العودة إلى اسس القضية في مفاوضات الوضع النهائي: بقلم: توجان فيصل

ت + ت - الحجم الطبيعي

يشار إلى المفاوضات التي ستبدأ بين السلطة الفلسطينية واسرائيل باعتبارها (مفاوضات الوضع النهائي) , وهذه التسمية اطلقتها اسرائيل الان وفي الوقت المناسب لها, بعد ان زرعتها لاستعمال قادم في اتفاقية اوسلو, واسرائيل تعلم ان هذه ليست اتفاقية نهائية, ولن تكون كذلك, وستزرع فيها ما يخدم ويمهد لخطتها التالية وللمرحلة التالية, كما تفعل دائما, ولكنها اوهمت العرب والعالم بأن صيغة الاتفاقيات الناتجة عن هذه المفاوضات يجب ان تعتبر نهائية لتضمن لاحقة, فاسرائيل التي توهم العالم بأنها ستغلق مرة وإلى الابد الملف الساخن للشرق الاوسط, تطلب في الحقيقة يدا مطلقة ليس فقط في كيفية الاغلاق, وتوقيعا دوليا عليه, بل ان هذا التوقيع الدولي سيعطي شرعية ودعما دوليا لما تضمنه اسرائيل في تلك الاتفاقيات عبر يدها المطلقة تلك, مما يرتب استحقاقات مستقبلية لا يصرح بها الاسرائيليون الان, ولا يعني العالم باستقرائها ولم يحسب حسابها العرب, كما فعلوا دائما هم ايضا. أي ان ما نريده اسرائيل من هذه الصيغ الاتفاقية ان تكون (نهائية) , بمضمونها, ولكنها لن تكون نهائية زمنيا, اي ان ما ستسميه اسرائيل تفاصيل (التنفيذ) و(الاستحقاقات) سيمتد حتما إلى سنوات مقبلة, وهنا يكمن خطر المخطط الاسرائيلي, وهنا يجب الاحتراز بالذات. لقد قفز العرب, بجهل أو بتبعية أو بما هو اسوأ من الاثنين, عن اهم الضمانات المستقبلية لاي من حقوقهم الاساسية في الاتفاقيات الثلاث التي وقعوها, وهي كامب ديفيد ووادي عربة واوسلو, وبما ان المساحة هنا لا تتسع لبحث هذه الاتفاقيات ومدى التسليم الوارد فيها, ولان موضوعنا هنا هو الاتفاقية المقبلة باسم (الوضع النهائي) , وليس ما مضى من اتفاقيات, فاننا نشير فقط على سبيل العينة وليس الحصر إلى بعض التفريطات الاساسية في الاتفاقيات الثلاث مما ينعكس الان على هذه (التسوية النهائية) , للوضع الفلسطيني بالذات. فكامب ديفيد مثلا, لم تتمسك بمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها في اشارتها إلى القضية الفلسطينية, وهذا مبدأ ما كان يجب لمن اختار الصلح المنفرد الا يغض الطرف عنه دون ان يحمل مسؤولية ما يتم على الاطراف والجبهات الاخرى لاحقا, أما وادي عربة فقد رسمت حدودا دولية مع اسرائيل ــ اي اعترافا بان ما وراء هذه الحدود هو اسرائيل حسب القانون الدولي الذي يحكم هذه الاتفاقيات ـ واكتفت برفع العبث الشكلي عنها بالقول بأن هذا لا يؤثر على اية اتفاقيات لاحقة بين الفلسطينيين واسرائيل, فهل في هذا اية ضمانة أو تثبيت لأي حق فلسطيني, وهل يلزم اسرائيل, أو اية دولة معترف بها في الامم المتحدة, اذن من دولة مجاورة اذا ارادت ان توقع اتفاقيات اخرى تتنازل فيها عن اي جزء من اراضيها لطرف ثالث, أو تعيد اراضي احتلتها تعود لذلك الطرف الثالث. اما اوسلو, فانها الاسوأ على الاطلاق, كونها اجلت كل القضايا الرئيسية والتي تنتظم الحقوق الاساسية للشعب الفلسطيني إلى المرحلة النهائية, ومنها الحدود وطبيعة الدولة وصورتها, والقدس, واللاجئين والنازحين, والقبول بمرجعية (التفاوض) وحده, وليس مرجعية الحق الثابت, هو تنازل عن ذلك الحق بدرجة أو بأخرى حسب ما تحدده نتائج التفاوض ذاك, وكان الاجدى بهذا (الانفراد) الفلسطيني السري, أو بالاحرى انفراد رأس السلطة الفلسطينية, اذ لم يشرك في اوسلو سوى رئيس السلطة وعدد ضئيل من معاونيه, ان يصر على الاقل على الحقوق الفلسطينية الاساسية ويشير لها بالتحديد وحسب المبادىء والقوانين الدولية الداعمة لها, ثم حسب القرارات الدولية الصادرة بشأنها, كي لا يتم التلاعب بفحوى ومضمون وكيفية تطبيق هذه القرارات على الارض, فاذا كانت حجة رئيس السلطة الفلسطينية في انفراده خوفه من تفريط يجري خلف ظهره, فالمؤكد ان اية دولة عربية ما كان بامكانها ان تجاهر بأنها وقعت على بعض ما وقعت عليه السلطة الفلسطينية في اوسلو, والدليل هو ان اسرائيل تعلن منذ مدة ان (وادي عربة) كانت جاهزة للتوقيع منذ عام 1986, وان اعلانها فقط هو الذي تأجل إلى 1994, ولا نسمع انكارا اردنيا صريحا ولا مواجهة لاسرائيل لبيان كذبها في هذا الشأن. والجانب الاردني وجد فرصته فعلا في اوسلو ليخرج باتفاقيته إلى العلن دون ان يتمكن الفلسطينيون من مؤاخذته أو محاسبته عليها. ويبقى الفارق الاساسي بين ما وقعته مصر والاردن وما وقعته السلطة الفلسطينية, هو انه في الحالتين المصرية والاردنية, هناك دولة ذات سيادة توقع مع دولة اخرى ذات سيادة, وانه بالرغم مما نتحفظ عليه من تنازلات جرت في الاتفاقيتين, فان وضع المصريين والاردنيين ــ كشعوب ــ افضل بكثير, لان وجود دولة لهم يمكنهم مستقبلا من ايجاد موطىء قدم دولي ومشروع للمطالبة بحقوق تم التفريط بها على ايدي حكومات بعينها تفتقد للشرعية الشعبية الديمقراطية, رغم ما تدعيه وما ادعته الاطراف المستفيدة من توقيعها, وعلى اقل تقدير, فان وجود دولة ذات سيادة, يمكن تلك الشعوب من ضمان عدم التورط في تنازلات وخسارات مستقبلية, ويصبح التقاط النفس, واستعادة دور الشعوب المغيبة عن القرار السياسي شأنا داخليا محضا لا يتعرض لضغوطات خارجية, بل وشأنا داخليا يجد دعما دوليا باعتبار ان لا احد يمكن ان ينكر على شعب حقه في الديمقراطية وحقوق الانسان والمواطن الاساسية. اما في الحالة الفلسطينية, فان نقطة الضعف الرئيسية هي عدم وجود دولة فلسطينية تفاوض دولة اسرائيل واذا كانت اسرائيل تصر على عدم اعطاء الفلسطينيين دولة, فإنها انما تفعل ذلك للاحتفاظ بهذا التفوق النوعي لصالحها, ولكنها حتما ستقبل بالدولة اذا كانت بمواصفات تفقد الشعب الفلسطيني من حقوقه اكثر مما تبقى له. ومن هنا وبناء على ما قلناه عن مكامن القوه الشعبية والفرص المستقبلية المتبقية للشعبين المصري والاردني ضمن اطار الدولة التي لايمكن فصلها عنهم او فصلهم عنها فإن المخرج الفلسطيني يكمن ايضا في اعادة الثقل للشعب الفلسطيني كعنصر أدل واساسي في الدولة وحتى كعنصر سابق على الدولة, وقائم بذاته وبكامل حقوقه والتي تكون الدولة جزءا منها نابع عنه حق تقرير المصير. وبعد حق تقرير المصير, او ضمن تفاصيله, لابد ان تثبت كل الاتفاقيات المقبلة حجم هذا الشعب وتعريفه الحقيقي, فالفلسطيني يجب ان يكون, حيثما يذكر او يشار اليه في تلك الاتفاقيات, المقيم في الضفة المحتلة وفي الشتات ايضا, وهذا يمكن تحقيقه باكثر من طريقة مباشرة وغير مباشرة. ومن الطرق غير المباشرة, الاصرار على اشراك الفلسطينيين المقيمين في الخارج, سواء في العالم العربي أو غيره, والمقيمين في الاردن بالذات, في مفاوضات المرحلة النهائية عبر اشراك رموز قيادية لهم في ذلك الشتات من حملة الجنسية والجواز الخاصين بدول الشتات تلك, وعلى الاردن ان يشجع هذا, لانه اذا كان الفلسطينيون يستفيدون منه باعتبار ان توطينهم في اي مكان في العالم مع استحقاقات المواطنة الكاملة لايسقط مواطنتهم الفلسطينية) او هويتهم الفلسطينية, فإن الاردن, المتخوف من مخططات الوطن البديل, يستفيد من هذا الاجراء بالالتفاف على طروحات الوطن البديل. اما الطرق المباشرة لاعادة توحيد الجسم الفلسطيني في نصوص الاتفاقات المقبلة فأهمها الاصرار على حق العودة والتعويض للاجئين والنازحين, ونذكر هنا بأن المطلوب هو العودة (و) التعويض وليس العودة او التعويض كما يدس ويحرر من اكثر طرف اسرائيلي او امريكي او حتى عربي وفلسطيني.. فالقوانين الدولية تنص على العودة كحق لكل مهجر, والتعويض ليس عن ذلك الحق, بل هو حق آخر مقابل معاناته وخسائره طوال فترة الهجرة واللجوء القسريين وحتى لو لم يتم بحث تفاصيل ذلك الحق وآلياته بالدقة اللازمة ــ رغم ان كل سنتمتر يقطع في ذلك الاتجاه هو اسراع بتطبيق ذلك الحق ويجب الدفع بقوة نحوه ــ الا ان اقرار الحق واستخلاص التزام به صريح وواضح وغير قابل للتأويل هو الاهم في المرحلة الحالية, وما يحققه اقرار حق العودة هو اكثر من مكسب مستقبلي واكثر من موطىء قدم لاستعادة العديد من الحقوق الاخرى للشعب الفلسطيني ومنها: اولا: ايقاف التفريغ القائم والمستمر للارض المحتلة من ابناءها. ثانيا: التصدي لعمليات الاستيطان السابقة والحالية والمستقبلية كون التفريغ يصاحب الاستيطان وكون امكانيات الاستيعاب للارض في الاولى تؤثر على الثانية, حتى لو اريد اعتبار المستوطنين مواطنين يختارون العيش في الدولة او الحكم الذاتي الفلسطيني. ثالثا: نزع شرعية تملك اسرائيل لاراضي اللاجئين والنازحين بأي عذر. رابعا: تحقيق تفوق ديموغرافي عربي في مواجهة المستوطنات, خاصة في المناطق التي ستحتفظ بها اسرائيل لذاتها, وهي الاوسع او الاهم استراتيجيا, او كليهما معا وهذا اهم عنصر لاضعاف السلطة الاسرائيلية مستقبلا على الجزء الذي تصر على الاحتفاظ به يمكن ان يصل الى حدود تدفع الى استجابات جديدة او لاي ترتيبات اخرى تتجاوب مع استحقاقات التفوق الديموغرافي, وهي انسحابات او ترتيبات ستتخذ في الاغلب الطابع السلمي او شبه السلمي. خامسا: ابقاء شرعية النضال لكامل الشعب الفلسطيني حيثما وجد باعتباره شعبا ذا استحقاقات متفق عليها ومسلم بها تتجاوز ما يمكن تحصيله على الارض حاليا ومباشرة ضمن الامكانات العربية الحالية.. ومثل هذه الشرعية قادرة على الاستفادة ليس فقط من الضغوط السلمية او السياسية, بل من الضغوط والخيارات العسكرية في المنطقة ضمن واقع ومصالح وتحالفات منظورة او غير منظورة حاليا, ولكنها متغيرة حتما بأكثر مما هي في مناطق اخرى من العالم لاتحظى بهذه الاهمية الاستراتيجية. سادسا: توفير ظهير سياسي للسلطة الفلسطينية في الخارج يعينها على تجاوز واقعها المحدود في الداخل دون ان تضطر لالحاق نفسها بأية دولة اخرى لمجرد تجاوز سلبيات ذلك الواقع. سابعا, حق التعويض سيوفر وسائل ضغط سياسي واقتصادي غير محدود على اسرائيل واذا نظرنا لما استفادته الصهيونية وولديتها اسرائيل من مثل هذا الضغط الذي مارسته وتمارسه على اكثر من دولة وآخرها سويسرا ــ وجدنا ان تثبيت حق الفلسطينيين في التعويض هو بداية نضال جديد من نوع معاصر فاعل لاستعادة حقوق عديدة ضائعة للشعب الفلسطيني وليس مجرد سعي لتعويض مالي بحت. وبعيدا عن الفوائد السياسية البراجماتية المتحققة للفلسطينيين التي ستنعكس مباشرة على تنفيذ ما يتفق عليه, وحتى على تنفيذ ماسبق واتفق عليه جراء جعل حق العودة والتعويض البند الاول وقمة اولويات مفاوضات المرحلة النهائية او الوضع النهائي.. فإن هذا الحق وتثبيته واعادة الشرعية والدعم الدوليين, هو اعادة للقضية الفلسطينية الى مرتكزاتها الاساسية الاخلاقية والانسانية قبل السياسية, فالقضية قضية شعب اصبح بلا وطن والدولة ليست هي الوطن, بل هي جزء منه والاغلب ضمن كافة التوقعات الحالية, ان تكون دولة على جزء من الوطن لجزء من الشعب وبجزء من مقومات الدولة الحقيقية ذات السيادة. ثم ان القضية, ولنكن هنا اكثر صراحة ليست ايجاد موقع لبعض رجال السلطة بين الرؤساء والملوك والحكومات العربية وهذا برأينا ما آلت اليه القضية الفلسطينية وما يجري التفاوض بشأنه فعلا, بدليل ان اسرائيل تهدد بترحيل رجال السلطة الفلسطينية كلما تأزمت مفاوضاتها وضيق عليها الخناق, او تبدأ بالتلويح بقيادات بديلة للقيادات الحالية تحت كافة الذرائع والمسميات والمبررات, التي ليس اولها ولا اخرها ولا اهمها يرضي ياسر عرفات.. القضية هي قضية الهوية الفلسطينية, ومجرد قبول شرعية نزع او ابقاء هذه الهوية عن فئة او لفئة دون بقية فئات الشعب الفلسطيني, هو بداية التفريط بتلك الهوية وكل ما يتبعها من حقوق لحامليها.

Email