أبـجــديــات: بقلم : عائشة ابراهيم سلطان

ت + ت - الحجم الطبيعي

للتسول كما لكل ظاهرة تعبر مدارات حياتنا اليومية, طقوس ومواسم وأسرار, فاذا جاء رمضان انتعشت مراسم التسول وبدت كطقوس عبادة منقرضة , تمارس بشكل فلكلوري قد ينال استحسان محبي جمع الانتيكا. هكذا يبدو لي التسول من احدى زواياه, انتيكا عتيقة جدا, كلحن خرج من عصور سحيقة يعزف على اوتار آلة لم يعد لها وجود, يتعاطف معه البعض اظهارا لارستقراطية مصطنعة, ويرفضها البعض الاخر انسلاخا من تراث مهترئ لا تحب ان ينتمي اليك بهذا الشكل المبتذل. وكذلك في حال اظهرت استياءك علنا نظر اليك البعض وكأنك مجرم حرب عتيد. والحق يقال فان ظاهرة التسول والمتسولين الذين كانوا يملأون باحات المنازل بعد صلاة التراويح, قد خفت كثيرا بفضل ملاحقة رجال الأمن ونداءات وبرامج التوعية الاعلامية وجهود جمعيات الاعمال الخيرية التي لا ينكر تواجدها وجهودها. ولكنني قلت بداية, ان لكل ظاهرة اسرارها وطقوسها, ولذلك فان اختفاء او انحسار ظاهرة التسول المكشوف أو الجماعي وباسلوب طرق الابواب مباشرة, لا يعني ان المتسولين قد عرفوا طريقهم الصحيح للجمعيات الخيرية, او انهم اعتزلوا هذا (الفن) ايمانا بعدم جدواه أو خوفا من ملاحقات الامن او تحرجا من امتعاض الجمهور واستيائهم. السبب الحقيقي ـ حسب ظني ـ ان الظاهرة دخلت ككل شيء عصرا جديدا له لغته وقوانينه ومعادلاته وتغيير الاساليب وطرق العرض ووسائل الترويج احد اهم قوانين السوق في هذا العصر, والتسول كأي تجارة لابد ان يستفيد من اللغة الجديدة. اليوم, وانت تتبضع في ارقى محلات المدينة, ينساب الى اذنيك صوت هادئ قريب, يحدثك بثقة عن مأساة الاخ الذي تعرض لحادث مؤسف او اجريت له عملية خطيرة مفاجئة, او الاب الذي توفي عن عائلته بمرض خبيث, بينما الاسرة في بلاد الغربة لا تجد تكاليف العملية او نفقات العائلة بعد رحيل العائل. ويقف آخر ليرتل عليك بلسان لا يتلعثم حكاية غريبة عن القريب العزيز الذي جاء يزور اقرباءه من آخر بلاد الدنيا وحينما وصل لم يعثر لهم على اثر, فانقطع به السبيل وأصبح في حال يرثى له!! انظروا كيف تتوافق حبكاتهم القصصية مع قاعدة مستحقي الزكاة في الاسلام, الفقير والمحتاج والغارم و ابن السبيل... الخ وكأنهم يلقنون ذلك تلقينا يضغطون به على اعصابك المشدودة بسلك ايماني رفيع وحساس في هذا الشهر. حدثني أحدهم بأنه كان في موقف انتظار في السوق ذات مساء رمضاني بهيج, واذا بأحد هؤلاء يقترب منه متسلحا باحدى هذه الحكايات البوليسية اللزجة, يقول: اقترب مني الى الدرجة التي كدت أتقيأ من رائحته الكريهة, لقد كان كمن استحم بزجاجة خمر والعياذ بالله وفي هذا الشهر. تأملوا لأي حاجة (ماسة) يتسول البعض ويسفح حياءه امام الآخرين. هذا ان بقي لديه شيء من حياء. يبقى ان نقول ان هناك من لا يتسول تعففا ولابد ان نتسولهم نحن كي ننال شرف العطاء (فالصدقة تطفئ غضب الرب) .

Email