الغرب والفكاهة البيضاء غاز وقنابل نيوترون وأسلحة ذكية:بقلم: محمد عبيد غباش

ت + ت - الحجم الطبيعي

يفضح استخدام المصطلحات في القرن التاسع عشر الكيفية التي يفرض فيها المسيطر رؤيته الخاصة ويجعلها ايضا رؤية المسيطر عليهم: فعمليات الابادة الجماعية ونهب الموارد ماهي الا (عبء على كاهل الرجل الابيض) يقوم به كضرورة ليحضر (الشعوب البربرية) اي شعوبنا نحن, واحتلال بلداننا ليس إلا (ضرورة أمنية) . اختفت هذه العبارات اليوم, الا في اوساط تلك المجموعات التي تجاهر بعنصريتها وكرهها لباقي الأعراق والثقافات كالمجموعات البيضاء في جنوب افريقيا واشباههما في زيمبابوي (روديسيا السابقة) واستراليا ونيوزيلنده ومناصري الحركات الفاشية والجماعات اليمينية المتطرفة في اوروبا وامريكا الشمالية واليابان واسرائيل. مع ذلك فقرننا جاء ايضا بعبارات عنصرية جديدة لكن بشكل موارب, فبدلاً من وصم شعوبنا بالهمجية اصبح يطلق عليها (متخلفة) فيما مجتمعاتهم (متقدمة) . وهاتان اللفظتان تستعملان في معرض الدلالة على وجود تسابق حضاري نحن فيه المتخلفون وهم المتقدمون.وكلفظة (استعمار) دخلت هاتان اللفظتان لغتنا ولاشعورنا بشكل احتكاري حتى امسينا عاجزين عن الحديث عن مجتمعاتهم ومجتمعاتنا الا بنسب التقدم لهم ووصم انفسنا بالتخلف. الاخطر من هذا اننا نحن, مثقفي العالم الثالث, صار هاجسنا العظيم هو معالجة (التخلف) المزعوم لمجتمعاتنا, هذا الهاجس المتولد من تأليهنا للغرب وتحسرنا على اننا لسنا هو! وتمثل هذه الحال ما يطلقون عليه في الغرب (فكاهة سوداء) , او ما نطلق عليه في اللغة العربية (المضحك المبكي) اي وصفية مأساوية مؤلمة لكنها تحتوي شيئا من الطرافة. ولاشك ان هناك شيئا ملهاوياً حين يقوم شخص اسود بترديد العبارات العنصرية دون وعي, او حين تبرر النساء نظام الهيمنة الذكورى عليهن, او حين يتحول مثقف العالم الثالث الى بوق لترويج الدعاوى الغربية المعادية لشعوبه. بل ان تبني عبارة مثل (الفكاهة السوداء) هو نوع من التلقي الساذج للنتاجات اللغوية الغربية وماتحتويه من نظام معنى مصاحب لها. فكلمة السوداء في هذا السياق تشتمل نوعا من العنصرية اللغوية اذ ان الفكاهة المقصودة لا تمت بأدنى صلة للفرح البريء بل هي شيء شاذ, كئيب, ومر. ولعل من العدل ان ننسب لونها الى مبتدعيها البيض بدلاً من ضحاياهم في افريقيا. مهم لنا لنلعب لعبة المصطلحات بدقة وامان, لندرك من هو المتخلف ومن هم المتقدم فعلاً, ان نفحص آلة القياس, هذه المسطرة المفروضة علينا منذ ان بدأت الحداثة الغربية والتي تقيس التخلف والتقدم وتزن التحضر والهمجية, مهم ان نختبر هذا المعيار الذي يوزع فيه نظام المعنى الغربي النعوت والصفات الحميدة والقبيحة على من يسير على منهجه وعلى من يجانبه. هذه المسطرة لا تنفصل عن من يقوم بالقياس بها حاليا, الغرب نفسه, ولهذا فمهم لنا ان نعقل كفة هذا الغرب, مكوناته الثقافية, مزاج شعوبه ونخبه الحاكمه, عن الكيفية التي يعيد بها انتاج أجياله المتعاقبة, عن الطريقة التي يتناول فيها طعامه, عن أسلوب أفراده في الوقوع في الحب, وفي تزجية الفراغ, عن ألبسته وموسيقاه وعطوره.. مهم لنا ان نعي هذا لنستطيع بعدئذ ان نرتد على اعقابنا ونبدأ في فهم انفسنا بمسطرة اكثر دقة وحيدة في القياس. نحن نعرف الشيء الكثير عن الغرب, خصوصاً تلك المنجزات التي جعلتنا في حالة مزمنة من الذهول والانبهار لاكثر من مائتي عام. لكن يجب ان نولي ايضا الاعتبار لتلك الجوانب (البيضاء) التي لا تستقيم صورة الغرب الا بالاحاطة بها, وسنجد في نهاية المطاف ان تجربة التغريب ماهي الا واحدة من التجارب البشرية العديدة التي تتطلب التأمل لكن سوف نرى انها تجربة لا تمتلك الى الآن تلك المقومات الجوهرية التي تبيح لحضارة ان تزعم, انها نموذج عظيم يتعين تقليده. احتوت كل الحضارات الغابرة على الوان من التغني البطولي بالحروب. نحن نستحضر ملحميات اليوناني هوميروس (الالياذة والاوديسة) ونستحضر في ثقافتنا العربية اشعار امرئ القيس والحمداني والمتنبي التي تصف القتال وتفخر بالامجاد والانتصارات هذا التراث نلقاه في كل الحضارات والثقافات من ابطال الساموراي اليابانيين وحتى فرسان اوروبا بعض الحضارات اولت القتال اهمية عظمى في بنائها الاجتماعي اسبرطه اليونانية تخصصت كحضارة مقاتلة,والحضارة الرومانية تكاد لا تميز فيها الا فنونها الحربية حتى المسلمون جعلوا من الجهاد ركناً اساسياً لحضارتهم. ويحفل التاريخ في بعض حالاته النادرة بالوان من العنف الذي يتجاوز كونه وسيلة لتحقيق هدف عقائدي او سياسي او اقتصادي ليتحول الى عنف مدمر لا هدف له الا التدمير حباً بالتدمير, نستحضر مثال ذلك الغزو المغولي للعالم الاسلامي. لكن لم تكتب لهذه الثقافات المدمرة حباً بالتدمير الاستمرار على ماهي عليه لفترة طويلة, فنجد المغول ينقلبون الى بناة حضارة بعد اسلامهم, ورأينا اوروبا تروض نزعة غزاة الشمال التدميرية الذين اخترعت لفظة برابرة لاجلهم قبل ان يعاد تصديرها لنا. ثمة شيء جديد في عنف الغرب. بنت الحداثة الغربية وجودها على عنف غير مسبوق في التاريخ الانساني لا في عدد ضحاياه ولافي اشكال ممارسته ولافي تحويله من ايديولوجيا تروجها نخبة حاكمة الى ديانة يعتنقها الملايين . فتح فاسكو دي جاما بعبوره رأس الرجاء الصالح الطريق الى آسيا واستراليا والجانب الشرقي من افريقيا. والتاريخ يوثق بدقة عالية تفاصيل ماحدث حين وصل الرجل الابيض الى هذه القارات. لكن ما حدث في النصف الآخر من الكرة الارضية هو شيء مختلف كثيراً: عانت آسيا وافريقيا من الاحتلال والسلب والكثير من القتل, لكن الامريكيتين عانتا الابادة الشاملة. لا نملك توثيقا مفصلاً لما حدث, وتتضارب احصاءات الابادة الواسعة النطاق للهنود من مائة مليون الى عدة مئات من الملايين لكن النتائج كانت واضحة: اعراق بكاملها اختفت من الوجود (كشعوب الازتك والانكا) وانحسرت شعوب أخرى حتى اوشكت على الانقراض. ولم يقتصر العنف الغربي على قارات العالم الاخرى بل طال قارته نفسها. انطلق هذا العنف من تلك الحروب العجيبة في طولها في القرون الوسطى (حرب الثلاثين سنه, حرب المائة سنة) وانتهى في القرن العشرين بتلك الحروب العالمية الثلاث: الاولى (39 مليون قتيل) , الثانية (51 مليون قتيل) والثالثة التي ابتدع لها الغرب بحس فكاهته البيضاء اسم (الحرب الباردة) لانها لم تدر على اراضيه فلم يستشعر لهيبها بل دارت على ساحات العالم الثالث. لينجح الغرب في اقامة هذا الهيكل المروع من الجثث فانه قام بتطوير ادوات بالغة التنوع والتخصص والدقة, انطلاقا من انواع البارود المدفعية والبنادق في بداية الانطلاقة الحداثية في نهاية القرون الوسطى وانتهاء بالاسلحة الكيماوية والجرثومية والنووية والذكية في قرننا هذا. وبحس الفكاهة (البيضاء) ذاته خلد اسم احد مطوري هذه الاسلحة بجوائز سنوية يرصد اهمها للسلام! في قرننا هذا تعاظمت الاختراعات البيضاء (الطريفة) في حقل العنف. فمهندسو النازية طوروا افران الغاز لابادة الاسرى. توفيرا لرصاص البنادق من جهة ولجهود حفر المقابر من جهة اخرى. اما الامريكيون فقد ابدعوا القنبلة النيوترونيه التي تنسجم مع ايديولوجيتهم الرأسمالية: فبسبب هذه القنبلة خير لك ان تكون جماداً من ان تكون كائناً حياً ــ فهذه القنبلة تهدف لحيازة الممتلكات, دون الخوف من التلوث الاشعاعي, بعد إبادة الاحياء. ... وللحديث صلة.

Email