ملاحظات في الصهيونية:بقلم : د. علي أومليل

ت + ت - الحجم الطبيعي

قال أحدهم (البير لوندر): (إن الصهيونية لم تكن أبداً تجربة, بل كانت فكرة) . معناه أن الصهيونية قلبت الوضع الطبيعي لتكوين الأمم والدول . فالأمة تتكون عادة عبر التاريخ وبالتاريخ, تتلاحم فيها وعي مشترك للجماعة الأمة بانتماء إلى أرض ــ وطن, وتأتي الدولة القومية, أو الدول ــ الأمة لتجسد سياسياً وقانونياً هذا التلاحم بين عناصر الأمة. فالوعي بالانتماء الجماعي إلى أمة واحدة يأتي لاحقاً عبر تفاعل تاريخي, وتأتي الدولة لتتوج هذا التلاحم والانتماء إلى أمة وأرض ووطن وتاريخ. أما الصهيونية فقد قلبت هذا الوضع الطبيعي تماماً, إذ هي فكرة أولاً, أو ايديولوجيا, كان عليها أن تخلق لها أمة وتنشئ دولة. الأمة الطبيعية تعيش على أرض, هي لها وطن, لكن الصهيونية كان عليها أن تجد لها أرضاً, تصنع فوقها أمة, وتنشئ دولة, أين هي هذه الأرض؟ لم يكن الجواب واحداً لدى رواد الصهيونية, وهنا المفارقة. إن (اختيار) أرض فلسطين, لتكون هي الأرض التي سيجمع فوقها شتات اليهود, ليصنعوا أمة, ويقيموا دولة, لم تكن هي (الاختيار) الوحيد. فقد عرض وزير بريطاني للمستعمرات سنة 1903 على اليهود أرض أوغندا لتكون وطناً لهم, وقد حبذ هذا العرض تيودورهرتسل, مؤسس الحركة الصهيونية, كما قبله اليسار يهودا, واضع قاموس اللغة العبرية الحديثة, وحين طرح عرض الوزير البريطاني للتصويت في المؤتمر السادس للحركة الصهيونية صوت ضده 176 مؤتمراً, مقابل ,143 والفرق ليس كبيراً كما يلاحظ. الحركة الصهيونية حين نشأت في أواخر القرن الماضي كانت أقلية من بين حركات يهودية أهم. وقد عارضها خاصة تياران يهوديان: الحداثيون, و(الأصوليون) . الحداثيون عارضوها لأنهم أرادوا إنشاء دولة يهودية عصرية متحررة من ثقل الماضي. و(الأصوليون) بسبب معتقدهم الديني في (الميعاد) . فحسب اعتقادهم فإن هذا الميعاد ليس معناه أنه سيتم على أرض جغرافية, كما أن ميقاته هو من علم الرب وإرادته, فليس لبشر أن يحرفوا المعنى الديني للميعاد, ولا أن يتدخلوا في تحديد مكانه وميقاته, أي إعطائه شكل دولة, وإقامتها في هذا الوقت, وكل هذا من شأنه أن يحط من المعنى القدسي للميعاد. حملت الصهيونية أفكاراً أو آثاراً من القرن التاسع عشر الأوروبي, خاصة الفكر الألماني, فبعض رواد الفكر الصهيوني كانوا في خط تلامذة الفيلسوف الألماني هيجل, المنظر الكبير للدولة الوطنية الحديثة. وأيضاً فإن موسز هيس, رائد الاشتراكية الديموقراطية الألمانية والذي اعتبر أيضاً أب الصهيونية الاشتراكية تأثر كثيراً بكتابات الفيلسوف الألماني هيردر, فيلسوف التاريخ الذي أثرت أفكاره على دعاة القومية الثقافية في وسط وشرق أوروبا. وقد دافع هذا الفيلسوف الألماني المسيحي عن حق اليهود في عودة تاريخية إلى فلسطين, ومعلوم أيضاً أن الصهيونية حملت فكرة الدولة القومية التي كانت فكرة كبرى للقرن التاسع عشر, قرن الوحدة القومية ودولتها. ومع ذلك... فليست الصهيونية ايديولوجيا حداثية, لأسباب منها تعلقها باعتقاد ميثولوجي, اعتقاد العودة إلى أرض فلسطين, وكأن هذه الأرض بلا شعب, بل إن الصهيونية رفضت حلاً حداثياً لمشكل اليهود والقائل بمبدأ المساواة في المواطنة بغض النظر عن الفروق الدينية, والطائفية, وهو مبدأ حملته الثورة الفرنسية والذي فتح أمام اليهود كأفراد امكانية الحراك الاجتماعي والسياسي وهو ما مكن شخصيات يهودية, من نفوذ اجتماعي وسياسي استعملته في الضغط دفاعاً عن الجاليات اليهودية في مختلف أقطار العالم. كما أن الدولة الديموقراطية الحديثة فتحت أمام اليهود باب الاندماج, والذي شجعتهم عليه حركات يهودية حداثية مثل حركة (الأنوار) اليهودية (الهاسكالا), والتي كانت صدى لحركة الأنوار الأوروبية, إلا أن الحركة الصهيونية قامت ضدا على فكرة الإندماج هذه, بدعوى أنها طمس للخصوصية اليهودية, والتي ينبغي أن تجسدها دولة يعود إليها يهود العالم. إن إنشاء دولة لليهود يعني في نظر الصهيونية أشياء كثيرة, فهو يعني انهاء حالة الشتات التي يعيشون فيها منذ الجلوة الكبرى لليهود اثر تحطيم الرومان لمعبدهم الثاني بالقدس (سنة 70م), وإنشاء دولة لليهود يعني أيضاً لدى الصهيونية استعادة اليهودي لـ (السيادة) وأنه ظل منذ انقراض دولة ملوكه في ذمة الغير, واستعادته لممارسة السياسة لأن اليهود أبعدوا عنها من قديم, كما أن إنشاء دولة لليهود يعني استقرارهم في أرض, وتجذرهم فيها بممارسة نشاط إنتاجي ملتصق بالأرض, أرض فلسطين بالذات (تأسست أول مدرسة زراعية لليهود في حيفا سنة 1870) وقد كان النشاط المعتاد لليهود هو التجارة, والربوية, وبعض الحرف, يقول بن جوريون: (كان اليهود مكروهين ومحتقرين ونافعين وضروريين, وكانوا أيضاً يثيرون الشفقة, وكانوا دائماً تحت حماية الغير وفي ذمته. لكن لم يكن هناك شعب يهودي كفاعل سياسي) . ما يدل أيضاً على الوجه الاصطناعي للصهيونية ويطعن أيضاً في ادعائها الحداثة هو عودتها للغة العبرية التوراتية: إن العبرية لم تكن اللغة الأكثر استعمالاً بين يهود العالم, بل (الييدش) وهي لغة شعبية أغلب كلماتها ألمانية, ومكتوبة بحروف عبرية, وكانت منتشرة بين يهود شرق أوروبا, وإلى حد ما بين يهود غربها ويهود الولايات المتحدة, بحيث قدر عدد مستعمليها بتسعة أعشار يهود العالم, وكان أبو الصهيونية نفسه, هيرتسل يرى أن اختيار العبرية لغة قومية لليهود ليس عملياً, وكان اميل الى تعدد لغوي (على غرار سويسرا) مع سيادة اللغة الألمانية, ومع ذلك فقد غلب التوجه نحو احياء واصلاح العبرية التوراتية, فكانت العبرية الحديثة التي ارتبط احياؤها وتقعيدها باسم اليسار بن يهودا (1858 ــ 1923). فطوال أربعين سنة اشتغل هذا الأخير على اللغة العبرية تعقيداً واشتقاقاً وتحديثاً, وقد وضع قاموساً كبيراً للعبرية الحديثة في ستة عشر مجلداً نشر منها في حياته أربعة. إن الصهيونية حين اختارت العودة إلى اللغة العبرية مع تحديثها, كلغة موحدة, فإنهم بذلك قد سايروا المفهوم الألماني للوحدة القومية, والذي جعل ركيزتها وحدة اللغة الصهيونية. الصهيونية إذن مشروع لعودة مزدوجة: إلى (أرض) صهيون, وإلى اللغة التوراتية, وكلاهما عودة دينية ميثولوجية على كل حال, مما يبطل ادعاءها الحداثة والعلمانية. لقد وضعت الصهيونية مشروعاً سياسياً وعسكرياً للعودة إلى أرض فلسطين وتأسيس قومية ودولة فوقها باسم (حق) ملكية لم يتقادم ضدا على التاريخ, وباسم إعادة دولة ملوك بني إسرائيل, وكأن التاريخ لم يتحرك طوال هذا المدى المديد, فغلبت الخرافة التاريخ بالعنف وبتواطؤ الغرب ودعمه والذي أراد أن يبرئ ذمته مما أوقعه على اليهود من اضطهاد دفع الفلسطينيون والعرب ثمنة ولا مسؤولية لهم فيه. والفلسطينيون؟ أناس طارئون تراموا على أرض بني إسرائيل فليجلوا عنها, ومن بقي منهم فليتحولوا إلى أقلية وليس لهم حق السيادة, وما تستلزمه من حقوق وطنية وسياسية! يحتفل العالم هذا العام بالذكرى الخمسين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان, وتحتفل إسرائيل بالذكرى الخمسين لإنشائها. وفي تزامن الاحتفالين مفارقة. من يقرأ ديباجة (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) يتبين له أنها تعكس صدى نهاية الحرب العالمية الثانية, وأن هذه الحرب قد تسبب فيها نظام (النظام النازي) قام على مبدأ مناقض تماماً لحقوق الإنسان, وهو مبدأ التفاضل العرقي بين البشر, ضدا على مبدأ المساواة بينهم, وأعلى من شأنها نظام عقائدي امتثالي تسلطي ضدا على حرية الأفراد والمشاركة الديموقراطية, وجر العالم إلى دمار لم يشهد له مثيلاً في التاريخ, فصدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليعلن في ديباجته أن (تناسي حقوق الإنسان وازدراءها قد أفضيا إلى أعمال همجية) . وقد تزامن تقريباً صدور هذا (الإعلان) مع قيام دولة إسرائيل, فكان في هذا التزامن مفارقة صارخة. ذلك أن هذه الدولة قامت على انقاض وطن قد اغتصب, وشعب قد شرد. اننا حين نتحدث عن خرق لحقوق الإنسان, في هذا البلد أو ذاك, يكون هذا الخرق قد وقع على أناس لكنهم ما يزالون يعيشون على أرضهم وفي وطنهم. أما حين يستأصل شعب من أرضه يطرد من وطنه, فمعنى ذلك ضياع مطلق لسائر حقوقه الإنسانية, بضياع الشرط الطبيعي لوجود أي شعب, وهو أن يوجد على أرضه وفي وطنه. ذلك أن الإنسان, قبل أن تكون له حقوق إنسانية أو لا تكون, ينبغي أن يكون له أولاً وطن له عليه حق السيادة, وانتفاء هذا الشرط, هو نفي جذري ومطلق لحقوق الإنسان. أليس في تزامن صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وإنشاء دولة صهيونية قامت على استئصال شعب بكامله من أرضه تناقض سافر ينبغي على المدافعين عن الحقوق الوطنية والإنسانية للشعب الفلسطيني أن يعلنوا عنه بمناسبة الذكرى الجنسية للإعلان العلمي لحقوق الإنسان.

Email