القول والفعل وشرعية الوجود:بقلم: د. زكي الجابر

ت + ت - الحجم الطبيعي

قد تكون الشرعية السياسية شغلا شاغلاً لأولئك المعنيين بالشأن السياسي ومحللي الهم الوطني العام, ولكني وجدت ثمة شرعية خارجة عن إطار حتمية قيامها بين الحاكم والمحكوم. انها تلك التي تفرض وجودها على ساحة عريضة من الرأي العام على الرغم من اختلاف نمطية قيم من يدعونها أو يتلبسونها عن نمطية قيم من يجدون أنفسهم في موقف التابعين, وربما عن غير رضى أو قناعة بهذه التبعية. ولكي ألجأ الاختصار المفيد, أجد هناك نوعين من المنظمات العاملة على صعيد الوطن العربي, يطلق على الأول منها منظمات حكومية مثل المنظمة العربية للتنمية الصناعية والتعدين, واتحاد اذاعات الدول العربية, والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم وغيرها من المنظمات التي تعمل تحت مظلة الجامعة العربية, وترشح فيها الحكومات العاملين فيها, كما تمول رصيد فعالياتها ومرتبات مأجوريها. وهناك نوع من المنظمات يتمثل في اتحاد أو تنظيم لاتحادات أو منظمات توصف بأنها منظمات غير حكومية على نحو ما نشاهد من اتحاد للموسيقيين, وآخر للناشرين, وثالث للادباء والكتاب. وينبغي, وهو اجتهاد أظنه صائبا, بأن شرعية هذه الاتحادات تستند الى اعتراف المنضويين تحت ظلها بصدق تمثيليها, وانطلاقها من منظور ثقافي يتلاءم ومنظورهم الثقافي. أما في واقع الأمر, فهي تنسف كل مشروعيتها حين تدعى بأنها غير حكومية في حين أنها تتصرف بإيحاء من حكومات, وتمولها حكومات, وتتفاعل مع منظومة قيم تختلف بصورة أو بأخرى عن قيم تابعيها. ولكي يكون ما أطرحه من تصور أقرب الى الواقعية, أجدني مضطرا الى التمثيل, وليكن المثال اتحاد الأدباء العرب. ولم يكن اتخاذي من هذا الاتحاد مثالا وليد صدفة فلم ينصرم زمن طويل على انعقاد المؤتمر العشرين لهذا الاتحاد, وانتخبت هيئة جديدة للتسيير والتدبير, ذلك من جانب, ومن جانب آخر فقد وقع بين يدي سفر سطره قلم الأديب الشاعر والأكاديمي المتابع الدكتور صالح جواد الطعمة من جامعة انديانا في الولايات المتحدة الأمريكية, وقد جعل عنوانه (فروسية الكلام وفقدان الذاكرة - قرارات اتحاد الأدباء العرب 1954- 1995) مؤسسة الرافد - لندن 1997 يضم السفر مقدمة تعرض وتنقد وتقوم تسعة عشر مؤتمراً من مؤتمرات هذا الاتحاد, كما يضم قراراتها في موضوعات التراث والترجمة والحرية. ان شرعية هذا الاتحاد قائمة في جوهرها على انه اتحاد غير حكومي, وليس هناك إلا غبي ليصدق ذلك, فهو حكومي وتمويلا وتوجها وترشيحا لموظفيه. وقد يكون له حظ من مشروعية إذا ما حاول الرفع بقراراته أو ببعض منها من دائرة القول وفروسية الكلام الى دائرة الفعل وفروسية الانجاز. يقول الدكتور الطعمة (... من حقنا ان ننادي اليوم, وقد تجمع لدينا تراث اربعين عاماً من المؤتمرات: خصصوا مؤتمراً لدراسة التوصيات وبيان ما انجز منها وما لم ينجز أو يمكن ان ينجز, وان نطلب الى ادبائنا إلا يكتفوا باتخاذ التوصيات بل ان يتثبتوا من فاعليتها ويتدارسوا - بروح من المسؤولية الجادة والموضوعية - امكانيات التنفيذ والسبل العملية التي تضمن التنفيذ). لقد استهدف الدكتور الطعمة من وراء كتابه هذا التوثيق, توثيق كشف بأمانة ساخرة, ان صح التعبير, عن التظاهر الكلامي والتكرار الممل, وحشد عبارات الاستشارة والاستمالة التي ما وضعت, كما أظن, إلا لاستجلاب تعاطف الرأي العام, واثارة حماسة العرب, ومن أجل إقرار بشرعية الوجود من خلال تضحيات وهمية وفروسية كلام. وهل ثمة زيف أكبر من زيف دعوى مطالبة الاتحاد بالحرية من خلال قرار اتخذه أحد مؤتمراته يقول فيه: (يدفعنا إحساسنا العميق بالمسؤولية الكبرى الى ضرورة ان نفتش عن أساليب أكثر جدوى واشد فاعلية في كسر الأطواق التي تحكم الأنظمة السياسية أو التقاليد الاجتماعية خناقها حول عنق الكاتب العربي ورفع هذه الأنظمة الى إقرار حقه هذا في الحرية مهما كانت التضحيات. (اننا لا نستجدي إذن حريتنا ونؤكد على هذا الحق في التصورات وأساليب العمل التالية: 1- ان نحرر انفسنا أولا ككتاب ومبدعين من اية تبعية قائمة على الخوف أو الانتهازية مكرسين بذلك فعلا استقلال الثقافي عن السياسي. 2- التضال من أجل رفع الرقابة على الفكر وحرية التعبير... 3- العمل على تأمين حرية انتقال الكاتب من قطر الى آخر توفيراً لمزيد من التواصل الثقافي والقومي. 4- النضال بكل الوسائل لشجب ومنع أساليب الأرهاب التي يتعرض لها الفكر والتي وصلت حد التصفية الجسدية. 5- (تكليف فروع الاتحاد القطرية بمهمة متابعة احداث الاضطهاد المتنوعة التي يتعرض لها أحيانا الكتاب في كل قطر ورفع تقرير مفصل عنها الى الأمانة العامة بهدف تعميمها على جميع المنظمات العربية والعالمية المعنية بحقوق الانسان) . ان التساؤل الذي يطرحه مؤلف الكتاب حول مدى تطبيق هذه القرارات, لا يقل في الأهمية عن تساؤلنا عن مصداقية هذه القرارات وجديتها وبالأخص في موضوعات تحرير النفس من الخوف, وتكريس الانتهازية, واستقلال الثقافي عن السياسي. وكيف يمكن فصل الثقافي عن السياسي إذا ما كان تنفيذ كل القرارات المتصلة بالحرية والترجمة والتراث يرتبط أولا واخيراً بارادة سياسية قادرة. ومتى يتحقق ذلك, وقد تشتت الإرادات السياسية العربية, وبذلك التشتت اصبحت تلك الارادات ضعيفة لا تقوي على فعل ثقافي وحدوي متميز يعزز حرية الفكر, ويوطد حركة الترجمة ويؤسس لها, وينشر التراث وفق برامج محددة. لنكن مع المتفائلين, ولنقل ان العمل العربي المشترك بمختلف حقوله وإنماطه خيار ليس هناك من خيار غيره يمكن العرب من تحقيق وجودهم, واستعادة ذاتيتهم الحضارية, وشق طريقهم على طريق التنمية بمفهومها الشامل, وإذا كان الأمر ذاك, فاننا نسأل انفسنا ما العمل إذا ما به أردنا استمرارية العمل العربي المشترك والانتصار على كل المثبطات والاحباطات؟ لنرجع الى مثالنا, لا يمكن ان نقول اغلقوا باب اتحاد الادباء العرب, لأنه رسخ انشقاق الأدباء الفلسطينيين, ولأنه اداة في يد الحكومات يساعدها على ارتداء اقنعة ثقافية تسبغ عليها طابعا انسانيا وحضاريا متقدما. ان جل ما يقال عن قرارات تلك المؤتمرات المتتابعة يتجسد في وصفها بانها شعارات تفتقر المضامين الواقعية كما تفتقر ترتيب هذه المضامين على سلم من الافضليات القائمة على اسس من المعقولية. ان اتحاد الأدباء (الكتاب) العرب لم يكن غير مثال لمنظمات عربية غير حكومية تفتقر الشرعية. لقد اصبحت هياكل لها تقاليدها في السفر بين العواصم, وتنظيم المؤتمرات, وعقد المساومات, وتناوب الأدوار. ان الهم العربي لا يجد مكانه في هذه الاتحادات, لانها تتنفس في جو لا يجد ذلك الهم اليه من سبيل. ثمة مقولة تتردد دائما باختلاف القول, في الأوساط العربية, عن الفعل, وما القول إلا هذيان غير فعالين. وما يعنينا هو ان نتعرف على سبب أو اسباب هذا الانفصام, وكيفية علاجه. وتلك هي المسألة. وقد يكون ثمة نفع في مراجعة عمل الاتحادات أثناء اضطلاعها بمهماتها, والأحاطة بظروف اصدار قرارتها, ومن بعد ذلك وضع تصورات جديدة لأساليب العمل, وابتكار الخطط, واتخاذ قرارات في حدود التطبيق بعيداً عن فروسية الكلام وفقدان الذاكرة. خبير اعلامي عربي *

Email