكن كثيراً من المؤاخين المصريين ومن بعدهم آخرون صوروها مجرد تمرد على السلطة المصرية والبسوها ثوباً انفصالياً. وفي التاريخ الحديث قرأت أهم التطورات السياسية في السودان قراءة خاطئة: مؤتمر الخريجين. الذي اعده كثيرون اداة بريطانيه. الحركة الاستقلالية. التي عدت معادية لمصر مع ان قادتها قالوا انهم اعداء دعوى لسيادة ويسلمون بالروابط الازلية مع مصر. الحركة الاتحادية. التي عدت مشايعة لمصر دون اعتبار عامل آخر وحرصها على التخلص من الاستعمار البريطاني وقيادة المسيرة الوطنية. ثورة أكتوبر 1964. انتفاضة رجب/ ابريل 1985. ثورة الانقاذ الوطني يونيو 1989. هذه القراءة الخاطئة للأحداث السودانية مع أهمية العلاقة بالسودان خلقت توجسا نحو السودان في مصر كان من نتائجه: - تعاملت القيادة المصرية مع النظام السوداني برفض حذر مهما كانت حماقاته. - وتعاملت مع المعارضة السودانية بقبول حذر مهما كانت صحة قضيتها. هذا الحذر يمكن تفسيره بمثل سوداني: من عضه الثعبان اخافه أثر الحبل. هذا الحذر الذي حسبه كثير من المعارضين السودانيين مفيداً للنظام ربما ساهم اليوم في خلق فرصة تاريخية تساعد أهل السودان لتحقيق تطلعاتهم المشروعة في السلام العادل والديمقراطية المستدامة, وتأسيس علاقات جوار مستقره, وتنظيم العلاقة الخاصة بمصر لأول مرة على اساس مستدام. كيف؟ في تاريخ السودان الحديث اجتمعت كل القوى السياسية السودانية في القاهرة مرة واحدة بعد الثورة المصرية. كان ذلك الاجتماع مدخلاً لاتفاقية الاحزاب السودانية مما فتح الباب لابرام الاتفاقية المصرية البريطانية التي خططت التطور السياسي في السودان بعد الحكم الثنائى. كانت كافة الأطراف السودانية على استعداد لعلاقة مميزة بين البلدين فالاحزاب الاستقلالية بقيادة حزب الأمة عقدت اتفاقية الجنتلمان لتنظيم العلاقة الخاصة بمصر إذا اختار السودانيون الاستقلال وإذا التزمت مصر الحياد أثناء التنافس الديمقراطي في السودان. أما الاحزاب الاتحادية التي ضمها الحزب الوطني الاتحادي فقد كان تصورها للعلاقة اتحاديا. ولكن اخطاء معينة ولا أود تفصيلها هنا ومن نتائجها تبخرت العلاقة الخاصة مع الاستقلاليين وانقلبت العلاقة الوحدوية مع الاتحاديين وكان ما كان. للمرة الثانية في التاريخ الحديث تستضيف مصر الطيف السياسي السوداني كله. ان الشعب السوداني اثناء توتر العلاقة الحاد مع النظام السوداني عبر عن علاقته الثابتة بمصر بالاعداد الهائلة التي لجأت لمصر بنفسها وبما لها ومع اختلاف حول اعداد السودانيين فان هنالك بعض الأرقام التي تدل على هذا الاقبال: 1- تقرير لصندوق النقد الدولي لعام 1996 قدر ودائع السودانيين في المصارف المصرية بستة مليارات من الدولارات. 2- بنك الاعتماد والتجارة مصر كان العدد الثاني من قائمة المودعين من السودانيين. 3- اعلن وزير الداخلية الاسبق اللواء عبد الحليم موسى امام مجلس الشورى ان العقارات المسجلة باسماء السودانيين بلغت في عام 1993م ثمانية الآف لاشك انها زادت كثيراً بعد ذلك وصندوق النقد الدولى قدر ان عدد العقارات المملوكة للسودانيين في 93/94 يبلغ 60 الف وحدة عقارية. 4- المستثمرون السودانيون يقدرون رأس المال الصناعي السوداني في مصر 400 مليون دولار. 5- د. مصطفى السعيد وزير المالية الاسبق وعضو مجلس الشعب حاليا يقول ان الانفاق السياحى السوداني هو الأول بالمقارنة للانفاق العربي السياحى في مصر ويأتى الانفاق السياحي السوداني في المرتبة الثالثة من كل الانفاق السياحى في مصر. هذه مجرد امثال لقياس حجم ونوع الوجود السوداني في مصر, اذ ان أهل السودان عندما طردهم الوطن قرروا اين هو وطنهم الآخر. والان امتد جسر جديد بين مصر والنظام السوداني. والموقف السوداني خلاصته الحالية: - المعارضة ماضية في تصعيد الضغط على النظام حتى الانتفاضة الشعبية المأمولة. - النظام السوداني ماض نحو الدفاع عن نفسه متمسك باجندته الراديكالية وشبكتها الأممية. وربما وجد داعيا مؤقتا للعودة لخطة التنمية. ولكن تستطيع مصر امام هذه الفرصة التاريخية ان تقوم بدور حاسم اذا رمت بثقلها كله في اتجاه محدد هو جمع كافة الأطراف السودانية في لقاء جامع لتحقيق السلام العادل والديمقراطية التعددية وحسن الجوار بين السودان وجيرانه والاتفاق على آلية انتقالية يقبلها الشارع السياسي السوداني ووضع اساس للمساءلة عما حدث. هذا اللقاء الجامع سيكون تطويراً لاجتماع الايجاد وهو وسيلة لتصفية سلمية للنظام على نحو ماحدث في مالاوي وهاييتي وجنوب افريقيا وغيرها من البلدان التي سلمت الدكتاتورية فيها بانهاء الحرب الأهلية القائمة على اساس سلام عادل وبانتقال السلطة الى كيان سياسي ديمقراطي عبر الاحتكام للشعب. ان الدور المصرى المقترح هنا صار ممكناً اليوم كما لم يكن ممكنا في اية فترة منذ استقلال السودان على ان يخطى هذ الدور بتنسيق مع الدور الافريقي كما تمثله جماعة الايجاد وبدعم عربي اسلامي. هذا الدور لن يغلب الدبلوماسية المصرية اذا توافرت الإرادة القاطعة وصحبتها ثلاثة أمور: الأول: لا مجال للمناورات ولا للاتفاقيات الجزئية ولا للاتفاقيات الثنائية. بل اساس دستورى سياسي جديد للسودان يبرمه السودانيون. ثانياً: متابعة ومراقبة وشهادة اقليمية ودولية تؤكد نزاهة وصحة وسلامة وحرية كافة الاجراءات حتى المرحلة النهائية. ثالثا: فتح الطريق لاستنفار عربي وافريقي ودولى لصالح اعادة تعمير السودان في عهده الجديد. ختاماً: نظام الانقاذ في السودان حطم كافة طرق التواصل المعهودة بين القوى السياسية السودانية والطريق الذي ابقى عليه هو طريق قم وقاتل فاما قاتل أو مقتول. هذا القتال المتصاعد ماضى نحو غاياته وسوف تزيده حماقات النظام إذا هو اقدم على قمع المواكب الشعبية اشتعالاً. ولا يحول دون استمراره إلا امران. الأول ان تندفع الانتفاضة الشعبية المأمولة فتضعف بالنظام. الثاني: ان تدرك مصر ان امنها القومى وعلاقاتها الأزلية مع السودان وكافة مصالحها الوطنية بل ودورها الحضارى مهدد بالتآكل اذا لم تقدم بالتنسيق مع الأطراف المعنية على وضع النظام السوداني امام خيار واضح تعالوا الى كلمة سواء مع اهل السودان ان يكون فيها الاحتكام للشعب السوداني أو ان مصر سوف تقف موقفاً واضحاً مع الشعب السوداني وبكل الوسائل المتاحة لتحقيق اهدافه المشروعة. لقد جعل النظام السوداني الشأن السوداني مستباحاً فخاض فيه القاصى والداني فخوض مصر فيه من باب أولى ودورها المنشود ليس تدخلاً في شؤون الغير بل هو محاولة اخيره لاعطاء النظام السوداني فرصة لمخرج لحقن الدماء فان اصر واستكبر استكباراً فلابد مما ليس منه بد. ان لمصر دوراً خاصاً في مراعاة سلامة السودان فإن لم تقم به رميت بالتقصير وان لها دوراً قيادياً عربياً افريقياً اسلاميا لاسيما في عصر صار فيه للكيانات الحضارية دوراً اكبر وصار من واجب الدول القيادية في كل كيان حضارى ان تسعى لحماية قيم حضارتها ورفاهيه شعوبها وان تسعى لحوار بين الحضارات يمكنها من الاتفاق على قيم مشتركة معنوية وسحيه تؤسس نظاماً عالمياً حقيقياً ولايكون مجرد غطاء لهيمنة عالمية تفرضها الحضارة الأقوى وتسميها عولمة. عيدى أمين, وبول بوت, وبوكاسا, وموبوتو, الذين اشقوا شعوبهم وهددوا جيرانهم اضطروا جيرانهم لمواجهتهم عسكرياً. الشعب السوداني لايطالب مصر بهذا وهو بعون الله قادر على تحقيق تطلعاته المشروعة. لابد من صنعاء وان طال السفر. ولكن يمكن لمصر ان تقوم بالتحرك المفصل هنا لمساعدة الشعب السوداني والظروف الوطنية والاقليمية والدولية مؤاتيه. ان لربكم في دهركم نفحات الا فتعرضوا لها. رئيس الوزراء السوداني الأسبق

Email