ابجديات، بقلم: عائشة ابراهيم سلطان

ت + ت - الحجم الطبيعي

لان الناس هنا قد اعتادوا على اجواء الصيف وطقوسه الحارة أطول فترة من ايام العام, فان ذاكرتهم قد مسحت جزءا منها هو ذلك المتعلق بطقوس الشتاء الجميلة واجوائه الباردة. ولذلك فعندما انخفضت درجة الحرارة في اليومين الماضيين وبشكل ملحوظ, كان واضحا ان حديث الناس كلهم قد انصب على هذا البرد (العجيب) الذي جاء على غير موعد, والذي لا يدرون من أين جاء, حتى طمأنتهم النشرة الجوية بأنه بسبب منخفض جوي! ألم نقل باننا فقدنا ذاكرة البرد والشتاء. اعرف اناسا يزعجهم منظر الغيوم وقد يخيفهم احيانا, وهناك من تسبب لهم ضبابية الاجواء الغائمة كآبة لا توصف, وبعضهم يفضل ارتقاب ايقاع الحياة الشتائية الجميلة من خلف زجاج النوافذ على الخروج في صباح شتائي ممطر خوفا من حدوث ما لا تحمد عقباه. عندي, الشتاء جميل جدا, وأجمل ما فيه انه مختلف عن بقية ايام العام المتشابهة. ففيه وحده فقط تشعر ان سيمفونية الصيف المداري الطويل قد توقفت عن العزف الممل على اعصابنا الملتهبة, ووحده الشتاء يملك صلاحية كسر عصا المايسترو الصيفي والقائها في برك الامطار المتجمعة في كل مكان. شتاؤنا جميل يغري سكان الكوكب جميعهم ويمنيهم بعطلات لا تنسى, وبرغم ايامه الخاطفة, وحرارته التي تذكر بصيف اوروبي منعش, الا انه شتاء ناعم, ولطيف بأهله, فنحن حقيقة لا يمكننا احتمال ايام تصل درجات حرارتها لما دون العشر درجات سواء فوق الصفر او تحته او عن يمينه او شماله. اذكر تلك القصة التي كانت تقصها امي علينا في أيام الطفولة العذبة ونحن نتحلق معها حول موقد الجمر عن ذلك الرجل ذي الجاه والغنى وقد عصفت رياح الشتاء خارج خيمته بينما هو متسربل في الديباج والاصواف الفاخرة ومواقد النار تحيط به, تضخ الدفء في اوصاله المتجمدة, وبينما هو كذلك, دخل عليه رجل رقيق الحال والملابس فتعجب الغني لمرآه وبادره: كيف احتمالك لهذا الزمهرير في الخارج وبهذه الملابس؟ فأجابه الرجل: كل برده على قدره يا سيدي! وهكذا نحن, فدرجة حرارة وصلت الى 15 درجة مئوية سربلت الناس في الاصواف والسترات الشتائية الدافئة, وجعلتهم يهتزون كريشة في مهب العاصفة, بينما تلعب الطفلة (ليال) فوق سيارة شقيقها في شوارع بيروت وتصنع من تلال الثلج عروسا تلعب بها, وكذلك يصنع اطفال القدس نماذج اخرى للاقصى من اكوام الثلج في باحات الحرم الشريف يفجرون بها غيظ بني صهيون ومثلهم يفعل الاطفال في مدن حيفا ويافا ورام الله. جدتي التي تجاوت الثمانين, تسخر من هذه الرجفة التي يبديها شباب اليوم وتعلق بشكل لذيذ ذي مغزى: انظروا الى شباب اليوم! وبينما يغرقون هم في ملابس شتاء وثيرة تتبختر هي بملابس اقرب لملابس الصيف, وتمضي متذكرة أيام الشتاء القديمة وتتمتم: تلك كانت أيام شتاء حقيقية.

Email