الخيط الرفيع بين العولمة الهيمنة بقلم: د. حنيف القاسمي

ت + ت - الحجم الطبيعي

استغرق الحديث عن مفهوم (العولمة) وقتا طويلا, وبذلت فيه جهود كبيرة. ولعل آخر تلك الجهود, الندوة التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت في ديسمبر الماضي, والتي كانت بعنوان (العولمة والعرب) , وكان من المفترض ان تخرج الندوة المذكورة برؤى تحدد موقع العرب في ظاهرة العولمة, وكانت هناك بعض الآمال التي كان يتطلع إليها المهتمون بهذه المسألة, وهي في معظمها تدور حول دور العرب في صياغة هذا الفكرة التي يطلق عليها جل وقت السادة الباحثين المشاركين في تلك الندوة, والتي - على الرغم - من ذلك كله - كانت محاولة إيجابية تعكس ذلك الدور العربي المرتقب, بعد ان يستقر المفهوم, ويتحدد الموقف من تلك الظاهرة, والتي ربما أدرك الجميع أنها بصدد التطور الذي لا خيار فيه, والاكتساح الذي لا مفر منه. وإذا كان التوقف كثيرا عند دلالة مصطلح (العولمة يبدو- في ظاهرة - هدرا للوقت والجهد, إلا ان تبيان دلالات المصطلح يعد آمراً في غاية الأهمية بلاريب, وذلك حتى لايتحول نقاش المتحاورين بشأنها الى حوار طرشان حيث تكون الألفاظ ملبسة بالغموض والابهام. والعولمة من المصطلحات التي شابها مثل ذلك الغموض, فهي وان كانت في معناها البسيط تعني إكساب الشيء طابع العالمية أو تطبيقه عالميا, الا ان المصطلح ذاته اخذ دلالات اعمق من ذلك بكثير, بل أثير حول العولمة تساؤلات لها صلة وثيقة بتطبيق العولمة في مفهوم فارضي نمطها, فأقترنت بفكرة العولمة مسألة العلاقة بملء الفراغ, وقضية التأثير على الاستقلال الوطني, والانتقاص من سيادة الدول, بل أثير قلق حول ما تؤدي اليه العولمة من إلغاء وظيفة الدول والتأثير على استقلالية القرار فيها, وما الى ذلك من الأمور التي دارت حول معاني العولمة في واقعها الممارس وأثارها المشهودة في مختلف الصعد, فلم تعد العولمة قاصرة - في ظل هذا المفهوم على مجال دون آخر, بل ظهر ما يسمي بعولمة المهن وعولمة التعليم وعولمة الاقتصاد, وهذه الأخيرة هي التي كانت على رأس جدول أعمال قمة الدول الصناعية السبع بفرنسا عام 1996. وإذا كانت العولمة بمعناها العميق ذي الأثر على استقلالية الدول مثيراً للقلق, فإن بعض المظاهر الأخرى لتطبيق العولمة قد أحدث ردة فعل طبيعية تجاه فرض النمط المهيمن, وهو في غالبه غربي الطابع, وربما كان في معظم الأحيان أمرىكي الصبغة. ولعل الموقف الفرنسي يفرض نفسه كمثال بارز في مقاومة العولمة التي تسعى لتحقيق أهداف لاتنسجم مع ثقافتها أو مصالحها الاقتصادية ونحوها. وظهرت في المقابل نزعة تدعو الى ترسيخ دور الدولة ووضع الخطط التي تحمي مصالحها الذاتية في مواجهة فكرة العولمة. وقد أشار الى هذا الموقف وأكده مارك بلونديل, أحد الزعماء النقابيين الفرنسيين البارزين, الذي اعتبر الخطة ودور الدولة الحاجز الأخير في مواجهة عولمة رأسمالية عشوائية ومتوحشة - وذهب آخرون الى تبني موقف توفيقي يتمثل في (أنسنه) العولمة لا رفضها, وقد عبر عن هذا الموقف الزعيم الاشتراكي الفرنسي جوسبان, والذي تزعم الفريق الجديد الذي استلم السلطة بعد ان اشتدت وطأة عولمة الاقتصاد وأثارها, وألقت بظلالها القائمة على الفرد الفرنسي العادي مما أوجد تياراً فرنسيا متصاعداً يتبني ما يسمي بتحدي العولمة. وقد حلل الكاتب الفرنسي البارز اريك رولو منذ عدة شهور أسباب التحول المثير الذي شدته فرنسا بصعود جوسبان وفريقه, وتحقيق الفوز في الانتخابات الفرنسية الأخيرة, والتي لم تؤد - حسب رأيه - الى انهيار غير متوقع لليمين, وعودة الاشتراكيين الي السلطة متحالفين مع الشيوعيين وانصار البيئة فحسب, بل فتح الطريق نحو تجربة تبدو محتوياتها ونتائجها هائلة, ليس فقط في فرنسا, ولكن أيضا في أوروبا وأبعد من ذلك. فالتحدي الذي يطرحه الفريق الجديد هو بحد ذاته تحد هائل, فهو يعني مواجهة النتائج السلبية كعولمة الاقتصاد, حيث يجب ان لا نخدع بالمعاني العميقة, فخيار الفرنسيين الذين في غالبيتهم قالوا لا للنظام الدولي الذي دعاهم اليمين الفرنسي للاستسلام له. فالفرنسيون قالوا لا لليبرالية الجديدة, والتي تبدو أنها لا تقاوم, والتي جعلت البطالة تتصاعد في أوروبا (18 مليون عائلة بلا دخل) وانخفضت القوة الشرائية, وزادت الفروقات الاجتماعية. بالإضافة الى ذلك كله, فإن الفرنسيين ليسوا مستعدين للتخلي عن المكاسب الاجتماعية التي توصلوا إليها منذ 60 عاماً, مثل مجانية التعليم, والعناية الصحية والأجازات المدفوعة, وتعويضات البطالة, وتأمينات الشيخوخة. حيث يعتبر الفرنسيون هذه التقديمات حقوقا لا يمكن التنازل عنها, وليسوا مستعدين للتضحية بها على (مذبح) , أو على مذبح الاتحاد الأوروبي. ولاشك ان تجربة فرنسا والتحول المثير الذي شهدته الدولة الأوروبية تجاه الانكفاف على الذات, والدفاع عن المكتسبات الوطنية وحمايتها تعد - بحق - مثالا جيداً لردة الفعل - التي أتصور انها طبيعية - وتتفق مع منطق المصلحة السائد في الغرب. ويلاحظ كذلك, ان ذلك الارتداد المثير قد حدث على الرغم من كون فرنسا جزء من المنظومة الغربية, غير ان الهاجس الاقتصادي كان أقوي الأسباب الداعية الى وجود ردة الفعل تلك على ذلك النحو الذي تقوم. ولا يعني هذا ان فرنسا والفرنسيين يغفلون جوانب أخرى تميزهم عن سائر مشاركيها في تلك المنظومة. حيث تمثل المحافظة على الهوية الثقافية هاجسا مهما بالنسبة للفرنسيين, يستدعي في سبيل المحافظة على خصائصها الاحتجاج على كل ما يهددها وسن القوانين, واتخاذ الإجراءات التي تكفل حماية هويتها الثقافية. والذي يعنينا من نظرية العولمة وفكرتها التي يسوق لها هو اين موقفنا في ظل انتشار هذه الظاهرة؟ وما هو موقفنا منها؟ وما هو دورنا في صياغتها؟ تبدو طرح مثل هذه التساؤلات أمراً مشروعاً وملحا في الوقت ذاته, ويستدعي وقفات عديدة لتلمس دور فاعل في هذا الشأن. وان كان الواقع - مع الأسف - يشير الى غياب ظاهرة, أو تغييب مقصود لأي اسهام ذي بال في صياغة مشروعنا الحضاري في عصر العولمة. غير ان الاستعداد لمشروع المستقبل يستدعي موقفا واقعيا تجاه ظاهرة العولمة التي فرضت وستفرض الكثير من المظاهر التي يريدها المشاركون في صياغتها, وسوف تحقق الأهداف حسب رؤية أولئك القوم وتصورهم للمشروع الذي يراد فرضه على الأخريين, الذين لن يكون لهم الخيار في القبول أو الرفض, خاصة أننا نشهد عصراً تمارس فيه ثورة المواصلات والاتصالات في ظل معطيات التقنية الحديثة دوراً هاماً في ترسيخ فكرة العولمة. ومع ذلك, يبقى حقنا المشروع في تحديد رؤيتنا الخاصة واتخاذ الموقف المناسب الذي يجب ان ينسجم مع أهدافنا, ويحقق المعادلة المتمثلة في التعامل مع الواقع الحضاري في عصر العولمة, والمحافظة في الوقت ذاته على الخصوصية التي تحدثنا عنها, ولن يتحقق ذلك إلا بالمشاركة والأسهام في تشكيل وصياغة العولمة. وهو أمر يستدعي كذلك تقديم مشروعنا الحضاري الغائب, محددة فيه الخطط والبرامج التي تحقق أهداف ذلك المشروع. ولاشك ان التجربة التاريخية قد أثبتت إمكانية التعامل مع الآخر, وحققت سنن التفاعل الحضاري, المحقق لمصالح المشروع, المحافظ على خصوصيته في التأثر السلبي بالآخر, أو الذوبان فيه.

Email