شبكة الإنترنت والدعوة الإسلامية

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا كان إبراهيم عليه السلام يعلمنا الروغ في ضرب الأصنام (فراغ الى آلهتهم...) وقد كانت تلك الاصنام في عصره أصناما ظاهرة ... فإننا اليوم مطالبون بالروغ في تبليغ الدعوة الإسلامية وضرب أصنام العقائد والثقافات المعادية: في أصنام الفكر, والفن, السياسة, والاجتماع, والأخلاق, والتشريع... ولنا ان نقتدي في تقنية الدعوة بإبراهيم عليه السلام (لقد كان لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه). ولقد راغ إبراهيم - كما يخبرنا القرآن الكريم - عندما أراد تخليص قومه من عبادة الأصنام, ودعوتهم الى التوحيد... وراغ فعل مأخوذ من الروغان, وهو الميل الى شيء على سبيل الاحتيال, لهدف يقصد اليه. يجب ان ندخل بالدعوة الإسلامية حصون القوم, بالروغ كما فعل إبراهيم عليه السلام. كيف؟ من خلال عالم الاتصالات بواسطة الكمبيوتر والانترنت, الذي أصبح يسبب صداعا حقيقيا للمجتمعات الغربية بالرغم من منافعه العديدة. إنه يمكن عن طريق شبكة الانترنت ان نوصل رسالتنا الى العالم, عن طريق جهاز كمبيوتر بسيط يمكن لأي واحد منا أن يقتنيه, أو عن طريق مركز كمبيوتر عملاق, تتبناه جهة من الجهات العليا للدعوة الإسلامية. ولقد بدأ كثير من الاتجاهات وأصحاب الآراء والأديان في إرسال رسائلهم عن طريق هذه الشبكة: وعلى سبيل المثال: نجد المنكرين لوقوع حوادث غرف الغاز التي تعرض لها اليهود في المانيا النازية... يرسلون رسائلهم في إثبات كذب هذه المزاعم عن طريق هذه الشبكة... أنصار المحافظة على البيئة يرسلون!... النازيون الجدد في ألمانيا يرسلون!... أعداء الإباحية الجنسية يرسلون! وأكثر من خمسين جماعة في أمريكا تستخدم هذه الوسيلة في نشر دعوتها! وهو أسلوب ينمو بشكل متصل في أوروبا, حيث يوجد حاليا أكثر من ثمانية ملايين مشترك في أوروبا وحدها (لاحظ ان هذا الرقم يرجع الى عام 1995). والمبشرون المسيحيون يرسلون؛ فقد اجتمع أخيرا - في شهر ابريل الماضي - أكثر من مائلة مسؤول من أكثر من منظمة تنصيرية في ليزل بولاية الينوي الأمريكية لمناقشة استخدام الانترنت في الدعوة الى النصرانية. يقول أحد الخبراء في المناقشات الثقافية بواسطة الكمبيوتر والإنترنت واسمه جيمس أرين: (انه كلما شعرت مجموعة ما بأنها تتعرض للقمع كلما زاد حماسها لاستخدام الكمبيوتر في اتصالاتها, وزاد شعورها بأن عالم الكمبيوتر هو المكان الأمثل لشرح أفكارها). وإذا كان بعض الدعاة - في المجال الإسلامي ــ قد شعروا بمسؤوليتهم الفردية في الدعوة الاسلامية وبادروا ــ مشكورين ــ الى ارسال رسائل لهم عن طريق هذه الشبكة..., كما فعلت جامعة قطر حيث أقامت موقعا لفضيلة الأستاذ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي, وكما فعلت الندوة العالمية للشباب الإسلامي من خلال مكتبها في الولايات المتحدة الأمريكية... إذا كان ذلك كذلك فإن المجال أخذ يلقي مسؤولية حساسة كبرى على عاتق المؤسسات الإسلامية العالمية التي تعمل في مجال الدعوة, لتلقي بدلوها, وتقوم بمسؤولياتها المعاصرة, لا في التبليغ فسحب, ولكن في تنظيم هذا التبليغ, وتوجهيه وضبط خطاه, وحمايته من أن يتحول الى صراع داخل قنوات الدعوة الإسلامية نفسها. إنه يمكن لهذه المؤسسات ان تقوم بفتح إسلامي جديد في عالم متعطش للدين, وللحقيقة, ولمراجعة ثقافته, ولمعرفة الاسلام بالذات, عن طريق هذا الروغ الإبراهيمي, ولكن بأحدث الوسائل الالكترونية, المهداة إليهم ــ بكيد الله ــ من انجازات الحضارة العلمية المعاصرة التي يعلن بعض أطرافها صراعا حضاريا مع الإسلام. فبالإضافة الى تلبية حاجات المدعوين من الإجابة على أسئلتهم العابرة عن طريق هذا الروغ, قياما بواجب الدعوة في الجانب العلاجي, فإنه ينبغي ان تقوم الدعوة بواجبها في الجانب البنائي. ان الداعية الذي يعد لهذه المهمة أشبه بالمهندس منه بالطبيب المعالج, ولا يمكن ان نتصور ان يعد المهندس على أعلى المستويات العلمية والتدريبية ثم يساق بعد ذلك الى عمله دون ان يجد مشروعا تفصيليا يعمل في تنفيذه انه ينبغي ان نرسل حقائق الإسلام. نرسل رسالة الإسلام. نرسل ما أسلم المسلمون وجوههم له عن يقين. ولا نرسل خلافاتنا, وعاداتنا, وبدعنا, وفولكلورنا. وتلك مهمة صعبة تؤكد مسؤولية وجود هذه المؤسسات. وفي التعامل مع الإنترنت في مجال الدعوة يجب ان نقر بما تفرضه تقنية الدعوة من صيغة مختلفة. والصيغة التي أعنيها ـ علاوة على تجنب الخلافات, أو بالأحرى من أجل هذا التجنب ــ هي في وضع ما يمكن ان نسميه (مشروعات الدعوة) القائمة على التخطيط العلمي المركزي. ان الأمر الذي لاشك فيه هو ان الداعية في العصر الحديث يلاقي أوضاعا حضارية مستحدثة في تاريخ الدعوة تحتم عليه ان يعمل في نطاق تخطيط مدروس, تضعه هيئة مركزية, ويسفر عن مشروعات محددة. هكذا يعمل الدعاة المعاصرون الذين يعملون لحساب جهات غير إسلامية, وهذا هو ما تفرضه طبيعة العصر. وفي تصوري ان تكون هناك مشروعات متنوعة ــ على مستوى الفرد ــ: لبناء الطالب, والعامل, الموظف, والفلاح, والجندي, والابن, والأب, والأم, وربما توضع مشروعات لتقسيمات داخلية أكثر تحديداً. وعلى مستوى المجتمعات يمكن ان تكون هناك مشروعات: لبناء المجتمع الواقع تحت ظروف متقدمة اقتصاديا, وآخر لبناء مجتمع الأقليات الإسلامية, وآخر لبناء مجتمع الأقليات العنصرية, وربما يوضع تقسيم أكثر تحديداً: فمثلا مشروع لجماعة النادي, وجماعة المواصلات, وجماعة الشارع. وفي تصوري ان يوضع لكل تخصص من تخصصات الدعاة ــ الذين يعملون فرديا أو من خلال المؤسسات أو المؤسسة المركزية ــ خطة عمل تتلاءم مع الإقليم الذي يحسن ان يتخصصوا له: تبين فيها: أولا (مداخل) الدعوة في هذا الإقليم, ثانيا: وسائلها المحلية والعالمية, غاياتها المرحلية. ولتوضيح ذلك أقول: أما من ناحية المداخل: فبالإضافة الى المدخل الرئسي للدعوة الإسلامية بصفة عامة وهو (اسلام النفس لله) تختلف المداخل الفرعية باختلاف البيئات والأقاليم, وهنا يصح ان ترتكز الدعوة على قيمة معينة من قيم الدين الإسلامي, تكون مدخلا الى القيم الأخرى. وعلى سبيل المثال: قد يكون المدخل في البلاد المتقدمة سياسيا هو (مفهوم الحرية) في الإسلام, وكونه أصلح المفاهيم, وأقواها على حل مشكلة الحرية؛ حيث تكون العبودية لله وحدة وقاء للإنسان من الوقوع في العبودية لأي مخلوق أو منحوت, وضمانا ــ في نفس الوقت ــ لتحقيق أوسع دائرة يمكن تصورها في مجال الحرية. وقد يكون المدخل في البلاد المتخلفة (مفهوم التقدم) في الاسلام وارتكازه على العلم والعمل والعدل, وقد يكون المدخل في البلاد التي بدأت تظهر فيها أمراض الرفاهية المادية... (مفهوم الآخرة) في الإسلام وارتباطه بالعمل الدنيوي المرتكز على الأخلاق, وقد يكون المدخل بالنسبة لمجتمعات التفرقة العنصرية, أو الطائفية, أو الطبقية, (مفهوم الحقوق الإنسانية) في الإسلام... وهكذا. وبالنسبة للأفراد يجب ان يكون الداعية أو موقع الدعوة على الانترنت على علم بما يصلح مدخلا لفرد, وما يصلح مدخلا لفرد آخر, وقد تكون البداية بالنسبة لفرد هي النظرة الصوفية, وقد تكون هي النظرة العلمية, وقد تكون بالنسبة لفرد ثالث هي المزدلف الوجداني, وقد تكون بالنسبة لرابع قيمة أخلاقية معينة, وهكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تصديه لهداية الأفراد كما نعلم جميعاً. وعلى هذا النحو أيضا تبين في الخطة الوسائل المتاحةــ فبالإضافة الى الوسيلة العالمية في شبكة الانترنت ــ يجب ان تبين في الخطة الوسائل المحلية المتوفرة, والتي ينبغي ان يعد الداعي للتعامل معها, ويوجه توجيها علميا لاستغلالها, وهذه الوسائل قد تكون الخطابة المنبرية في مكان, والكتابة في عمود صحفي في مكان آخر, والأغنية المشروعة, والتعامل مع وسائل الأعلام السينمائية أو التلفزيونية, أو المسرحية في مكان ثالث, أو تجمعات الموظفين, أو الطلاب, أو العمال, أو المرضى, أو الرياضة, في أماكن أخرى, وقد يكون الجمع بين عدد من هذه الوسائل مطلوبا في بعض الحالات. وعلى هذا النحو تبين في الخطة الغايات المرحلية التي تدعو الىها الحاجة في إقليم أو بلد بذاته, فقد تكون هذه الغاية هي ــ بجانب الغايات البنائية التي قدمنا الكلام عنهاــ مقاومة التحلل الأخلاقي في إقليم, أو الاغراق في المتعة, أو تهديد البيئة, أو التأخر الاقتصادي, أو العنف, أو التبشير, أو الإلحاد, أو الأمية الدينية, أو مجموعة من ذلك, في كل إقليم بحسب ما يغلب عليه. وقد نختلف في بعض هذه الأمثلة التي ضربناها, ولكن الأمر الذي أرجو ألا نختلف عليه هو ان وضع خطة تفصيلية على هذا النحو أو غيره هو حجر الزاوية في عمل الداعية في العصر الراهن, وهو مقياس فشله أو نجاحه, وهو ضمان صيانته من التشتت, أو التضارب, أو الخيبة, وهذه كلها أدواء خطيرة يعاني منها الدعاة والمدعوون منذ وقت طويل, ولكنهم سوف يعانون منها في صورة كارثية بعد ان يدخل الى سوق الوسائل ــ وهي داخلة فعلا ــ شبكة الانترنت العصرية التي يمكن اذا قمنا بهذا التخطيط ان تكون جنة الدعوة الإسلامية, بدلا من ان تكون سعيرها المدمر. وفي تصوري ان هذا النوع من التخطيط لم يعد ضروريا للمدعوين كجماعة, وللداعية كفرد, , انجاحا للدعوة وحماية لها من فشل كارثي في عصر الانترنت فحسب, ولكنه أصبح ــ علاوة على ذلك ــ نقطة البداية في التخطيط لإنشاء أجهزة الدعوة بما فيها كليات الدعوة المنتشرة في العالم الإسلامي. وإنني أدرك ان القيام بهذا التخطيط لايمكن ان يتم على مستوى محلي أو إقليمي أو مذهبي, وإنما ينبغي ان يستنفر له مؤتمر إسلامي عالمي على أوسع نطاق, وعلينا كمسلمين ان نبادر الى ذلك, فالوقت لايزال مناسبا, وهو لن يكون كذلك بعد قليل. وبالله التوفيق. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى سيدنا إبراهيم, الأسوة, والمعلم, والله أعلم. بقلم: د. يحيى هاشم حسن فرغل استاذ العقيدة - جامعة الامارات *

Email