غنائم وضحايا معركة (الاندماجات العملاقة) في أوروبا

ت + ت - الحجم الطبيعي

العام الماضي الذي لم يمض على انتهائه إلا القليل من الأيام كان مليئا بالقلق بالنسبة للعديد من رجال الأعمال الأوروبيين, الذين لا يزالون على قلقهم من التحول من العملة الوطنية الى العملة الأوروبية الموحدة, (اليورو) أو (الايورو) حسب لغة كل بلد, ورجال الأعمال في البلاد التي اعلنت عدم التزامها بالدخول في العملة الأوروبية الموحدة ليسوا اقل قلقا من رجل الأعمال الذي ستدخل بلاده (سلة) تلك العملة مع شروق اشعة الشمس الأولى لعام ,1999 لأن المواجهة مع كل ما تجلبه تلك العملة من مشاكل سيواجهها الجميع وعلى المستوى نفسه, الجميع مجبرون على التعامل مع تلك العملة. وإذا كان مشرق أشعة اليوم الأول لهذا العام الجديد 1998 بداية لقلق رجل الأعمال, فقد كان ايضا بداية لنهاية معارك خفية كانت تدور طوال العام الماضي بين ادارات الشركات الكبرى بحثا عن موقع مناسب في سوق تتضخم مع أول يوم للتعامل بالعملة الموحدة, لتصبح بحجم مجموع دول الاتحاد الأوروبي, تحقيقا لمنطق النظرية التي تكتسح العالم من شماله الى جنوبه حول (العولمة) في الاقتصاد, لأن العملة الموحدة الأوروبية ستكون بالدرجة الأولى عاملاً مساعداً للشركات الكبرى لكي تبتلع الشركات الصغرى, خاصة بعد ان تم تنفيذ الخطوات الأولى نحو فتح الأسواق أمام الشركات الأوروبية لدخول أسواق أي دولة أوروبية أخرى دون عوائق, مما يخلق منافسة قوية بين شركات من المفترض انها أجنبية. القلق يعتري ايضا الطبقة العاملة الأوروبية التي تعيش فترة من أسوأ فترات حياتها منذ الحرب العالمية الثانية, بعد ان وصل معدل البطالة في بعض الدول الأوروبية الى حوالي 24 في المائة من مجموع الأيدي العاملة, لأن أسوأ نتائج تلك المعركة بين (حيتان) الاقتصاد العالمي ستتحملها (الطبقة العاملة) , التي تعتبر ضحية كل الأنظمة الاقتصادية في العالم, وضحية كل التغييرات الاقتصادية في التاريخ, هذه الطبقة ستدفع ثمن معركة (الحيتان الأوروبية) دون ان تجني من غنائمها شيئا, لأن الشركة التي تفوز في المعركة مع شركة أخرى ستضع نصف عمالها في الشارع, فإذا كان العام 1998 عام الاندماجات الكبرى كما يسميه رجال الاقتصاد, فإن النقابات العمالية تطلق عليه اسم (عام الكوارث الكبرى) . (عام الاندماجات الكبرى) سينتج عنه تشكيل البنوك والمؤسسات والشركات الكبرى, أو على أسوأ تقدير تكوين (الكارتيلات) أي المؤسسات القابضة التي تدير عدداً من الوحدات الانتاجية التي تبدو مستقلة باسمها, لكنها في الحقيقة محكومة بإدارة واحدة, تخطط لها, وتوجهها وتفرض عليها الالتزام الكامل بما يحقق مصلحة رؤوس الأموال التي تقف خلف الإدارة العامة لها, في رأي رجال الاقتصاد ان هذه الاندماجات سينتج عنها (موجات) , بعضها يرتفع الى حد الاغراق, وبعضها لا يكاد يقترب من الشاطىء , لأن تشكيل شركات كبرى في مكان ما من أوروبا سينتج عنه ردود افعال لتشكيل أجسام أكبر من الشركات في مكان آخر, أو إنشاء شركات تفوق القائمة حجما. لذلك من المتوقع ان تنتقل (اسهم) بالمليارات من الدولارات دون ان تمر عبر قنوات اسواق الأوراق المالية, وإذا استعصى انتقال هذه الاسهم بشكل مباشر, سواء من خلال المباحثات السرية التي تضمن تحقيق الفوائد لجانب على الجانب الأخر, فإن الشركات الكبرى يمكنها ان (تمتص) تلك الأسهم من أسواق الأوراق المالية الأوروبية والعالمية لتحط في خزائنها والفائز سيكون دائما تلك الشركات التي تملك مقدرة أكبر على (الامتصاص) , وهذا التعبير الذي تداول مؤخرا في لغة رجال الاقتصاد له دلالات متعددة منها القدرة على امتلاك السيولة, ومنها ايضا القدرة على الاحتيال لمنع الآخر من الحصول على ثمن عادل لأسهمه بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة التي تمكن شركة ما من غزو شركة أخرى والسيطرة عليها, بما في ذلك التآمر بين أعضاء مجالس الإدارات, إذا لم يفلح الأمر مع أصحاب رؤوس الأموال المستثمرة في تلك الشركات, ونتيجة لهذه اللغة الجديدة بدأ البعض يخطط لتدمير الآخر في الأسواق من خلال ما يسمونه (الهندسة الاقتصادية) , تلك الهندسة الخطرة التي ترفع شعار (الغاية تبرر الوسيلة) , والتي يستخدمون فيها كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتحقيق الهدف. ويقدر خبراء الاقتصاد ان معركة (الحيتان) الأوروبية التي ستدور خلال العام الجديد يمكن ان تصل قيمتها الى أكثر من ثلاثة أضعاف ما يتم تبادله من أسهم خلال أسواق الأوراق المالية, ويدللون على ذلك بأن ما تم من (اندماجات) محدودة بين شركات أوروبية كبرى لم يتجاوز عددها 12 صفقة خلال العام 1996 تجاوزت قيمتها 142 مليار دولار, وهو رقم يتجاوز ضعفي حجم ما تم تبادله من اسهم في البورصات الأوروبية خلال الفترة نفسها, حيث كان حجم المتداول في البورصة لا يتجاوز 42 مليار دولار. لذلك فإن بعض الحكومات تحاول الالتفاف على التزاماتها الدولية التي تفرض عليها الحياد وعدم التدخل عندما تجد ان احدى شركاتها الرئيسية ستختفي من الوجود ليرفرف عليها علم شركة أجنبية, قبل ان تجد نفسها مضطرة الى الرضوخ وقبول الأمر الواقع بالموافقة على اتمام الصفقة, وهذا حدث العام الماضي في فرنسا التي وجدت نفسها مضطرة الى الموافقة على بيع احدى شركاتها المعروفة باسم (أيه. جي. اف) الى شركتين المانية وايطالية. في هذا الاطار تقوم حاليا بعض الحكومات الأوروبية بالالتفاف حول الالتزام بمبدأ حرية التجارة وانتقال رؤوس الأموال, فتضغط من خلال قنوات أخرى جانبية غير معلنة, لتوجه بعض شركاتها المعروفة للاندماج في شركات وطنية أخرى, قبل ان تأكلها (الحيتان) الأوروبية التي تستعد للقفز عليها خلال هذا العام, وآخر هذه التوجهات المعروفة ما قامت به الحكومة الاسبانية من خلف الستار من ضغوط على إدارة شركة (ايبرو اغريكولا) , التي كان يسيطر مكتب الاستثمار الكويتي على 68ر34 في المائة من مجموع اسهمها, لتندمج مع الشركة الوطنية (اثوكيريرا) لتكوين شركة واحدة تعتبر الشركة الأولى في انتاج وتعبئة وتوزيع السكر, لأن حجم تعامل الشركتين معاً يمثل حوالي 80 في المائة من حجم انتاج السكر في اسبانيا, وتسيطران معا على حوالي 54 في المائة من سوق السكر في الاتحاد الأوروبي. الاندماج بين الشركتين الاسبانيتين كان هدفا قديما للحكومة الاسبانية, لكن الاسهم التي يمتلكها الكويتيون من خلال شركة (توراس القابضة) كانت الحائط الذي يقف في مواجهة تحقيق هذا الهدف الوطني, واضطرت الحكومة الاسبانية من خلال وزارة الزراعة ان توافق على شروط عديدة لتضمن تخلي الكويتيين عن اسهمهم في الشركة, قبل ان تنقض عليها شركة السكر الفرنسية التي تمتلك بعض الاسهم في شركة (ايبرو) , وكانت على استعداد لشراء جزء آخر من الاسهم يضمن لها السيطرة على الشركة الاسبانية, وبالتالي السيطرة على أسواق السكر الأوروبية. هذه الموجة العاتية التي بدأت تهدد الشركات الأوروبية الضعيفة قبل ان تدخل العملة الأوروبية الموحدة الأسواق انتقلت ايضا الى المؤسسات الاستشارية, التي وجدت نفسها في مواجهة طلبات تفوق قدرتها على العمل, لأن حجمها الحالي كان متوافقا مع بحث أوضاع شركات متوسطة الحجم, أو حتى كبيرة الحجم, ولكن ليس لديها القدرة على بحث أوضاع شركات عملاقة مثل تلك الشركات الجديدة الناتجة عن الاندماج بين شركات كبيرة الحجم, لذلك بدأت ايضا معركة موازية بين المؤسسات الاستشارية, وبدأت نتائج هذه المعركة بالاعلان عن اندماج سيتم بين المؤسسات الاستشارية المعروفة (بيت مارويك) و(ارنست يونج) مع (مارويج) , لتنشأ مؤسسة استشارية عملاقة بقدر الشركات العملاقة. تبقى الطبقة العاملة الأوروبية التي تعتبر الخاسر الوحيد في تلك المعركة التي تخوضها رؤوس الأموال في عالم لا يعرف غير الأرقام, على تلك الطبقة ان تتحمل الخسارة وحدها في وقت تحقق فيه رؤوس الأموال اعلى الأرباح, تماماً كما تحملت من قبل التقشف في (السنوات العجاف) التي مر بها الاقتصاد الأوروبي في السنوات الخمس الأخيرة, ستواجه الطبقة العاملة في هذه الاندماجات الكبرى بشعار (اعادة توزيع العمالة) , وهو شعار لا يعني سوى المزيد من البطالة, لأن الشركات الناشئة عن الاندماج تهدف في المقام الأول الى زيادة (الربحية) , وهذه الزيادة لا تتحقق إلا بتوفير جزء من مصاريف الانتاج, هذا الجزء يتحمل العمال الجانب الأكبر منه. نتائج الاندماجات التي تمت في أوروبا خلال عام 1997 تؤكد التوجه نحو زيادة معدل البطالة, وابرز مثال على ذلك ان الاندماج بين بنكي (يو. بي. اس) و(اس. بي, سي) السويسريين نتج عنهما تخفيض حجم العمالة في البنك الجديد الناتج عن الاندماج بنسبة 25 في المائة, فقد تم الاستغناء عن 13 ألف موظف من مجموع 56 ألف موظف كانوا يعملون في البنكين قبل اندماجهما. ويحاول دعاة (العولمة الاقتصادية) في أوروبا الدفاع عن فكرة الاندماج لإنشاء مؤسسات اقتصادية كبرى برفع راية الاندماجات الأمريكية التي تهدد الشركات الأوروبية, ويعتبرون زيادة معدل البطالة الثمن الذي يجب ان يدفعه المواطنون لمواكبة التقدم في عالم الاقتصاد. لكن النقابات العمالية بدأت تحذر الحكومات الأوروبية بعام مليء بالاضطرابات إذا كان على العمال ان يدفعوا ثمن هذا التقدم نحو تكوين الشركات الكبري, وقام العمال في المانيا واسبانيا بتحذير حكوماتهم, والعمال الفرنسيون بدأوا تنفيذ تحذيراتهم باضطرابات عمت الأسبوع الأول من هذا العام الجديد, واجبرت الحكومة على اتخاذ خطوات مسكنة للمشكلة, لكن السؤال: هل عام 1998 هو بالفعل عام الاندماجات الكبرى, ام أنه عام الاضطرابات العمالية الكبرى؟. بقلم: د. طلعت شاهين كاتب مصري مقيم في اسبانيا *

Email