العقل المعاصر أمام طير أبابيل:بقلم: د. يحيى هاشم حسن فرغل

ت + ت - الحجم الطبيعي

لايزال بعض المثقفين يعيشون في جو التراث الفكري من مخلفات القرن التاسع عشر بأوهامه في التعارض بين العلم والدين, وهم لا يزالون يعرضون أوهامهم من منطلق التكبر والغطرسة العلمية الدوجماطيقية التي كانت الطابع السائد في ذلك القرن . وقد رأينا منذ أيام نموذجا لهذا التخلف في أحد برامج المناقشات التي تتيحها إحدى القنوات الفضائية بحرية مشكورة ولكنها محذورة, إذ يعلن أحد أطراف المناقشة انكاره لمعجزة الطير الأبابيل التي ورد ذكرها في سورة الفيل, باعتبارها غير حقيقية, محرفا لها, مستشهداً ببعض الاجتهادات التي صدرت في نهاية القرن الماضي متأثرة بروح الانهزام؛ أمام مبادرات المنهج العلمي المتشح - باطلا - بما يسمي اليقين العلمي, والمصحوب - كذبا - بانكار الغيبيات. والغريب ان هؤلاء يسوقون بضاعتهم باسم العقل مع أنهم يدركون ان العقل لم يكن سندا قط لإنكار الغيبيات, وان الفلسفة العقلية تخصص أوسع أبوابها لما وراء الطبيعة منذ ما قبل أرسطو واستمراراً الى بعض الاتجاهات في الفلسفة الحديثة ثم المعاصرة, ولكنهم يتمسحون بكلمة العقل بهدف الترويج لبضاعتهم, مهما ارتكبوا من أخطاء منهجية يعلمونها. والحق أن هؤلاء يصدرون عن فلسفة مادية قديمة حديثة معا, يسلمون فيها لمغالطتهم الكبرى في إنكار ما ليس محسوساً, وهم يستعملون هذه المسلمة, متظاهرين بأنهم محايدون في المسألة الدينية, لكن حيادهم ينتهي عمليا الى إنكار الدين جملة وإنكار الغيبيات جملة وتفصيلا, إذ ان إنكار المعجزة أو خوارق العادات بدعوى عدم اتساقها مع العقل المادي أو العلم الحديث, لا يتوقف عند إنكار ما هو ثابت من الطير الأبابيل أو نبع الماء من بين أصابع الرسول صلى الله عليه وسلم, ولكنه يتجاوز منهجيا بالضرورة الى انكار الوحي, ونزول القرآن, والنبوة, والملائكة, والألوهية, والبعث, واليوم الآخر, والجنة والنار, وهلم جراً, وان كان تصريحهم بذلك يأتي محدوداً وبحسب المقام. وهم في جميع ذلك يتمسحون برداء العلم الحديث, ويغرقون في دوجماطيقية مادية علموية عفا عليها الزمن. تتجدد تحت اسم العلمانية تارة, واسم التطورية تارة, واسم الفلسفة التجريبية أو الوضعية, أو الوضعية المنطقية, أو التحليلية, أو النسبية التاريخية تارات. وهم جميعاً ينطلقون في انكارهم من منطلقات أربعة تخلى عنهم فيها العلم الحديث في القرن العشرين نبين اثنين منها فيما يأتي: القاعدة الأولى: إنكار الغيبيات - ومن ثم إنكار الغيبيات الدينية الأساسية - بزعم أنها لا يمكن إثباتها عن طريق التجربة الحسية أو بالمنهج العلمي التجريبي. والحقيقة التي يكشف عنها العلم الحديث في مصادره العصرية تقرر أننا لو أخذنا بهذه القاعدة لكان من المستحيل على المنهج التجريبي نفسه ان يثبت قواعده الأساسية, ونستشهد على ذلك هنا بما يقوله أقطاب العلم التجريبي المعاصر. إذ يصرحون بأن هذا المنهج التجريبي يفترض أساسا ان الطبيعة تسير وفقا لقوانين, وهو اعتقاد ان أمكن إثباته تجريبياً في جزئية ضئيلة نسبياً من جزئيات الطبيعة فإنه لا يمكن إثباتها للطبيعة ككل؛ في امتدادها الزمكاني. يقول الدكتور تشارلز هارد تاونز: (أصبح الإيمان في العلم شيئا تلقائيا, إننا لانستطيع ان نثبت بأي طريقة أساسية ان الكون منظم... وإنما نزعم ذلك, ونعتبر ان الأمر كذلك, ولكن هذا شيء لا يمكن إثباته - أي تجريبياً - انه في حقيقة الأمر إيمان, ايمان يبدو ان له ما يبرره) وقد صرح بذلك كثير من العلماء المعاصرين مثل: أينشتين, وجيمس كوناتت, وجون كيمني, وفي هذا يقول ألبريت سابين (ان العلم والدين كليهما يقومان على الإيمان). أنظر كتاب حياة العلماء لتيودور برتلاند ترجمة أحمد بدران ص ,89 90. ثم تعالوا بنا ننظر في عالم المادة, في جزيئات الذرة نفسها, تلك التي توصلت إليها الفيزياء المعاصرة, انها تفقد - كما يقرر علماء الذرة - الخواص المرئية الملموسة للمادة, من نحو شغلها للفراغ, والزمن واللون, كما أنها تفقد الخصائص الكيميائية أيضا, فهذه الخصائص إنما تكون للمركبات, أما الجزيئات التي هي الأصل فإنها كما يقول عالم الذرة الشهير فرينر هايزنبرج: (ليس الجوهر- يقصد جزيئات الذرة - جسيما ماديا في الفضاء والزمن, وإنما هو بشكل ما مجرد رمز تتخذ قوانين الطبيعة عند تقديمة شكلا سهلاً واضحاً). ومن هنا فإن العلماء المعاصرين يقررون باطمئنان أن التسليم العلمي بوجود جزيئات الذرة ليس ناشئا من كونها خاضعة للإدراك الحسي المباشر أو غير المباشر, ولكن لأمرين: للضرورة المنطقية التي حصلت الإشارة إليها في الأقوال التي أشرنا الى بعضها سابقا, ويضيق المقام عن ذكر عشرات منها هنا. ولما لها من آثار من ناحية ثانية, إذا أنه كما يقول الأستاذ جيمس. أ. كولمان: ليس من الضروري ان نرى الألكترون فعلا وهو يدور, لكى نحدد شكل مساره, إذ أنه لحسن الحظ ينتج عن مساره آثار معينة يمكن اختبارها تجريبياً. هكذا الأمر بالنسبة لجزيئات الذرة وهي جوهر المادة, كما هو بالنسبة لظواهر المغناطيسية والكهرباء والجاذبية وغيرها. والنتيجة التي نصل إليها من ذلك هي ان العلم التجريبي نفسه يقوم على فروض وحقائق ومبادئ لا يمكن إدراكها بالتجربة الحسية, وإنما يتم التسليم بها لبنائها المنطقي من ناحية, أولما لها من آثار محسوسة من ناحية أخرى. وبذلك تسقط مزاعم المنكرين للغيبيات باسم العلم فتراهم يقفون في العراء بغير تغطية من العقل أو من العلم. وبالتالي تسقط مزاعمهم في إنكار الغيبيات الدينية, اذ ان الدين - وبخاصة الدين الإسلامي - إنما يقدم للؤمنين غيبياته من منطلق البناء المنطقي, والآثار المحسوسة بدءا من قضية الألوهية والإيمان بوجود الله تعالى, واتصالا بالمعجزة الخاضعة لأمر الله خالق العالم من العدم, والذي إذا اراد شيئا فإنما يقول له فيكون, وانتهاء بحقائق الوحي, والتنزيل القرآني, والنبوة والملائكة, والبعث والجنة والنار, وارتباطا بحقيقة الإيمان الذي لايكون بغير الإيمان بالغيب, يقول تعالى: (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب). تسقط مزاعمهم في إنكار الغيبيات سواء فيما يصرحون بإنكاره من خوارق العادات بدءا من طير أبابيل, واطراداً في معجزة (يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) أو في معجزات موسى وعيسى ومحمد وسائر الأنبياء أو فيمالا يصرحون بإنكاره عادة بالنسبة للألوهية, فكل ذلك حبات متصلة في عقد واحد. أما القاعدة الثانية: التي ينطلقون منها في إنكار الغيبيات الدينية فهي تلك التي وضعها زعيم الفلسفة الوضعية أو جست كونت في قوله: (ان الظاهرات الطبيعية لابد لها من ان تعود الى سبب طبيعي, وان يكون من المستطاع تعليلها تعليلاً علميا, مبناه العلم الطبيعي... فلم يبق فراغ يسده الاعتقاد بوجود الله). هكذا ترى هذه الفلسفة - وهي واسعة الانتشار - ان الروابط بين الأسباب والمسببات في الطبيعة (نهائية) و(حتمية) و(ذاتية) لا تحتاج لسبب خارج الطبيعة, وان هذا هو منطلق العلم, ومنطق التطور الذي أخرج الإنسانية من حالة الخرافة والأسطورة والدين - على حد سواء حسب زعمهم - الى حالة الفلسفة العقلية الميتافيزيقية, وأخيراً - طبقا لمنطق التطور الحتمي وقانون الأحوال الثلاثة - الى حالة الفلسفة الوضعية أو العلمية, على حد سواء حسب زعمهم أيضا. والرد على هذه المزاعم نسوقه من أصولهم, من منطق العلم نفسه: ذلك ان العلم الحديث - وبخاصة في القرن العشرين - أخذ يقرر ان ارتباط ما يسمى سببا ومسببا في الطبيعة ليس إلا عملية تعاقب لاشيء فيها يشير الى السبب الحقيقي, وكما يقول كارل بيرسن - وهو أحد أعلام العصر فيما يتصل بفلسفة العلم - في كتابة أركان العلم: (ان ما يسمي بالعلية (لاحظ ان كلامنا في ظواهر الطبيعة حصراً) ليس إلا ملاحظة حدوث تعاقب معين, وتكرار حدوثه في الماضي, أما ان هذا التعاقب سيستمر في المستقبل فهذا ما يستحيل ان نجزم به, وإنما هو موضوع للاعتقاد أو الإيمان نعبر عنه بمفهوم الاحتمال), وما يقوله بيرسن هنا هو موضع الاجماع بين العلماء وفلاسفة العلم المعاصرين, ومن ثم يسقط القول بحتمية قوانين الطبيعة, تلك التي وضعها الوضعيون التجريبيون العلمويون التطوريون سلما ينحدرون به إلى انكار المعجزات بخاصة, وحقائق الدين بعامة. وهنا يحق لنا بناء على هذه المسلمات العلمية العاصرة, وطبقا لمنهج العلم الذي يصر على البحث عن السبب... السبب الحقيقي, ان نقرر أنه ولم تعد هناك حتمية ذاتية في قوانين الطبيعة فإن علة الانضباط المشهود في ظواهر الطبيعة يرجع الى القول بوجود الله وارادته, لتمسك الإرادة الإلهية وحدها هذه الطبيعة, وفق نظام لاتفرضه الطبيعة ذاتها, وفقا لقوله تعالى (ان الله يمسك السماوات والأرض ان تزولا, ولئن زالتا ان أمسكهما من أحد من بعده) ومن ثم يصبح لدينا دليل جديد على وجود الله, نسميه (دليل إمساك الطبيعة على وجود الله). وهكذا إذا رأينا التزاما في قوانين الطبيعة, والتزاما في ظواهر التقدم والتطور لا تدل عليه الطبيعة في ذاتها... كان لابد وان نحكم برجوعه الى إرادة الله وحده. وهذا ما ينبغي ان نحتذيه في تدريس العلوم التجريبية. يقول الدكتور نورمان بريل في كتابه بزوغ العقل البشري (إننا كلما رأينا خطة شاملة للكون كله فإن أفكارنا تتجه في الحال الى انه لابد من وجود خالق لهذا الكون, وأنه هو الذي وضع هذه الخطة). ومما يتقدم يتبين ان عقيدة الألوهية في الإسلام لا تتعارض مع تصور القانون والنظام في الطبيعة, وإنما الأمر على العكس من ذلك, فالإسلام هو الذي سبق الى تقرير هذا النظام, وهو الذي أنقذه من الفلسفة التجريبية العلموية التي تخلت عنه أخيراً, وهو الذي سبق الى الكشف عن خضوعه لارادة الله وحده, وهو - وحده - الذي يضع له ضمان استمراره, وذلك كله في قوله تعالى (سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا). كما يبدو الانسجام واضحا بين إرادة الله واطراد القانون الطبيعي, ويظل هناك - عود على بدء في مسألة خوارق الطبيعة - موضع للخوارق التي يظهرها الله بين الحين والآخر, من حيث ان الأمر جميعه بيده لابيد غيره, يفعل ذلك - والله أعلم - تذكيراً للإنسان بمصدر الوجود, ومصدر القوانين, ومصدر الخوارق - جميعاً - وهو الله تعالى سبحانه وتعالى. وإذن يصح القول بالمعجزات ويصح القول بالغيبيات, بنفس القدر الذي يصح به القول باطراد النظام الطبيعي, من حيث ان المرجع في ذلك كله هو الإرادة الإلهية, تلك الإرادة التي يقع كل شيء في العالم بالنسبة لها تحت حكم الممكن الجائز. ولا بأس بأن نستحضر هنا قول الفيلسوف الفرنسي الشهير ديكارت (كل ما يبدو لنا حقائق أزلية هو أمر منوط بمشيئة الله تعالى الذي قضى بها وأقرها بصفته المشرع الأسمى) وقول صمويل كلارك الفيلسوف الشهير (كل ما في الطبيعة نتيجة الإرادة الإلهية بداهة) وقول فولتير فيما كتبه على لسان الطبيعة (لقد أعطيت اسما لا يناسبني على الإطلاق, فقد دعيت الفن, وأنا في الحقيقة فن الله). يقول تعالى (يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير) 17 المائدة. (صدق الله العظيم) .

Email