أزمة كلينتون ونظريات الماوردي: بقلم: محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

رغم ان القوم في بورصة وول ستريت الشهيرة في نيويورك يتعاملون في كل لحظة مع الارقام والاحصاءات وكشوف البيانات الحسابية الصماء , الا انهم مشهورون في الحياة الامريكية المعاصرة بأنهم يردون على الازمات الناشبة باطلاق نكتة تلخص موقفهم من المشكلة او حتى الكارثة. ولم يكن بالغريب ان تسارع الصحف الامريكية الى رصد اول نكتة شاعت في دوائر المال والاعمال في (وول ستريت) ازاء الفضيحة ــ الكارثة المحتدمة حاليا بالرئيس بيل كلينتون ـ والنكتة تقول: كان كلينتون يتمشى حائرا مهموما في صحراء اريزونا واذا به يعثر على مصباح علاء الدين الشهير وما ان دعك المصباح حتى خرج له الجن المسحور بقدراته الخارقة يهتف في وجه الرئيس الامريكي: ـ شبيك لبيك فخامة الرئيس امرك مطاع ايها المهاب وكل امكاناتي المهولة تحت امرك. ـ اريد ان ادخل التاريخ.. ابحثا لي عن حل بتسوية سلمية معقولة في الشرق الاوسط. ـ ياصاحب الفخامة.. رغم ان قدراتي مهولة لكن انظر الى خريطة الشرق الأوسط وسترى كيف ان احوالها مضطربة وامورها مختلطة وحل مشاكلها مستحيل حتى بالنسبة لواحد من عالم الجن الخارق المسحور. ارجوك مستر كلينتون.. ابحث عن امنية اخرى احققها لك في التو والحال. ـ طيب اريدك ان تخرجني من ورطة الفضيحة المحتدمة بي في البيت الابيض. ـ فخامة الرئيس.. الامريكي.. دعنا ننظر الى خريطة الشرق الاوسط من جديد! هكذا أثرت بورصات وول ستريت ان تلخص موقفها من الورطة السياسية ــ الاخلاقية ــ الدستورية التي تواجه رئيس اكبر واقوى دولة في عصرنا. والاعجب في الامر ان هذه الورطة او الازمة يطرأ عليها من تغيرات جديده على مدار الساعة بحيث تصبح الكتابة عنها امرا هو من الصعوبة بمكان.. فأنت اذا وقفت عند تحليل موقف هذا الطرف او دراسة تصريحات ذلك الطرف.. لا تلبث ان تجد نفسك بفعل الايقاع السريع للتطورات المستجدة وكأنك تكتب تاريخا, خاصة وان سيرك الاعلام ـ الميديا بكل جبروتها وسطوتها واحيانا قسوتها المهنية, والميديا هنا كائن خرافي بلا قلب وسواء علينا خرج السيد بيل من ورطته سليما او مثخناً بجراح بسيطة او كبيسة, فالامر لا يهمنا نحن في الوطن العربي الا من جانبين أساسيين. ـ الاول انعكاسات التغييرات السلبية او الايجابية في الزعامة الامريكية على القرار الامريكي ومن ثم على مصالحنا القومية المتشابكة مع المصالح الامريكية وهي متنوعة وكثيرة. ـ الثاني الدروس المستفادة بالنسبة لنا من هذه الدوامة التي تتحرك امام اعيننا وتستحق ان نرصدها من شتى ابعادها بهدف اثراء خبرائنا كاتبين او قارئين بتلك الابعاد والتطورات الحاصلة في القطب الاعظم من عالمنا المعاصر. من هنا فلقد آثرنا ان نقف في هذا الحديث عند ما توافرنا على رصده من الابعاد الدستوري والسياسية والاعلامية والقانونية من المأساة التي تمثل فصولا على مسرح السياسة الامريكية وبما يفيد في تبصير رؤية القارئ بحيث يتمكن من قراءة ذكية وتفسير لماح لما قد يطالعه من اصوات واداء وتطورات. ولقد نبسط رؤيتنا هذه في عدد من النقاط او المحاور الاساسية نلخصها فيما يلي: ..(1) مازال المواطن الامريكي العادي, وهو بالاساس الناخب التي يدفع بممثليه الى المجلس المحلي او الى مجلس الكونجرس وحتى الى مقام الرئاسة الاولى في البلاد ــ مازال ينظر الى الامور بمقياس اخلاقي يخضع لموازين رفض الانحراف والخطأ ويدين الكذب والسلوك اللااخلاقي. ليس صحيحا ان تلك الصورة النمطية الجامدة التي رسمتها مسلسلات (دايناستي) او (دالاس) او (الجرىء والجميلات) وما في حكمها للحياة الامريكية نساء رائعات الجمال متهاونات في الاخلاق, رجال اقوياء النفوذ ولكن تقودهم الغرائز, مجتمع سطوة المال والخيانات والشهوات.. تلك صورة ترسمها هوليوود لزوم التصدير لكي يسيل لها لعاب العالم الثالث التاعس والمكبوت والمحروم وهي اقرب الى (هرش المخ) كما يقول المصريون. والحقيقة ان بدأ اوساط الامريكيين يشتكون ازاء رذاذ الفضائح الاخيرة في البيت الابيض, من ان مضامين تلك الحكايات والفاظها ومساراتها اصبحت تسبب حرجا يحمر له جبين الآباء في بيوتهم ويحول بينهم وبين مناقشة امور السياسة واحوال الرئاسة والزعامة في بلادهم بعد ان اصبحت تلك الامور والاحوال اقرب الى افلام البورنو التي تدخل في الادب ــ او بلأدق قلة الادب ــ المكشوف بفصوله الخليعة والفاظه البذيئة المكشوفة ــ هو ادب الفراش كما قال يوما الاستاذ عباس العقاد ولكن الفراش هنا رئاسي ويخص اكبر شخصية في البلاد وهو الشخصية التي دفع الناخبون بصاحبها الى المكتب البيضاوي ليقود الامة الى تحديات القرن الحادي والعشرين ..(2) أعادت أزمة الرئيس كلينتون الحالية إلى الاذهان وقائع دخلت من قبل سجل التاريخ الأمريكي المعاصر وفي مقدمتها بالطبع ووترجيت التي أصبحت ــ كما هو معروف ــ علماً على الفضائح والانحرافات التي ترتكب على أعلى مستويات القيادة أو الزعامة أو المسؤولية في الولايات المتحدة واليها تنسب سائر الفضائح والانحرافات الكبرى: إيران ــ كونترا جيت (في عهد ريجان) أو وايت ووترجيت (في عهد كلينتون أيضا). واعادت إلى الأذهان أيضا ما شهدته الأجيال الماضية في امريكا من انحرافات وسلوكيات رئاسية كانت معيبة بدورها أوروبا لم تكن متكررة أو ساخرة كما هو الحال مع رئاسة السيد (بيل) الحالية.. اعترف الأمريكيون بأن كثرة من رؤسائهم كانوا يتخذون خليلات أو كانت تربطهم علاقات عاطفية بصورة من الصور مع نساء خارج رابطة الزواج.. ومن هؤلاء كان روزفلت الذي يقال انه مات بين يدي صديقته في منتصف الأربعينات, أو جونسون الذي عشق سكرتيرته ومن قبل كان كولدج وكان ويلسون طبعاً ناهيك عن الرئيس جون كينيدي الذي كان القوم يعرفون أطرافا عن علاقته بفاتنة عصره ــ مطلع الستينات نجمة الإغراء مارلين مونرو, ثم توالت التحقيقات التاريخية عبر العقود الثلاثة الأخيرة تكشف عن غراميات كينيدي وكان آخرها, وربما أخطرها الكتاب الصادر في أواخر العام الماضي بعنوان (الجانب المظلم) من كاميلوت بمعنى (الجانب الأسود من البيت الأبيض) وقد بادرت (البيان) إلى تقديم عرض واف له إلى قرائها الاعزاء. ..(3) على أن مناط مثل هذه الانحرافات لا يتمثل وحسب في انها تمثل خروجا عن السلوك القويم دنيا وعرفا وأخلاقا ومناقب على نحو ما ينبغي أن يتحلى به أو يعلو إليه الزعماء والرؤساء. ان الأمر يتعدى ذلك الجانب الأخلاقي الصرف وهو بحد ذاته مهم ومفهوم ــ ليصل في خطورته إلى أمرين: * أولاً ان الانحرافات, فضلاً عن الانغماس في حمأتها وتكرار تواترها ان تعني ان الزعيم المقيم في البيت الأبيض يخرج عن مقتضى العقد الاجتماعي ــ السياسي المبرم بينه وبين جماهير الشعب التي انتخبته إلى منصبه السامي الرفيع.. ومن مناقب الزعامة ضبط النفس ومنازعة الأهواء وسد الذرائع التي يمكن أن ينفذ بها المغرضون أو المتواطئون أو المتآمرون إلى شخصية الرئيس أو الزعيم.. وأي خلل أو إخلال في هذا الصدد هو إسقاط لبنود هذا العقد غير المكتوب أو هو خروج على مقتضى ولاية التكليف الديمقراطي الذي عهد به الشعب الناخب إلى الرئيس المنتخب. * ثانيا ان محور الخطر ومكمن الخطورة لا يتمثل فحسب في أن الرئيس أو الزعيم قد استلم للأسف إلى شهوة بشر أو إلى ضعف إنسان وهذا في حد ذاته سلوك لا يليق به ويستحق الادانة.. لكن الأمر يتعدى بدوره إلى مجال آخر أشد خطورة وأفدح نكراً وهو: ** اساءة استعمال السلطة وإذا كان النظام السياسي الأمريكي يقوم ــ كما هو معروف ــ على المبدأ الجوهري ــ ونسميه نحن المبدأ الذهبي النفيس ــ الذي تلخصه عبارة (التوازن والرقابة المتبادلة بين السلطات) وهو ــ كما سنظل ننبه ونكرر وانما جوهر نظرية الفصل بين السلطات التي تشكل بدورها محور الممارسة الديمقراطية الحقيقية ــ يعج من واجب السلطتين الاخريين: الشريعة (الكونجرس) والقضائية (المحكمة الدستورية العليا) ويضاف إليهما السلطة الرابعة المجسدة في الصحافة بوصلها ممثلاً للرأي العام ــ ان تقف بوجه رئيس السلطة التنفيذية ولسان حالها يقول: ـ صاحب الفخامة. قف مكانك. ان المسألة ليست مجرد استسلام للشهوات وهو ما لا يليق بك كقائد البلاد ولكنها أخطر من ذلك بكثير ان ريتشارد نيكسون كان من أمهر وأهم رؤساء أمريكا في العصر الحديث ــ ونحن لا ننسى انه الرئيس الذي دق أبواب سور الصين العظيم وبدأ العلاقات السياسية بين بيجين (واشنطن, ومع عهده اكتمل الوفاق بين أمريكا والسوفييت لصالح أمريكا طبعاً, وفي عهده انفتحت أبواب الشرق الأوسط أمام سياسات واشنطن ومصالحها.. وفي عهده انتهت مأساة حرب فيتنام وبدأ تضميد جراحاتها ووقف نزيفها ــ بيد أن كل هذه المآثر لم تنقذ ريتشارد نيكسون من عقابيل فضيحة ووترجيت.. ولم تكن مأساتها أو خطيئتها مقصورة على الفعل بحد ذاته ــ وهو التسلل بليل إلى مقر الحزب الديمقراطي المعارض في ضاحية (ووترجيت) لسرقة وثائق أو التلصص على أسرار الخصوم ــ لكن أخطر ما فيها كان يتمثل في أن رئيس الجمهورية شارك في التغطية على هذه الفعلة وشارك في اخفاء أسرارها أو دفن تلك الأسرار وكأنه رئيس عصابة وليس رئيس أكبر دول العصر.. ولجأ في لفلفة الأمر إلى تصريحات مكذوبة استطاعت الصحافة (واشنطن بوس أساسا) أن تكشف كذبها وان تسلط الضوء على (كل رجال الرئيس ــ فاذا بهم أمام الشعب والرأي العام مجموعة من الكذبة والنصابين والدجالين وقبل ان يحال الرئيس شخصياً إلى المحاكمة حسب أصول الدستور, سارع إلى الاستقالة وخرج من البيت الابيض ومن تاريخ المجد ودخل الى التاريخ عبارات من قبيل (أنا لست نصابا ولا محتالا) وقد ثبت انه كذلك, او من قبيل: هذا هو الرجل الذي كذب على الأمة) . ومرة اخرى فان الخطأ الكبير هو ان يستسلم القائد لشهواته ويتصرف بغير احساس بالمسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتقه بموجب الدستور, لكن الخطيئة الاكبر هو ان يلجأ الى التغطية على التحقيق في الأمر والى تحريض الشهود على افادات مكذوبة وذلك امر مؤثم بحكم القانون لانه يدخل تحت طائلة مايلي: - الادلاء او التحريض على الادلاء بشهادة زور بعد حلف اليمين. - اعاقة سير العدالة. - التلاعب بشهادات الشهود. ..(4) ان النقد الاجتماعي السياسي الذي نشير اليه هو ما المح اليه ايضا العلامة الماوردي في (الاحكام السلطانية حين قال: واذا قام الامام (يقصد الزعيم او الحكم الرئيس) بحقوق الأمة فقد ادى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم ووجب له عليهم حقان هما الطاعة والنصرة مالم يتغير حالة والذي يتغير به حاله فيخرج به عن الامامه (بمعنى يجرده من حق الرئاسة او الزعامة) شقيان احدهما جرح في عدالته والثاني نقص في مبرته. فأما الجرح في عدالته وهو الفسق (تأمل !) فهو على ضربين: أحدهما ما تابع فيه الشهوة والثاني ما تعلق فيه بشبهه. فأما الأول منها فمتعلق بأفعال الجوارح وهو ارتكابه للمحظورات واقدامه على المنكرات تحكيما للشهوة وانقيادا للهوى فهذا فسق يمنع من انعقاد الامامة ومن استدامتها..) . هذا اذن ما ذهبت اليه منذ عهد الماوردي العظيم (من 900 سنة) بمنع انعقاد الامامة ومنع استدامتها وهو ما تترجمه النظرية السياسية الامريكية في ما تعرفه بانه عملية محاسبة رئيس الدولة (امبيت شمنت) وهي عملية طويله ومعقدة تأتي على ذكرها بالذات المادتان الاولى والثانية من الدستور الامريكي ونذهب (في الباب الرابع من المادة الثانية) الى تنحية الرئيس او نائبه او الموظفين العموميين من مناصبهم عندما يقعون تحت طائلة هذه المحاسبة ومن ثمة يدانون (بتهمة) الخيانة العظمى او الرشوة او غيرها من الجراثم الجسيمة او انحرافات السلوك. وتقيم عملية المحاسبة هذه من خلال مجلسي النواب والشيوخ وهي عملية خطيرة من ناحية ونادرة الحدوث من ناحية اخرى, فلم يتعرض لها في تاريخ الرئاسات في الولايات المتحدة سوى رئيس واحد اسمه اندرو جاكسون ثبت اتهامه بطرد احد وزرائه بغير جريدة في اطار الاعتساف في استخدام السلطة في حين ان سارع نيكسون الى الاستقالة ونفذ بجلده قبل أن يقوم الى هذه المحاسبة او المحاكمة الرئاسية وكان ان سارع خليفته ــ جيرالد فورد ــ الى اصدار عفو رئاسي عام عن نيكسون اعفاه من مغبة المحاسبة وان لم يبيض وجهه في صحائف التاريخ. ..(5) آخر ملاحظاتنا لابد وان تلفت النظر الى تلك السطوة الرهيبة التي باتت تتمتع بها الميديا في الحياة العامة الأمريكية. وقد نركز على العامل المستجد في هذا المضمار, وهو الميديا الالكترونية التي بدأ القوم يحسبون لها الف حساب. فلم يقتصر الأمر في تشكيل اتجاهات الرأي العام على الصحف او الاذاعات, بل ها هي الانترنت وشقيقاتها: امريكا على الخط تنشر اسرارا وتبث صورا وتذيع آراء تدخل البيوت وتنفذ الى العقول وتخالط جماهير المستقبلين صباح مساء وتشكل تأثيرا غير مسبوق في دنيا السياسة والاعلام. بقي ان نلمح من زاويتنا العربية بالذات الى ان المرء يكاد يلمح اصابع يهودية من ثنايا هذه الدراما التي تتابعها على مسرح السياسة الامريكية.. الفناة التي تورط معها الرئيس كلينتون يهودية والناشرة الادبية التي نصحت بالتنصت على مكالمات الرئيس وتسجيلها تمهيدا لادانته. يهودية.. والسيد آل جور الذي بدأ البعض يصفونه بانه السيد الرئيس (المقبل او المرتقب) جور امه.. يهودية.. والميديا في مجملها بكل هولها وهيلمانها في امريكا يسيطر عليها اليهود.. والمستفيد في حال إعطاب الرئاسة الحالية في البيت الابيض وشلها عن الحركة هم اليهود بمعنى أن من شأن رئيس امريكي غارق في دوامة قضايا يدافع فيها عن مجرد وجوده, ان يعجز عن اي ضغط عن اسرائيل, وان يتيح لها بالتالي الاستمرار في مخطط فرض الأمر الواقع بالاستيطان على حساب الاراضي العربية وايضا من شأنه, ولو من باب حلاوة الروح ان يشن هجمات عنترية على العراق كي يثبت لشعبه وربما للعالم انه مازال قائدا أعلى يملك القرار ويؤثر على مجريات الامور.. وكله يصب في صالح اليهود.. او بالأدق اصحاب المشروع الصهيوني في ارضنا المحتلة, قاتلهم الله أنى يؤفكون.

Email