منظمة (ايتا) تدخل مرحلة التدمير الذاتي:بقلم: طلعت شاهين

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحركات الوطنية ترفع شعارات ثورية تؤكد تمسكها بهدف معين ونبيل يكون جوهر قضيتها لتحصل على دعم الذين يحيطون بها في مواجهة نظام ما أو قوى اجنبية تحتل أرض الوطن, هذه الحركات الثورية تكون مبررة إذا كان هدف نضالها الخلاص من مستعمر اجنبي يجثم على صدر البلاد , أو ترمي الى تحقيق أمنية شعبية سياسية كالتخلص من نظام معين يفرض وجوده عبر ممارسات تتنافي مع آمال تلك الجماهير. لكن الواقع يرفض احيانا على هذه القوى الثورية شروطا معينة لا تستطيع مجابهتها وحدها, وإلا كانت النهاية الفاجعة المصير المحتوم لها, لذلك نجد ان مثل هذه الثورات تطور نفسها لتتواءم مع التغييرات المحيطة بها, إما باللجوء الى اسلحة أخرى تمكنها من استخدام الوضع الجديد للوصول الى الهدف المنشود, خاصة إذا كانت اغلبية المجتمع تؤيد الوضع الجديد الذي يحصل على شرعية وجوده من هذا التأييد, كما حدث مع العديد من الحركات الثورية في أمريكا اللاتينية, التي ألقت باسلحتها لتدخل غمار الممارسة الديمقراطية كأحزاب سياسية شرعية, وابرز هذه الأمثلة ما حدث في نيكاراجوا والسلفادور وجواتيمالا. البعض الأخر من هذه الحركات (الثورية) فشل في التواءم مع المتغيرات الوطنية الداخلية أو الخارجية فوجد نفسه خارج حركة التاريخ, هذا النوع الأخير لم يجد امامه سوى طريق من اثنين: إما الارتماء في احضان الوضع الجديد, والتحول الى حزب سياسي لتحقيق اهدافها باستخدام الشروط الجديدة للنضال, أو الاندفاع بالهروب نحو الأمام فتمارس انواعا من الأعمال تتنافى مع المبادىء التي قامت عليها, تنقلب على افكارها فتمارس نوعا من (التدمير الذاتي) . وهذا النوع الأخير ينطبق وبشكل كبير على الحركة القومية الانفصالية الباسكية المعروفة باسم (ايتا) وجناحها السياسي (ايري باتاسونا) , كل اعمال العنف التي كانت تمارسها هذه المنظمة في أسبانيا في عهد دكتاتورية فرانكو العسكرية كانت مبررة, لأن فرانكو يرفض مجرد سماع من يتحدث باللغة الباسكية, التي يعتبرها ابناء أقليم الباسك في شمال اسبانيا وامتداده في جنوب فرنسا... محور هويتهم القومية, فكانوا يتحدثون لغتهم القومية سرا, ويلقنونها لأبنائهم في مدارس سرية. وعنف منظمة (ايتا) في عهد الجنرال فرانكو كان يجد من خارج سكان اقليم الباسك, دعما شعبيا باعتباره عنفا تمارسه المنظمة دفاعاً عن هوية شعب يرغب في الحفاظ على تفرده اللغوي والثقافي, وكانت هناك الكثير من التجمعات الثقافية الوطنية في كل اسبانيا تدافع عن هذا العنف باعتباره نضالا لابد منه للحصول على الحقوق التي يحرمها النظام - في ذلك الوقت على ذلك الشعب, خاصة بين أوساط المثقفين اليساريين الذي كانوا يعتبرون تلك القضية من اهم القضايا التي تؤكد رفض الشعب الاسباني للنظام الدكتاتوري, وهذا كان ينطبق ايضا على نضال العديد من المناطق الأخرى المتفردة بلغتها وعاداتها وتقاليدها في اسبانيا, ولم يكن مسموحا لها بممارسة تلك العادات والتقاليد واللغة مثل مناطق قطالونيا في شمال شرق اسبانيا, واقليم جالييثيا أو (جليقيا) المطل على المحيط الأطلنطي. مع التحول الديمقراطي الذي طرأ على اسبانيا بعد رحيل فرانكو عام ,1975 واجراء أول انتخابات برلمانية ديمقراطية عام ,1978 واكتمال ونضج هذه الديمقراطية بتحول الشعب الى اختيار الحزب الاشتراكي كحزب حاكم وطني في البلاد عام ,1982 وتطبيق نظام الحكم المحلي الذي يكاد يصل الى حد الاعتراف بالحكم الذاتي في كل مناطق البلاد التي يصفها الدستور الجديد بأنها (تاريخية) بمختلف توجهاتها ومنها (اقليم الباسك) , ومشاركة بعض الاحزاب الوطنية في دعم العديد من الاحزاب الاقليمية لتولي السلطة في مناطقها, اصبح من غير المعقول ان تستمر الحركة الثورية في نضالها باستخدام الشكل العسكري من اجل الانفصال عن الدولة الأم, خاصة ان جناحها السياسي (ايرى باتاسونا) دخل معترك اللعبة السياسية رافعا الشعار نفسه الذي ترفعه منظمة (ايتا) , وتمكن جناحها السياسي من تحقيق تقدم ملموس في الانتخابات العامة, واصبح له نوابه في مناطق الحكم المحلي, بل تعدى ذلك للوصول الى عضوية البرلمان الوطني الاسباني, وهو امر لم يكن متاحا على أيام الجنرال فرانكو. ورغم ان العديد من المحللين السياسيين توقعوا ان يتوقف الجناح العسكري لمنظمة (ايتا) عن اعمال العنف, باعتبارها اداة لم تعد تتواءم مع تغيرات الحياة السياسية وما طرأ على البلاد بعد التحول الديمقراطي, خاصة وان حكومة الحزب الاشتراكي الاسباني كانت قد بدأت بالفعل محادثات سياسية مع عدد من قادة المنظمة للتوصل الى حل سلمي للقضية تحت شعار (تحقيق الهوية التاريخية للأقليات مع الابقاء على وحدة الوطن) , في عالم يؤمن بالكيانات الكبرى التي بدأت تتحقق في أوروبا, خاصة بعد انضمام اسبانيا الى السوق الأوروبية المشتركة. خلال تلك المحادثات بدأ بعض القياديين التاريخيين في منظمة (ايتا) مراجعة مواقفهم, وانفصل عدد منهم وكونوا حزبا جديداً دخل في تحالفات على المستويين الوطني والمحلي من اجل تحقيق (الاعتراف بالحكم الذاتي) في اطار دولة فيدرالية, إلا ان البعض الأخر قرر الاستمرار في العمل العسكري المنظم ضد الدولة, في الوقت الذي يطالب فيه باجراء مباحثات سياسية لتحقيق هدف المنظمة. بمرور الوقت لم يعد امام منظمة (ايتا) من اهداف عسكرية يمكن التعامل معها بعنف, سوى تفجير القنابل في مناطق أهلة بالسكان, وخطف بعض رجال الأعمال والمال, والضغط عليهم للحصول على تمويل للمنظمة بعد ان فقدت الكثير من التعاطف الشعبي معها حتى بين ابناء الأقليم الباسكي نفسه, لذلك كان من المستحيل الاستمرار في هذا الطريق, خاصة ان عدداً من رجال الأعمال بدأوا بالفعل في الهروب من أقليم الباسك, ونقلوا انشطتهم الصناعية والتجارية الى مناطق أخرى, مما يعني بحساب الأرقام المزيد من العاطلين في بلاد الباسك, والبطالة تعتبر اليوم العدو الأول لأي عامل في كل أوروبا, وهذا سحب البساط الشعبي من تحت اقدام المنظمة. ثم كان التذرع بجمع شمل المسجونيين من المنظمة لممارسة المزيد من العنف, وهذا كان دافعها لخطف احد العاملين بأحد السجون, والابقاء عليه رهن الاعتقال في غرفة مظلمة تحت الأرض لأكثر من عام كامل, ولكن ازاء رفض وزارة الداخلية هذا المطلب تم الافراج عن الموظف في حالة سيئة اثارت الجماهير ضد هذه الأعمال التي اعتبرها غالبية سكان اقليم الباسك (اعمالا غير مسؤولة وتدل على تخبط قادة المنظمة) . بعد صعود (الحزب الشعبي) اليميني وفوزه في انتخابات العام الماضي, اعتبرت منظمة ايتا ان مبرر وجودها عاد الى الواقع من جديد, لأن هذا الحزب يعتبر وريثا لأفكار فرانكو, وكثير من زعمائه ومؤسسيه نشأوا على ظل الجنرال, واعتقدت قيادات المنظمة السرية ان هذا وحده كافيا للعودة الى اعمال العنف ورفض الحوار السياسي ما لم يتم الاعتراف باستقلال أقليم الباسك. في البداية كان هناك من يرى في شعار منظمة (ايتا) شيئا من الواقعية السياسية, لكن الحكومة اليمينية استطاعت ان تستغل عملية خطف واغتيال السياسي الشاب (ميجيل انخيل بلانكو) في يوليو الماضي, لتبدأ حملة اعلامية ناجحة ضد المنظمة, ونجحت الحكومة في استغلال الحادث لتضع المنظمة في مواجهة الشعب الاسباني كله, وفي مقدمتة شعب اقليم الباسك نفسه, الذي تعلن المنظمة انها تتحدث باسمه. نجحت الحكومة في تفريغ عملية الاغتيال من اي مضمون سياسي أو عسكري سوى ان تبرر المنظمة وجودها وقدرتها على عمليات الاغتيال, اي كانت عملية لاثبات قدرة المنظمة على العمل, وهو عمل غير مقبول, لأن خطف شاب يسير في الشارع ليس عملا بطولتا, ولا يدل على مقدرة ما, لأن اي مجرم غير محترف يمكنه ان يفعل ذلك, وهذا يحدث يومياً في جرائم خطف عادية لاتحتاج الى عمل منظم. ثم توالت عمليات الاغتيال ضد أعضاء (غير بارزين) في الحزب الشعبي اليميني الحاكم باعتبارهم هدفا عسكريا لاعمال المنظمة, لأنهم من غير ابناء اقليم الباسك, لكنهم يقيمون فيه ويمارسون انشطة سياسية تعتبرها المنظمة معادية لها, وكانت عملية اغتيال الشاب الباسكي (خوسيه اجناثيو ايروتاجويانا) الأسبوع الماضي الثالثة خلال الاشهر الثلاثة الأخيرة, إلا انها كانت اكثرها اثارة لغضب الجماهير, لأن الضحية هذه المرة (شاب باسكي) ومن أسرة باسكية الانتماء واللغة, وكل ما يفرقه عن أعضاء المنظمة هو خلاف في الفكر. هذا الخلاف لا يبرر مطلقا ان تغتال المنظمة احد ابناء الوطن. لذلك يرى المحللون السياسيون ان رسالة منظمة (ايتا) وصلت الى الشعب الاسباني معكوسة تماماً, وسوف تتسبب في مزيد من الدعم الشعبي لحكومة الحزب اليميني, التي ما كان لها ان تحقق هذا الاجماع لولا هذه العملية التي تبدو صغيرة, ولكنها تدل على التخبط بين القياديين الحاليين لمنظمة (ايتا) , الذين لم يعرفوا مدى التغييرات التي طرأت على المجتمع الأسباني بعد أكثر من عشرين عاماً على رحيل الدكتاتورية وقيام الديمقراطية السياسية, التي فتحت الباب واسعا امام الأقليات للتعبير عن نفسها. يضاف الى هذا الدعم الخارجي الذي حصلت علىه الحكومة الاسبانية بسبب الاغتيالات الأخيرة, والتي تدل على ان الأوضاع في أوروبا تغيرت بالفعل, ولم يعد مسموحاً خاصة في دول أوروبا الغربية - ان يعلن اي اقليم انفصاله عن دولته, لذلك لابد من التحول نحو الحلول السياسية لمشاكل الأقليات في اطار الاتحاد الأوروبي, ولم يعد امام المنظمة الباسكية سوى السير في هذا الاتجاه اذا كانت ترغب في الوصول الى هدفها النهائي بالاعتراف بالحكم الذاتي للأقليم, والمثال الواضح ما يجرى الآن في ايرلندا الشمالية, لأنه لا مبرر للعنف في مجتمع يسمح بالتعددية, وعلى من يريد تنفيذ افكاره ان يقنع الجماهير بها أولا, ثم الحصول على التأييد اللازم من خلال صناديق الاقتراع لإقامة النظام الذي تقبله تلك الجماهير. كاتب مصري *

Email