عام آخر على التسوية السلمية وجديد واشنطن القديم:بقلم : رياض أبو ملحم

ت + ت - الحجم الطبيعي

لعل المغزى الوحيد المفهوم من الاجتماعات الإسرائيلية الفلسطينية التي دعت إليها الإدارة الأمريكية مطلع العام الجاري 1998 هو خلق انطباع عام لدى مختلف الجهات المعنية بأن التسوية السلمية لم تمت, وبأن الولايات المتحدة لا تزال تواصل دورها في رعاية هذه التسوية وحدها بأسباب الحياة . فالاسلوب الذي قادت به الإدارة الأمريكية العملية السلمية على مدى العام المنصرم لا يسمح بأي استنتاج متفائل حول امكانية تحقيق أي انجازات مستقبلية تتعلق بتنفيذ الاتفاقات المعقودة أو حمل إسرائيل على وضع حد لمشاريعها الاستيطانية التوسعية. كذلك لم تظهر أية مؤشرات تدل على أن واشنطن عازمة على تغيير نهجها الذي يقوم على أساس ممارسة ضغوط مستمرة على الطرف الأضعف في هذه العملية, صاحب الحق, ليقدم تنازلات للطرف الأقوى, المعتدي والمغتصب, لا تتوقف عند حد معين. فإدارة الرئيس كلينتون تؤكد دائماً انها لن تمارس أي ضغط على الحكومة الإسرائيلية, لا للانسحاب من الأراضي العربية المحتلة ولا لوقف سياسة التوسع الاستيطاني في هذه الأراضي, وذلك بحجة ترك الطرفين يتفاهمان حول المسائل المختلف عليها وتجنباً لإفساد العملية السلمية! هذه الممارسة الأمريكية أدت إلى نتيجتين متلازمتين: الأولى فك الارتباط القائم بين المفاوضات الجارية وبين المبادئ التي تحكم عملية التسوية السلمية, كذلك الاتفاقات التي جرى التوصل إليها بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني منذ عام 1993. وتأسيساً على هذا الواقع أصبحت المفاوضات تجري خارج نطاق الشرعية الدولية والقرارات الناشئة عنها, ابتداء من القرار ,242 سيء الذكر, وصولاً إلى آخر القرارات والتوصيات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن الاستيطان والحقوق الفلسطينية. والنتيجة الثانية هي ترك الطرف الأقوى, وهو الطرف الإسرائيلي, يفرض توجهاته وشروطه على الطرف الفلسطيني, فيقبل ما يريد ويرفض ما يشاء دون أن يكون ملتزماً بالعودة إلى أية مرجعية, أو خاضعاً لأية مساءلة دولية. في ظل هذا الوضع بدت طبيعيه تماماً المسرحية التي ترافق موضوع تنفيذ المرحلة الأولى من إعادة الانتشار الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة وفقاً لنصوص اتفاق أوسلو. ففضلاً عن أن الحكومة الإسرائيلية تريد أن تجعل من هذه المرحلة, الأولى والأخيرة, لتقفل باب الانسحاب من الأراضي المحتلة بعد ذلك, حرصت القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل على اظهار أكبر قدر من الاستخفاف بالجانب العربي الذي تفاوضه, وبالإدارة الأمريكية, وبالشرعية الدولية, وبالرأي العالم العالمي, وذلك من خلال الأسلوب المتعالي الذي تستخدمه في عملية اختيار أو انتقاء المناطق التي توافق على إعادة الانتشار فيها, وتلك التي تنوي الاحتفاظ بها بصفة دائمة, بذريعة مراعاة الاعتبارات الأمنية الإسرائيلية. فالنقاش داخل القيادة الإسرائيلية يتركز حول مسألتين: الحفاظ على الوجود الاستيطاني في الضفة الغربية المحتلة وربط المستوطنات التي ستظل قائمة, ضمن أية تسوية محتملة, بالسلطة الإسرائيلية, واستمرار السيطرة العسكرية المباشرة على مختلف المواقف والمناطق التي تندرج تحت عنوان (المناطق الأمنية والحيوية) . لكن العسكريين المحترفين يذهبون إلى أبعد من ذلك حيث يجرون تقديرات حسابية للمساحات التي تحتاج مساحة معركة حربية يتعين فيها على لواء مدرع إسرائيلي أو أكثر مواجهة وصد هجوم بري عربي محتمل (!). وفي حين تصل التقديرات العسكرية إلى مئة وخمسين كيلو متراً, ما يعني شمول المساحات المطلوبة الأراضي الأردنية أيضاً, فإن ارييل شارون يوافق على تخفيض المساحة إلى عشرين كيلو متراً, برغم أن ذلك ينطوي على مخاطرة كبيرة! ومن خلال هذا النقاش يبدو المسؤولون الإسرائيليون وكأنهم يخططون لمعركة عسكرية قادمة لا لتسوية سلمية. وأياً ما يكن الهدف من هذه الحسابات الوهمية فإن النتيجة المترتبة عنها هي إصرار إسرائيل على الاحتفاظ بما يزيد عن سبعين في المئة من الضفة الغربية, وهدر قسم آخر من الأراضي في عملية ربط المستوطنات الإسرائيلية ببعضها البعض بالطرق السريعة والالتفافية, فضلاً عما يعنيه كل ذلك من سيطرة إسرائيلية أمنية وغير أمنية, مباشرة وغير مباشرة. أي أن الاحتلال الإسرائيلي سيبقى, ولكن في صيغة يوافق عليها الفلسطينيون وتتخذ صفة شرعية كاملة. وإذا كان كل ذلك يندرج ضمن الاحتمالات السيئة بالنسبة للشعب الفلسطيني, فإن ما هو أسوأ منه مطالبة الفلسطينيين بتحديد نسبة المساحة التي يوافقون على أن تحتفظ إسرائيل بها حتى قبل أن تقدم الحكومة الإسرائيلية خطتها النهائية في هذا الشأن. وهذا يعني أن الفلسطينيين مطالبون بإعلان تنازلهم, مسبقاً, عن معظم أراضي الضفة الغربية حتى يصبح في الإمكان استئناف العملية السلمية, أي استئناف المفاوضات العقيمة بينهم وبين الإسرائيليين. ولا يشبه هذا الموقف الغريب سوى امتناع إسرائيل حتى الآن, عن إعلان حدود دولتها التي انقضى خمسون عاماً على إعلانها رسمياً, ما يؤكد أن الدولة العبرية ما تزال مفتوحة على مزيد من التوسع, من خلال الاحتفاظ بأكبر مساحة ممكنة من الأراضي العربية المحتلة. فمشروع إسرائيل الكبرى لم يسقط نهائياً بعد على الرغم من إصابته بنكسات عديدة, ومن الواضح أن بنيامين نتانياهو يحاول إعادة الروح إليه عبر إطالة أمد الصراع ومحاولة خلق معطيات جديدة قد تساعده على تحقيق ما عجز آخرون سبقوه عن تحقيقه. وفي هذا المجال تبين الأرقام الرسمية المسجلة أن السلطات الإسرائيلية صادرت مساحات من أراضي الضفة الغربية تقدر بـ 24340 فداناً خلال العام المنصرم تنفيذاً لسياسة التوسع الاستيطاني التي تمارسها عبر أسلوب القضم المتمادي, وذلك تحت شعار تطوير المستوطنات القائمة وإضافة آلاف الوحدات السكنية إليها, كذلك إقامة المنشآت الصناعية ومد الطرق السريعة والالتفافية. ويستدل من ذلك انه في الوقت الذي تعرقل الحكومة الإسرائيلية تحقيق تسوية سلمية, تواصل تنفيذ مخططاتها التوسعية, وهو ما يكشف حقيقة النوايا الإسرائيلية, وكذلك طبيعة التسوية التي يراهن بعض الأطراف العربية عليها. إزاء ذلك ماذا تتوقع السلطة الفلسطينية أن تجد في واشنطن؟ وهل سيقدم نتانياهو من العروض (المغرية) أكثر مما قدمه حتى الآن, وغير ما تؤكده خرائطه الخاصة بالضفة الغربية.. التي لم تستكمل بعد؟ ثم.. هل تعترف الإدارة الأمريكية بوجود مرجعية دولية للتسوية السلمية المطروحة, أم انها تستند فقط إلى المرجعية الإسرائيلية وإلى اقتراحات بنيامين نتانياهو وحدها؟

Email