مجازر الجزائر... بين الدولة والتدويل

ت + ت - الحجم الطبيعي

لمن تترك قرى ودوارات الجزائر, وعلى من يجب أن يعتمد المواطنون البسطاء إن لم يعد بإمكانهم الاعتماد على الدولة أو حتى الرئيس الذي صوتوا له بالاجماع قبل أكثر من سنتين. إن من تفتقت ذهنياته عن تكوين ميليشيات الدفاع الذاتي يبدو وكأنه يريد أن يفتعل حرباً أهلية في الجزائر.. طالما أن أرقام الضحايا لم تعد تحرك فيهم شيئاً من الإنسانية . صراعات السلطة من وراء الكواليس يدفع الناس ثمنها من حياتهم, وحيث ان هؤلاء غير قادرين على التحكم بنتائج هذه الصراعات فإنهم لم يعودوا قادرين على حماية الأرواح أو الممتلكات. كل الوقائع تؤكد على أن السلطة هي بيد الجيش وأن في هذا الجيش جناحين رئيسيين أحدهما يتزعمه اللواء محمد العماري ــ الرجل الأقوى ــ والثاني جناح الرئيس زروال الذي يتزعمه معه الجنرال بتشين مستشاره الخاص. الأمين زروال الذي كان أكثر انفتاحاً على المأساة قبل انتخابه فأصبح أكثر صمتاً بعده. وهذا بالأحرى ما يحرك على الأخص فضول من وضع ثقته فيه وفي وعوده التي وزعها يمنة ويسرة متعهداً بالحل. تدويل المسألة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي هو الذي ساهم مع النضال الثوري في كسب الاستقلال, وإذا ما طولب اليوم بتدويل مسألة الارهاب فلأكثر من سبب, فالارهاب بحد ذاته لم يعد بريئاً من العنف الذي يضرب جميع مجتمعات الوقت الحاضر, ثم إن مسألة الكفاح ضده قد أصبحت تتطلب تكاتف الجهود الدولية على أساس أن الدولة معزولة عن غيرها قد أثبتت عجزها, والأمر لا يتعلق هنا بالدولة الجزائرية فحسب. وبما أن أي استعمار لم يعد يأتي ليبقى خاصة وأن زمن العسكرة قد انتهى فإن التدويل لا يخيف إلا المتورطين.. علماً أن كل أشكال الاستعمار الجديد ليست بالعسكرة, وأن هناك ألف طريقة وطريقة لعودة الاستعمار, والدولة الجزائرية هي أدرى بهذا الواقع من غيرها. إن من يدعو إلى التدويل لا يتحدث لا عن العسكرة ولا عن إنزال الجنود بقدر ما يدعو إلى وجود طرف ثالث لفضح حقائق ظلت دائماً مستورة, إن من يدعو إلى التدويل إنما يقصد الاشارة إلى الارهابيين الحقيقيين بالبنان من أجل وضع حد لنظام الحماية على جرائمهم القذرة, ومن يدعو إلى التدويل لا يتوجه بالضرورة لا إلى أمريكا ولا إلى الاتحاد الأوروبي.. إنه قد يقتصر على مجرد (تعريب) حلول المأساة فان لم يكن تعريبها فـ (أسلمتها) في نهاية المطاف. الدولة الجزائرية قد ردت الجميع, أغلقت الأبواب في وجه الجميع وما انفكت (تراقب) سقوط الأبرياء عن كثب وكأن الأمر لا يعنيها, من دون أن تنسى الترديد بأن الارهاب والارهابيين هم في أنفاسهم الأخيرة, في الوقت الذي يجدد فيه هؤلاء أنفاسهم عن طريق إسقاط الأكثر والأكثر من الضحايا. ألم تقبل الدولة الجزائرية دعوة مراقبين دوليين للاشراف على (نزاهة) الانتخابات التشريعية الماضية بل إنها قد جاءت بهم من كل حدب وصوب, وصحيح أن هؤلاء لم يتمكنوا من رؤية سوى ما أرادت لهم الدولة الجزائرية رؤيته إلا أنهم مع ذلك يمكن أن يشبهوا في مهمتهم مهمة مشرفين دوليين على التحقيقات الرسمية بشأن المجازر.. رغم أن المجزرة ليست كصندوق الاقتراع. نحن نعرف أن الارهاب لم يهدد يوماً مؤسسات الدولة الجزائرية, لا في كيانها ولا في أسباب استمراريتها, بل ان الدولة قد استكملت يوم 25 ديسمبر 1997 مؤسساتها الدستورية والقانونية عن طريق (تعيين) أعضاء مجلس الأمة ليستكمل بدوره في هذا السياق حزب التجمع الوطني الديمقراطي أو بالأحرى حزب الرئيس هيمنته على ارث حزب جبهة التحرير الوطني, بيد أن مؤسسات من هذا النمط, تم تفصيلها لتناسب القياس الذي أراده من هم وراء الكواليس, لم تضع حلاً, على العكس.. فمع شهر رمضان لم تصل الدماء إلى الركب فحسب بل حتى أعلى الرؤوس. مذابح رمضان في الجزائر قد هزت العالم. وربما أدمعت العيون في الخارج أكثر مما أدمعتها في الداخل. ضجة العالم لرؤية الدم ليست جديدة إلا أنها قد كانت هذه المرة عارمة.. وغاضبة أيضاً محملة باللوم للدولة الجزائرية متهمة إياها بالعجز. ذهبت إلى حد استجدائها لتقبل زيارة مبعوثين دوليين لتقصي الحقائق والبحث في حقيقة هذه المجازر وحقائق مرتكبيها. رفض جذري ثم قبول استقبال بعض الوفود.. لا كلها وشرط عدم تدخلها في سياق التحقيقات الرسمية, فالأمر ما زال وسيبقى مرتبطاً بمسألة السيادة, لنتساءل عن مصير هذه السيادة في وجهيها الداخلي والخارجي طالما أن التمسك هو بوجهها الخارجي فحسب حتى لو بلغ حجم الثمن عشرات الألوف من الضحايا الأبرياء فالعقدة ليست هنا إنما هي في مكان آخر. ما هو مستغرب حقاً هو أن أي تحقيق رسمي لم تظهر نتائجه للعلن بشأن أي مجزرة من المجازر, هذا إن نحن اقتنعنا بأن تحقيقات ما قد حدثت فعلاً, فالكل كان وما زال يموت والكل كان وما زال يدفن حتى وإن لم تشتمل الأكفان إلا على أشلاء, وإذا ما دخل بعض الناجين إلى المستشفيات للمعالجة فإنهم كانوا يخرجون منها تماماً مثلما كانوا يدخلونها.. بلا ضجة, إلا الضجة الاعلامية التي كانت ترافقهم باعتبارها من ملحقات ضجة المجزرة! سكان القرى والدوارات الجزائرية لم يعد لهم إلا الله.. وصحيح أنهم لن يتبرؤوا من دولتهم حتى وإن تبرأت منهم إلا أن حكمة الله في خلقه لن تثنيهم عن طلب الحماية, وصحيح أيضاً أن دولتهم قد أعطتهم أسلحة ما للدفاع عن أنفسهم إلا أن حلاً من هذا القبيل ليس أكثر من عملية انتحارية منظمة تشرع للدولة بقاءها على الهامش, فالجزائري كشخصية حتى لو عرف يقيناً بأن الموت بانتظاره لا يمكن أن يتردد في الدفاع عن نفسه وأهله. هذا الحل يأتي ليدعم فكرة (الحل من طرف واحد) من دون مشاركة لا من الداخل ولا من الخارج وهذا بالأحرى ما يزيد من حجم المسؤولية في ذات الوقت الذي يغطي الخروج عنها على أساس أن هذا التعنت في الاختيار قد أثبت فشله على مدى السنوات التي ما انفكت تستغرقها المأساة. * بقلم: د. عبد الله عبد الرحمن سعيد

Email