جارودي والاسلام، بقلم: مصطفى خليفة

ت + ت - الحجم الطبيعي

كثير من الناس يعتقد ان جارودي دخل الإسلام عن طريق الصدفة, والحقيقة ان جارودي بعد ان ارتد عن الشيوعية والمسيحية ظل أكثر من خمسة عشر عاماً يدرس الإسلام وتاريخه ويفتش ويبحث عن اصوله ومبادئه, وكان ذلك في أواخر الستينيات وأوائل السبعينات الى ان أعلن اسلامه في عام ,1982 وفي هذا الصدد يقول جارودي (أحب ان أقول ان انتمائي للاسلام لم يأت بمحض الصدفة بل جاء بعد رحلة عناء بحث ورحلة طويلة تخللتها منعطفات كثيرة حتى وأول احتكاك عملي لجارودي بعالم الاسلام كان عام 1939 عندما التحق بكتيبة المشاة في الجيش الفرنسي في الجزائر بمنطقة (جلفة) وكان عمره وقتها 26 سنه, وبسبب مناهضته للاستعمار اعتقل بعد عام واحد من التحافة بالجيش الفرنسي ومعه خمسمائة جندي وضابط ويحكي جارودي عن واقعه اعتقاله وأول معرفة له بالإسلام فيقول (كنا اكثر من 500 مناضل من المعتقلين في منطقة (جلفة) جنوب الجزائر بحراسة مشددة بالسلاح, وقمنا بتنظيم مظاهرة على شرف رفاقنا من قدامى المتطوعين في الفرق الدولية الاسبانية, وقد أثارت هذه المظاهرة حفيظة قائد المعسكر فانذرنا ثلاثاً ومضينا في عصياننا, فأمر حاملى الرشاشات بفتح النار علينا, إلا انهم رفضوا الانصياع للأمر العسكري وكانوا مسلمين, وعاد القائد فهددهم بالقتل, ومع ذلك أبوا ان ينفذوا الأمر, ولم أفهم السبب لأول وهلة, الى ان علمت من مساعد جزائري ان شرف المحارب المسلم يمنعه ان يطلق النار على انسان أعزل (وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتعرف فيها جارودي على الاسلام, ويعترف بأن موقف الجنود المسلمين تعلم منه اكثر من دراسة عشر سنوات في (السربون) !! وفي عام 1944 التقى جارودي بالشيخ الجليل الإبراهيمي رئيس رابطة المسلمين الجزائريين في ذلك الوقت, ورأى جارودي في مقر الشيخ الجليل صورة كبيرة لرجل مهيب عرف فيما بعد انه الأمير عبد القادر الجزائري عدو فرنسا والبطل المحارب والعابد الناسك وكما يصفه جارودي بأنه من أعظم رجالات القرن التاسع عشر, وفي هذه المقابلة حدثه الشيخ الجليل عن الإسلام وتعاليمه واركانه. ولكن فيما يبدو ان الاقتراب الحقيقي لجارودي بالاسلام بدأ من عام 1967 حيث سافر الى عدة دول عربية من بينها مصر وليبيا والجزائر, وشرع يقرأ ويقارن ويبحث, وفي نفس الوقت بدأت الشيوعية تتكشف حقيقتها أمامه لينتهي به المطاف الى الحقيقة الخالدة والدين الحق فأعلن اسلامة في المركز الثقافي الاسلامي في جنيف بسويسرا عام 1982م. ويرى جارودي ان الإيمان ليس نقيض العقل, بل هو اللحظة الحرجة للعقل... اللحظة التي يعي فيها العقل مسلماته... والتي يجعل نفسه فيها قادراً على ان يضع هذه المسلمات والغايات موضع التساؤل, ويقول (ان الإيمان هو التجربة النافذة لكل غاية محدودة, وهو نفي النفي... نفي حدود الانسان, وكيف يمكن للانسان ان يعرف الحد من دون ان يشعر على الأقل ان فيما وراء ذلك شيء أخر. وعن مفهوم الاسلام يقول جارودي (ان الاسلام هو الشكل الأسمى للحرية, لأنه يخلص الانسان من نفعة الأناني ومن طموحاته المحدودة, انه يقتضي من الناس الا يشغلهم التنافس ولا الربح ولا أي هدف من أهداف النمو الأعمى, عن ان يتذكروا مصدرهم الأول (الله) , كونها قوة تتجاوز جميع القوى, وينجم عن المجاهرة بالعقيدة الاسلامية كما يخبرنا القرآن الكريم ان الثروة (كالسلطة) لاتخص إلا الله وحده, فالناس لايسعهم إلا ان يكونوا مديرين لها ومنتفعين بها, والنتائج الاقتصادية لرؤية كهذه للعالم تكون هائلة وعظيمة. وعن مدلول الشهادة في الاسلام (لا إله إلا الله محمداً رسول الله) يراها جارودي أنها تتسم بالبساطة بحيث تجعلها شعبية, وبعمق يجعل الاسلام لاينضب, فالشطر الأول وهو لا إله إلا الله يشكل حركة الانسان نحو الاله, الحركة من الخارج الى الداخل فهي تميز الموجود الحقيقي (الله) عن كل ما هو غير موجود, غير حقيقي اي كل مايكون مدركا أو مقصوراً خارج علاقته بالله, فما من شيء في وسعه الا يكون حقيقياً لايكون الاهيا, ويقول جارودي (ان وايتهيد - عندما عرف التوحيد (القول باله واحد) كعقيدة تدرك الله على صورة زعيم امبراطورية, على صورة تجسيد للاخلاق, على صورة مبدأ فلسفي أخير, خلص الى القول ان العقبة العظيمة في الفلسفة الألوهية قد انتهت بظهور الاسلام) . ويرى ان (محمداً رسول الله) الجزء الثاني من الشهادة تعني حركة جزء من الله نحو الانسان عن طريق رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم, الذي بلغ رسالة القرآن, الموحى بها مباشرة من الله ويقول (ان محمداً يجسد الخلق كله, ومن اللافت للنظر ان تكون الكلمة نفسها آية, تعني في آن واحد آيات القرآن, والأشياء التي يشكل كل منها كذلك علامة من المبادئ الالهية لغة يكلمنا الله بها (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وان من شيء الا يسبح بحمده ولكن لاتفقهون تسبيحهم) فالمطلق يتكشف في البنى على شكل رموز أو الطبيعة باكملها هي (تيوفانية) تحلى وتكشف من الله) . ويرى جارودي ان الحضارة العربية الحديثة تقوم على الانماء المادي دون البحث عن معنى الإنسان, وهي حضارة التسليح والخراب, فهي وإن كانت وصلت الى أعلى درجات العلم والتقدم والازدهار فهي في حقيقتها حضارة زائفة وهي الآن في طريقها الى التحلل والانهيار لانها بنيت على الظلم وتخلت عن القيم والمبادئ. ويقول جارودي (إنه في ظل النظام الرأسمالي والنظام الشيوعي فإن سبعين مليوناً من البشر في العالم الثالث يموتون من سوء التغذية, وهذا يكفي لإعلان إفلاس النظامين في تحقيق مستوى أفضل للحياة الانسانين الكريمة, لآن الرأسمالية قامت على الفرد والاحتكار والانانية والترف والشيوعية قامت على الاستبداد وسحق إنسانية الانسان) . ويعتقد جارودي ان النموذج الاسلامي هو البديل لهذه الأنظمة وذلك لانه نظام إلهى دقيق يهدف الى تحقيق الحياة الكريمة لكل البشر والشريعة الاسلامية في ذاتها منهج اخلاقي عالمي يقول جارودي في هذا الصدد) على علماء المسلمين ايجاد صيغة فقهية جديدة تواكب ظروف العصر الحديث, ونحن حين ننظر الى الشريعة الاسلامية عندما تأخذ ابعاداً جديدة, لانجد امامنا إلا ان ترجع الى البداية الى المجتمع الذي بدأ في المدينة المنورة, اي المصادر الرئيسية الأولى كما أوردها القرآن الكريم والسنة المطهرة, لان الرجوع فقط الى هذه المصادر سنجد الإجابة بوسائلنا الحالية على المشكلات المعاصرة, ليس بالتكرار الحرفي, ولكن باستلهام هذه الحلول من توجيهات القرآن الكريم لهذه المشكلات باختصار يجب ان نعود للتعليم القرآني, وان نأخذ مسؤوليتنا - كوننا بشراً - نحو كل آية من الآيات القرآنية, وان نتمثل هذه النصوص كونها مؤثرات وموجهات حية) . ألف جارودي بعد الاسلام عدة مؤلفات, وأشهرها, نداء الى الأحياء وحوار الحضارات والحقيقة كمها ودراسة بعنوان الاسلام في الغرب وكتاب البديل ثم ملف اسرائيل - احلام الصهيونية وأضاليلها, وأخيراً كتاب, الاساطير المؤسسة للسياسية الاسرائيلة, وهو الكتاب الذي يحاكم بسببه الآن.

Email