سياسة فرنسا العربية: الثبات على قاعدة التحول:بقلم: د. محمد مخلوف

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل لفرنسا سياسة عربية ثابتة ومستمرة؟ ومنذ متى؟.. ثم ما هي اسس الثبات فيها؟.. ودوافع التغيير؟ في الثامن من شهر ابريل 1996 اعلن الرئيس الفرنسي جاك شيراك اثناء خطاب له في جامعة القاهرة الخطوط العريضة للسياسة العربية الجديدة لفرنسا . واعتبر هذا التوجه (الجديد) بمثابة احد المرتكزات الاساسية للسياسة الخارجية الفرنسية. هذا التوجه الدبلوماسي الذي تبناه الرئيس شيراك هو جديد فعلا بالقياس الى سياسة فرنسا الخارجية في عهد الرئيس الفرنسي الاشتراكي السابق فرانسوا ميتران حيث لم يتردد وزير خارجيته وصديقه رولان دوما في شجبه صراحة وعلانية لما اسماه, اسطورة السياسة العربية لفرنسا. لكن توجه الرئيس شيراك لم يأت من فراغ, و(قطيعته) مع الماضي القريب لا تلغي واقع وجود جذور تاريخية قديمة وتوجهات استراتيجية ارسى ركائزها الاولى الجنرال شارل ديجول. ان فرنسا لم تكن في اية فترة من فترات تاريخها الحديث حيادية حيال العالم العربي. فحقائق التاريخ وواقع الجغرافيا دفعا فرنسا الى الحرص على تواجدها في هذه المنطقة من العالم. وتم بغية تحقيق هذا التواجد استخدام قنوات متنوعة تبدت تاريخيا في دعم محمد علي في مصر ثم الاعلان عن حماية المسيحيين في لبنان اثر اندلاع الحرب الاهلية عام 1860. وساهمت فرنسا ايضا في اعمال تخطيط وتنفيذ شق قناة السويس التي كان مهندسها الاساسي هو الفرنسي فردناند ديليسبس. كذلك تواجدت فرنسا من خلال فتح فروع لعدد من المصارف الفرنسية خاصة في مصر. وايضا في ظل الامبراطورية العثمانية حيث اشرفت تلك المصارف على تسيير المعاملات الخاصة بالديون المصرية وكذلك بديون الامبراطورية العثمانية قبل سقوطها النهائي كاحدى النتائج الاساسية للحرب العالمية الاولى. الامر الثابت هو ان سياسة فرنسا حيال العالم العربي خضعت لعدة تبدلات جوهرية, ففي ظل المشروع الامبريالي الذي كانت حملة نابليون على مصر فاتحته, كانت المنافسة بين فرنسا وانجلترا للسيطرة على العالم العربي هي المحرك الاساسي للسياسة العربية لفرنسا ولبريطانيا العظمى ايضا, لكن هذه المنافسة خفت بعد الاتفاق على اقتسام مناطق النفوذ في المنطقة وحلت محلها المنافسة الامريكية السوفييتية (سابقا) بعد الفشل السياسي الذريع للعدوان الثلاثي الانجليزي, الفرنسي, الاسرائيلي على السويس عام 1956. وتمحورت المنافسة الجديدة حول الصراع العربي الاسرائيلي. وفي ظل القطبية الثنائية الدولية وسيادة الحرب الباردة في علاقات المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي (السابق) ارادت فرنسا انتهاج سياسة (مستقلة الى حد كبير) ضمن اطار (المفهوم الديجولي) للسياسة الخارجية الفرنسية, الذي اعتبر بأن وجود فرنسا سياسيا في العالم العربي يشكل شرطا اساسيا في قدرتها على ان تلعب دورا هاما على المسرح الدولي. كان التوجه الديجولي يقوم على قاعدة معطيات جوهرية استجدت على فرنسا اثر استقلال الجزائر عام 1962 ثم انسحاب فرنسا من الحلف الاطلسي على يد الجنرال ديجول عام 1965 وبناء القوة النووية الفرنسية الجديدة, هذه المعطيات الجديدة خلقت نزوعا عميقا نحو استقلال القرار الفرنسي ونحو ضرورة ايجاد مجال استراتيجي باتجاه حوض المتوسط والعالم العربي. وهكذا اصبح البحث عن هذا المجال الاستراتيجي هو البديل للنزوع الاستعماري السابق الامر الذي مثل قطيعة مع المشروع الامبريالي الاستعماري السابق. لكن سقوط الكتل والمعسكرات مع انهيار جدار برلين عام 1989 قلص من هامش استقلالية القرار الفرنسي في مجال السياسة الخارجية ومساعي الرئيس جاك شيراك منذ وصوله الى سدة الرئاسة عام 1995 لاستعادة دور فرنسا في العالم العربي, وهذا يمثل تماشيا مع المفهوم الديجولي وبنفس الوقت مع المصالح الاستراتيجية الكبرى لفرنسا في ظل ما هو معروف بـ (النظام الدولي الجديد) . ولا شك بأن المصالح الاقتصادية والتجارية لعبت في نفس الاتجاه كما يدل تأكيد الرئيس الفرنسي على اهمية (الدبلوماسية الاقتصادية) الامر الذي يجد ترجمته في عقد اجتماع سنوي لسفراء فرنسا في الخارج ومطالبتهم بتسهيل مهمة رجال الاعمال الفرنسيين في اسواق البلدان التي يمثلون فرنسا فيها. تجدر الاشارة في هذا السياق الى ان الرئيس الفرنسي يستفيد في توجهه نحو العالم العربي من حداثات قديمة مع بعض قادة البلدان العربية منذ ان كان رئيسا للحكومة الفرنسية للمرة الاولى ما بين 1974 و1976 وحيث ابرمت فرنسا آنذك عقودا كبيرة مع العراق. وقد اطلق الاسرائيليون آنذاك على المفاعل النووي الذي كانت فرنسا قد زودت به العراق ثم دمرته اسرائيل فيما بعد بغارة جوية تسمية (أوشيراك) بدلا من (اوزيراك) . بالمقابل من الواضح ان التعميم الفرنسي على التواجد في العالم العربي ترافق مع التأكيد على التمايز عن مواقف الولايات المتحدة الامريكية, وخاصة فيما يتعلق بعملية السلام في الشرق الاوسط. وقد اطلق مستشارو الرئيس شيراك على مسألة التمايز هذه تسمية التعاون مع واشنطن من بعيد. وهذا التمايز حيال قضية الصراع العرب الاسرائيلي يعود في الواقع الى الموقف من حرب الايام الستة عام 1967. اذ في الوقت الذي ايدت فيه واشنطن بشكل مستمر ودون هوادة اسرائيل وجه الجنرال ديجول نقدا عنيفا لها ووصف شعبها بأنه (شعب تحبوي ويبحث عن السيطرة) واذا كان الرئيس الفرنسي جاك شيراك يبحث اليوم عن تأكيد موقف فرنسي متميز فان الولايات المتحدة عززت من توجهه الداعم لاسرائيلي منذ اتفاقيات كامب دافيد عام 1979 ثم حرب الخليج عام 1991 ومؤتمر مدريد عام 1992 واتفاقيات واشنطن عام 1993. وفي محاولة لتلخيص آثار التوجه العربي الذي تبناه الرئيس جاك شيراك فانه يمكن القول بأن هذا التوجه قد لاقى الترحيب لدى العرب والحذر من قبل اسرائيل وبعض الغضب الامريكي. وضمن السياق الدولي الراهن هناك عدة معطيات تؤثر على السياسة العربية لفرنسا. فبناء اوروبا الموحدة وتبني سياسة متناسقة حول دول الجوار ووجود حوالي اربعة ملايين مسلم في فرنسا, أغلبيتهم من العرب, لابد وان يؤثر على التوجهات الفرنسية حيال العالم العربي الاسلامي. وفرنسا مطالبة اليوم بايجاد توازن صعب بين نهجها الاوروبي ذي الوزن الكبير في سياستها الخارجية وفي سياستها الدفاعية عبر العلاقة الاوروبية الاطلسية وبين توجهاتها نحو العالم العربي. ان قراءة للموقف الفرنسي من وجهة النظر العربية قد تسمح بالاستفادة كثيرا من الهوامش المتاحة. يبقى الوصول الى اقامة علاقات ثقة بمثابة الخطوة الحقيقية الاولى على طريق طويل. وهناك مثل صيني قديم يقول: الحظ هو ان تستفيد من الريح عندما تكون في اتجاه مساعيك.

Email