دروس من جائزة القرآن الكريم

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل ان يرحل شهر رمضان, وقبل ان تشغلنا الهموم الحياتية اليومية, دعونا نتوقف عند حدث احتضنته مدينة دبي منذ عدة أيام له دلالاته الثقافية العميقة , ولفت الأنظار إليها بسياق غير مسبوق. حيث تمثل ذلك الحدث في الانطلاقة المثيرة التي شهدتها جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم. والتي كانت هناك أهداف سامية من وراء تأسيسها, أهمها ربط شباب هذه الأمة بمصدرها التشريعي والفكري الأول اعتناء وحفظا وتلاوة وحفز هممهم نحو التعلق به والاعتماد عليه زاداً فكرياً يسهم في تشكيل الهوية المتميزة لهذه الثقافة. وتتجلى أهمية هذا الحدث في الظروف التي تم اختياره لهذه الانطلاقة الحضارية المباركة, حيث جاءت في غمرة الأحداث الجسام التي تمر بها الأمة, ومظاهر الكآبة التي تلقي بظلالها البائسة عليها. وقد جاءت جائزة القرآن الكريم لتنفس تلك الأجواء القاتمة. وقبل ان تبتعد فعاليات تلك التظاهرة المباركة ومعانيها عن الذاكرة, نود تسجيل بعض المشاهد التي صاحبت ذلك الحدث التاريخي الهام. ومن أهم المعاني التي حققتها الجائزة, تأكيد البعد الثقافي الديني لدبي, خاصة بعد ان طغت في السنوات الأخيرة جوانب مادية أخرى, تميزت بها دبي في مجالاتها التجارية والاقتصادية وقد أسهم الاحتفال بالقرآن الكريم على ذلك النحو الذي شهدناه في التعبير عن مدى رسوخ جذور الثقافة الدينية في نفوس أهالي هذه البلاد حكاماً ومحكومين. كما أثبتت ان جذوة الإيمان المنبثقة عن تلك العقيدة ما زالت حية في النفس والوجدان, وقد فاضت تلك المشاعر في الحفل الختامي الذي تم فيه تكريم المشاركين والفائزين, ثم الشخصية الإسلامية لهذا العام فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي. كما أثبت ذلك الحدث أيضا, ان الأسباب الطارئة على سلامة فطرة التدين ليست بحاجة الى أكثر من مسحة تزيل عنها تلك الغشاوة العارضة, ليبرز من جديد الوجه الحقيقي للمنتمي الى هذه الثقافة وهذه البيئة. وقد أسهمت هذه الجائزة كذلك في إثبات البعد الإنساني للحضارة الاسلامية, وثقافتها, ومصدرها الفكري. وقد تجلى ذلك في هذا التنوع للفئات المشاركة في المسابقة. التنوع في تعدد اللغات واللهجات, واختلاف التقاليد والعادات مع الاشتراك في الرابطة الدينية من خلال القرآن الكريم. وقد كان الأمر مثيراً للاعجاب, ودالاً على عظمة هذا الانتماء عندما كان أحدهم يتلو القرآن بسلاسة ظاهرة وبفصاحة لأفتة للنظر, بينما كان لا يحسن التعبير بالعربية, أو الإجابة عن سؤال بسيط عن اسمه أو موطنه. يضاف الى ما تقدم, ما برز في أثناء المسابقة, وتجلى في الحفل الختامي, العديد من المشاهد التي ينبغي الإشارة إليها وإثباتها, وخاصة وأننا نشهد زمانا غدا الانتماء الديني فيه من الشبهات التي يستوجب التبرير له, آو التبرؤ منه. ولعل تنظيم الجائزة في حد ذاته مع ما تخلل المسابقة القرآنية, وانتهاء بطوفان المشاعر الجياشة في الحفل الختامي, والتي أبرزت الحرص على الانتماء الإسلامي لدى مؤسس الجائزة وعموم المشاركين فيها, قد أسهم الى حد كبير في دفع تلك الشبهة, والتأكيد ليس فقط على ذلك الانتماء, بل وعلى الاعتزاز بالانتساب إليه. وقد كان لكلمة ضيوف الجائزة والتي ألقاها الدكتور يوسف القرضاوي وقعها الكبير في نفوس كل من شاهد تجليات تلك الليلة المباركة. القرضاوي ومدرسة الاعتدال الكلمة التي ارتجلها العلامة القرضاوي وتألق فيها كالعادة, لم تكن كلمة عادية يلقيها متحدث في مثل هذه المناسبات, بل كانت محاضرة مختصرة - كان الجميع مشدودين إليها - ركز فيها المفكر الإسلامي المتجدد على قضايا أساسية - وهي وان تعلقت بأفراد أو جهات لها صلة بموضوع الجائزة (القرآن الكريم), إلا انها كانت تحمل دلالات أعمق من ذلك بكثير. بل انها أثبتت منهجا فكريا يمثل مدرسة الاعتدال أو التي يجب تقديمها بحسبانها تعبر عن الرؤية الحضارية للامة الإسلامية. ووجه في كلمته اربع رسائل, كل واحدة لها دلالتها ومغزاها. ففي كلمته الأولى, الى مؤسس الجائزة وراعي الحفل, محمد بن راشد آل مكتوم, وجه القرضاوي درساً في الأخلاق الكريمة وأكد مبادئ عظيمة. أما الدرس الأخلاقي فيتمثل في توجيه الشكر للناس على صنائعهم الحسنة, وذلك انطلاقا من حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله). ولا شك ان تكريم حفظة القرآن الكريم وأهل العلم فيه, من الأمور الحسنة التي تستدعي القول للمحسن: أحسنت, مع ما يحققه هذا السلوك من تشجيع الآخرين على القيام بها, وبذلك تشيع الفضيلة في المجتمع الذي يكون شأنه كذلك. أما المبادئ التي أكد عليها, فمنها منهج الاعتدال الذي برز في نبرة خطابه لراعي الجائزة, وذلك بعد ان أثبت ما يستحقه من القول الحسن, ودون ان يكون ذلك من باب التزلف أو نحوه, فقال: كلمتي الأولى أوجهها لهذا الرجل, الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم, وأنا لست من المداحين, ما عودني الله ان اطري الناس بالحق والباطل, ولكن عودنا الإسلام ان نقول للمحسن أحسنت. هذا الرجل قام بعمل عظيم, وتوجهاته الخيرة ونواياه الطيبة جعلتني أحبه قبل ان اراه وأحببته لله... الى آخر ما ورد في كلمته الأولى التي وجهها الى سمو الشيخ محمد بن راشد. ويضاف الى هذا المبدأ كذلك ما قرره الشيخ القرضاوي برؤيته الواعية الى طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكومين, وفيه إشارة كذلك الى وجوب التفريق بين حكام يتعلقون بهويتهم الثقافية وخصيصتها الدينية, ويعتزون بالانتماء إليها, وبين حكام ليسوا سوى عصابات تغلبت على شعوبها, ولا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة. ولاشك ان في هذا الموقف تنبيها الى ضرورة تحقيق الوفاق في البلاد التي يحكمها الأولون, ومراعاة للمصلحة ودرءاً للمفسدة المتمثلة في الفرقة والشقاق بين الجماعة. أما كلماته الثلاث الأخرى, فقد وجه فيها القرضاوي رسائل هامة الى حفظة القرآن, الفائزين بالجائز هي رسالة تربوية تشحذ الهمم, وتدعو الى امتثال اخلاق القرآن نصاً وروحاً. وكذلك كانت كلمته عن الشيخ الشعراوي, الشخصية الإسلامية لهذا العام مثالاً لوفاء التلميذ مع شيخه. وأخيراً كانت دعوته لأمة القرآن في وجوب حضوره في حياتها وتطبيقه في سلوكها الى عدم الاقتصار على التلاوة المجردة للقرآن أو التبرك به, أو الافتتاح به في المناسبات الرسمية وغيرها. بل ينبغي ان يحتل القرآن المكانة اللائقة به في حياة الأمة, حتى يحقق أمر الله وحكمته في انزاله كتاب هداية للبشرية. بعد ان أنهى العلامة القرضاوي كلمته الرائعة, برز نجم آخر تمثل في الشيخ الشعراوي الذي كان لحضوره الى دبي أثره الواضح في استلهام بعض المعاني. من دروس تكريم الشعراوي حفل هذا التكريم بالعديد من الدلالات التي يجب الاشارة إليها في هذا السياق وتسجيلها للمكرم (بكسر الراء) والمكرم (بفتح الراء وتشديدها). ولم تكن الدلالة الوحيدة للاحتفاء بالشيخ الشعراوي - كفائز بجائزة الشخصية الاسلامية لهذا العام - هي قيمة الجائزة المالية. فإن هذه القيمة لا تمثل أهمية بالنسبة للشيخ الذي عرف عنه بذل قيمة كل جائزة حصل عليها وانفاقها على المعسرين والمحتاجين. هذا مع ما اشتهر عنه الشيخ من زهد في حطام هذه الدنيا, خاصة وانه بلغ من العمر مبلغا يجعله ينصرف عن متع هذه الحياة وملذاتها. وهو الذي ذكر - منذ نحو عام - انه يستعد للقاء الله. وقد قصدت من الإشارة الى هذه المسألة دفع ما يثيره بعض من ضاق أفقهم, أو قصرت مداركهم, وغلبهم التعصب للرأي والهوى من نقد اختيار الشيخ الشعراوي لهذه الجائزة. وذلك على الرغم من إجماع المعتبرين على تميز هذه الشخصية من حيث اسهامها في خدمة القرآن ورسالة الإسلام, إضافة الى النزاهة والاستقامة اللتين عرف بهما. بعد تجاوز ذلك يمكن الوقوف على بعض دلالات تكريم الشيخ الشعراوي, حيث ان هذا التكريم قدم لنا مثالاً, وأثبت كذلك ان هذا المثال الذي قد يكون ناجحاً, وله مكانته المتميزة في المجتمع لا يشترط بالضرورة ان يكون مطرباً, أو راقصة, أو شاعراً مبرزاً في انتهاك ثوابت الأمة ورموزها. بل يمكن ان يكون متخصصا في علوم الشريعة أو مفكراً, أو أديباً ملتزماً بثوابت ثقافته. ولا شك ان هذا المعنى سيكون له أبلغ الأثر في تقديم المثال الى أجيالنا الحاضرة كنموذج ناجح يقتدى به. ان الأمل يحدو الجميع في ان يسهم هذا التكريم, وكذلك جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم في التعرف على القيمة الكبري لهذا الكتاب, وفي تحقيق أهداف الجائزة, وان تعد خطوة هامة نحو تحقيق هدف هذه الأمة الرئيسي, والمتمثل في بلورة مشروعها الحضاري وتقديمه للإنسانية. قولوا آمين. * بقلم: د. حنيف القاسمي

Email