هوامش أخرى على قضية جارودي

ت + ت - الحجم الطبيعي

ليس هناك اسوأ من الغيبوبة التي حالت بيننا وبين الشروع في تنظيم حركة تضامن عربية ودولية مع المفكر الفرنسي الكبير (رجاء جارودي) في الوقت المناسب والفعال, الا محاولة (تحزيب) هذه الحركة, وتحكيرها لصالح تيار سياسي بعينه, على نحو يضيق من نطاق المتحمسين لها من العرب, ويحد من تأثيرها في الخارج, وهو تنويع شائع على تلك الانتهازية الغالبة التي تتعامل بها القبائل السياسية العربية مع كل القضايا بطريقة لاتستفيد منها, لا هذه القضايا, ولا تلك القبائل ولا تختلف من حيث الاثر عن الغيبوبة المشار اليها اعلاه. ولولا الغيبوبة العربية, لما وهمنا موعد (محاكمة جارودي) , بينما المثقفون العرب في حالة اشتباك فيما بينهم, يوشك ان يتحول الى حرب, حول قضايا فرعية, يفترض انها ذات صلة مباشرة بالصراع العربي الاسرائيلي: من الملاسنات بين بعض الصحف المصرية, وبعض الصحف القطرية, التي فلت زمامها فاذا بها تتحول الى هجوم متبادل طال الشعبين مع انهما ليسا طرفا في المشكلة, الى المعركة التي اثارها اللقاء بين شيخ الازهر والحاخام الاسرائيلي, وانتهت, بسبب عصبية المناقشة وشخصيتها, الى تصور خاطىء بأن تطبيع العلاقات مع اسرائيل هو سنة حتى نسينا, في حمى هذا اللجاج, موعد محاكمة (جارودي) مع انه كان معروفا ومحددا منذ اشهر طويله. ومن حسن الحظ, في سوء الحظ الذي ادى الى هذا النسيان, ان الفضل في تذكيرنا, لما نسيناه, يعود لمثقفين قطريين ولصحف قطرية, قامت.. فضلا عن ذلك بمبادرة لحفزنا على التحرك السريع للقيام بالواجب الذي فات علينا القيام به وهو مايكذب كثيرا مما قيل ابان الملاسنات التي تندفع اليها عادة بلا تبصر في العواقب, فنظلم بعضنا البعض, ونتوقف عند السفاسف فنصنع منها معارك, وعند المعارك فنحولها الى تفاصيل, اما اسوأ مافي هذا الحظ السيء فهو الاجتهاد الخاطىء, الذي قاد بعضنا لتصوير معركة (جارودي) تصويرا يفتقد للرحاب العقلية التي يفترض ان نعالج بها مثل هذه الامور, وللذكاء السياسي الذي يؤدي نقصه, او افتقاده الى غيبوبة لاتقل سوءا عن الغيبوبة التي محت تاريخ محاكمة (جارودي) من الذاكرة العربية. وبسبب ذلك صور البعض (قضية جارودي) باعتبارها قضية بين الاسلام واليهودية, ومعركة يشنها الغرب غير المسلم ضد مفكر كبير من مفكريه اعتنق الاسلام عن اقتناع, وبعد عمر طويل قضاه يبحث في كل الافكار والفلسفات, وبدت الدعوة لمساندته وكأنها دعوة دينية تتوجه للمسلمين وحدهم دون كل العرب وكل العالم, لينهضوا ضد الاوروبيين جميعهم وليس ضد التيار الذي اقتاده الى قفص الاتهام, وجرت المقارنة بين الموقف من (سلمان رشدي) الذي اساء الادب في تصويره للرسول عليه السلام, في كتابه البذيء (آيات شيطانية) فنهض المفكرون الغربيون ومنظمات حقوق الانسان في الغرب, بل وفي بعض البلاد العربية والاسلامية, للدفاع عنه, بدعوى الدفاع عن حرية الرأي والتعبير, بينما يصمت كل هؤلاء جميعا على محاكمة (جارودي) , ولا يعتبرون ما فعله ممارسة لحرية التعبير, بل ووصل الامر, باحدى الصحف المعبرة عن التيار الاسلامي في مصر, الى القول بأن (اتحاد المحامين العرب) قد تخلى عن (جارودي) , ولم ينفذ التوصية التي اتخذها منذ ستة اشهر بتوفير حق الدفاع عنه, بسبب ان الامين العام للاتحاد, هو (فاروق ابو عيسى) احد اقطاب المعارضة العلمانية السودانية والحقيقة انني لم اجد اي مبرر يبدو للمقارنة بين (قضية رشدي ) وبين (قضية جارودي) , وعلى حد علمي فان احدا لم يدافع عن بذاءته, او يعتبرها حرية تعبير, لكن كثيرين اعترضوا على الفتوى الايرانية التي اهدرت دمه, بدلا من المطالبة بمحاكمته لتطاوله على المقدسات الاسلامية, مما يعد اهدارا لحقوق المسلمين في احترام مقدساتهم, وفضلا عن ان هذا الربط, قد يوحي, على عكس الحقيقة, بأن (جارودي) قد تطاول على الديانة اليهودية, مما يثبت التهمة ضده ولاينفيها, فإن وجه المقارنة الوحيد بين القضيتين ليس لصالحنا فقد استطاع الصهاينة, بمكرهم السياسي, ان يستثمروا ثغرة في القانون الفرنسي ليقودوا (جارودي) الى قفص الاتهام, بينما اسأنا نحن التصرف في قضية (سلمان رشدى) , وبدلا من ان نثير العالم ضده, لبذاءته واهداره لحقنا في احترام عقيدتنا الدينية, ونطالب بمحاكمته على ذلك, او بسن قوانين تصون هذه العقائد من التطاول, اثرنا هذا العالم ضدنا بفتوى اهدار دمه التي صورتنا في صورة الذين يهدرون في دماء الناس بلا محاكمة.. او دفاع. وليس لعجز اتحاد المحامين العرب عن تنفيذ قراره بالمشاركة في الدفاع عن (جارودي) صلة بأن امينه العام (فاروق ابو عيسى) ينتمي ــ كما قيل ــ للمعارضة السودانية العلمانية اللهم الا اذا كان (جارودي) يحاكم بتهمة مساندة النظام السوداني, مما يدعو ابو عيسى للتخلي عنه, او كان اتحاد المحامين العرب يؤيد الصهيونية, او كان النظام السوداني او اي نظام شبيه به, او حركة مؤيدة له, قد قامت بالواجب اللذي فات على الاتحادان يقوم به. ذلك كلام يتسم بأية جدية او مصداقية, ولايدل على شيء الا على الانتهازية التي تسعى لتحكير قضية جارودي لصالح قبيلة الاصوليين الاسلاميين,بحيث يعلق فأس الغيبوبة التي حالت بين الجميع ــ وفي مقدمتهم هؤلاء الاصوليون ـ في عنق خصومهم من غير الاصوليين الذين يصفونهم عادة بأنهم علمانيون كفرة! وقد كان يمكن التغاضي عن هذه الانتهازية باعتبارها مرضا سياسيا عربيا متوطنا لا يفيد ولايشفى منه احد, لولا ان استخدامه في قضية جارودي وامثالها من القضايا التي تتطلب سعة افق عقلية وذكاء سياسيا, لايقل ضررا عن الغيبوبة, التي جعلتنا ننسى تاريخ المحاكمة في زحام اهتمامنا بسفاسف مماثلة, ويجعلنا اشبه بتلك الدبة التي قتلت صاحبها. على جبهة الداخل, فإن السعي لتحكير قضية (جارودي) لصالح الاصوليين الاسلاميين دون غيرهم, معناه ان غير المسلمين وغير الاصوليين ليسوا مدعوين للتضامن مع الرجل, او الوقوف الى جواره, في حين ان القضية على الصعيد العربي وهي قضية قومية لان الرجل يدافع عن قضية تهم العرب جميعا: المسيحيون منهم والمسلمون والاصوليون منهم وغير الاصوليين. اما على جبهة الخارج, وهي الجبهة الاساسية التي يفترض ان حركة التضامن مع (جارودي) تتوجه اليها وتسعى لتحريكها للوقوف الى جانبه, فإن هذا التصور يضر بالرجل, ليس فقط لانه يثبت التهمة عليه, ويوحي بانه ينطلق في معاداته للصهيونية من رفض لليهودية كدين, باعتباره اصوليا اسلاميا متزمتا, بل انه كذلك يعزل عن حركة التضامن معه, الاغلبية غير المسلمة في الغرب, بمافي ذلك اليهود غيرالصهاينة, وهو ما حرص (جارودي) على ان ينفيه بكل قوة في الجلسة الاولى لمحاكمته مؤكدا انه لايمكن ان يكون ضد السامية, لانه مسلم والمسلمون ساميون, ولايمكن ان يكون ضد اليهودية , لانها ديانة كتابية, والقرآن الكريم يوصي باحترام الكتابيين وحرص على ان يقرأ امام هيئة المحكمة نص رسائل مساندة تلقاها من (الأب بيار) ــ وهو أحد أشهر رجال الكنيسة الفرنسية ــ ومن موسيقار يهودي معروف, ينتمي لأسرة من رجال الدين اليهود المعادين للصهيونية هو (يهودي منوحين) , لكي يؤكد أن قضيته ليست قضية الإسلام ضد اليهودية, ولكنها قضية الإسلام والمسيحية واليهودية ضد الصهيونية, التي هي حركة سياسية استعمارية لا صلة لها بأي دين! وما فات ــ سهواً أو قصداً ــ على الذين سعوا لوضع اليد على (قضية جارودي) من الاصوليين الإسلاميين, هو أن الرجل ــ مع انه مسلم ــ إلا أنه ليس أصولياًَ, وأنه على العكس منهم, يعتقد أن (تسييس الدين) هو المرض القاتل الذي أصيب به العالم في نهاية هذا القرن, وهو يحارب الصهيونية لانها أصولية يهودية, تسعى كالاصولية المسيحية والأصولية الإسلامية, إلى جعل الدين أداة للسياسة, وتفسر النصوص الدينية على ان تقول ما ليس فيها, لكي تضفي القداسة على أطماع سياسية, تقود إلى مظالم لا يمكن أن يوصي بها دين أو يرضى عنها رب هذا الكون! ما يحاكم من أجله (جارودي) , هو انه تصدى بقوة للتفسير الصهيوني للتوراة, الذي يسعى لتمكين الصهاينة من (استعمار) أرض فلسطين, بدعوى أن هذه هي إرادة الرب.. وتصدى بنفس القوة للتزوير الصهيوني للتاريخ الذي استهدف اصطناع وقائع تاريخية تبرر هذا الاستعمار.. ولست أريد أن أقول ان (جارودي) هو في الواقع (مسلم علماني) حتى لا أدخل ــ بصفتي مسلماً علمانياً ــ في معركة وضع يد على قضية الرجل, أو احتكارها لمصلحة التيار الذي أنتمى إليه, ولكني أتمنى أن نتنزه جميعاً عن الأنانية السياسية, وأن نعالج القضايا الكبرى بروح لا تستهدف سوى المصلحة العامة, وبذكاء سياسي يستهدف خدمة هذه القضايا لا خدمة أنفسنا أو أحزابنا, إذ الواقع أنه ليس هناك أسوأ من (تسييس الدين) , إلا (تخريب المصالح العامة) ! اللهم قد بلغت.. اللهم فاشهد! بقلم: صلاح عيسى

Email