الشيخ... والحاخام:بقلم- صلاح عيسى

ت + ت - الحجم الطبيعي

تمنيت لو ان فضيلة الدكتور (محمد سيد طنطاوي) شيخ الجامع الازهر, لم يلتق بالحاخام الاسرائيلي (مائير لاو) ... اما وقد تم اللقاء بالفعل فقد تمنيت لو ان الزوبعة التي اثارها, لم تتحول الى صراخ عصبي يخلط ماهو سياسي بما هو ديني, وماهو شخصي بما هو موضوعي, وما هو عاطفي بما هو عقلي, فلا يبقى منها ــ في النهاية ــ سوى تلك العبارات القاسية التي تبادلها الطرفان, والتي لا تبدأ بوصف الامام الاكبر بأنه (قد هبط بالازهر الشريف, من قمته الحضارية بهذه الفعلة الشنعاء) , ولا تنتهي بوصف فضيلته لمن نددوا باللقاء, بأنهم (جبناء واذلاء وعاجزون) ... وهي الخاتمة التقليدية لكل خلاف يدور بين العرب, حول تطبيع العلاقات مع اسرائيل... وليس هناك جديد في ان يثير اللقاء بين الشيخ والحاخام, الغضب فهذا هو رد الفعل المتوقع على كل خطوة يشتبه في ان لها صلة ما, بتطبيع العلاقات مع اسرائيل في عهد (نتانياهو) السعيد الذي لم يقصر في اقناع حتى اكثر العرب اعتدالا بأنهم كانوا على خطأ في اعتدالهم, وفي اشعار الكامب ديفيديين منهم, بالاثم, لانهم صدقوا ان هناك اسرائيليا يسعى للسلام او يوافق على رد ما استولي عليه بالقوة بغير القوة... فإذا جاءت هذه الخطوة ــ في هذا التوقيت بالذات ــ من مؤسسة ذات نفوذ معنوي هائل في نفوس ملايين المسلمين من العرب وغير العرب مثل الازهر الشريف لم يسبق لاحد من شيوخه ــ طوال الاعوام الخمسين التي انقضت على تأسيس اسرائيل والاعوام العشرين التي مضت على بداية مسيرة السلام ــ ان التقى بأحد الاسرائيليين او ادلى بتصريح يؤيد تطبيع العلاقات معهم, فقد كان طبيعيا ان تثير كل الذي اثارته, خاصة وانها تمت بعد اسابيع قليلة من استقبال فضيلة الامام الاكبر للسفير الاسرائيلي بالقاهرة, التي اثارت الاعتراض نفسه, فيما اعتبره المنتقدون تحديا لهم واكد شكوك بعضهم في ان الازهر ــ في عهد مشيخة (الدكتور طنطاوي) ــ سوف يعدل عن سياسة المشايخ السابقين, فيما يتعلق بتطبيع العلاقات مع اسرائيل... وبسبب هذه الملابسات جميعها, فقد تلقى كثيرون الخبر بغضب لم يستطيعوا التحكم فيه, وهي ظاهرة شائعة لدى القسم الاكبر من معسكر الرافضين للتطبيع, تضر بقضيتهم اكثر مما تفيدها, اذ هي تظهرهم في مظهر الذين لا منطق سياسي لديهم, مع ان منطقهم هو الاقوى, وتضعف من قدرتهم على اكتساب الانصار, وعلى توسيع نطاق الجبهة المقاومة للتطبيع في الداخل وتقلل من درجة التعاطف مع موقفهم لدى اقسام كبيرة من الرأي العام العالمي وتعطي نتانياهو الذريعة لكي يزعم أن العرب لا يريدون سلاما ولا يقبلون بأقل من القاء الاسرائيليين في البحر مع انه هو الذي لا يريد السلام ولا يقبل بأقل من القاء الفلسطينيين في البحر. وهكذا ما كاد اللقاء بين الشيخ والحاخام ينتهي, حتى اندفع الرافضون للتطبيع الى ساحة الوغى يتكلمون في وقت واحد, ويذيعون مبررات متناقضة لرفضهم تتصادم فيما بينها, وينفي بعضها البعض... فقد اختلفوا في توصيف طبيعة الخطأ الذي استنفر غضبهم, فقال البعض ان الشيخ قد اخطأ حين اشتغل بالسياسة وهو رجل دين, ينبغي الا يخلط الدين بالسياسة, مع انهم يتهمون كل من يدعو للفصل بين الدين والسياسة بأنهم علمانيون مارقون. وقال آخرون انه وقع في خطأ ديني لانه اتصل بحاخام اليهود, وهم اعدى اعداء المسلمين الى يوم الدين ممن لا يجوز لاي مسلم ان يلتقي بهم او يسالمهم, وهو كلام غير دقيق, لا يضع في اعتباره الفارق في القياس بين مواقف اليهود في عصر النبوة ومواقفهم الآن, ولا يستفيد منه سوى (نتانياهو) الذي يستطيع ان يستند اليه ليؤكد ان العرب ــ وأغلبيتهم مسلمون ـ لا يريدون السلام مع اسرائيل لان دينهم يحظر عليهم مجرد الكلام مع اليهود... ثم ان هذا الكلام قد اضطر الشيخ طنطاوي ــ والمدافعين عن موقفه ــ للتذكير أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقابل اليهود بل والمشركين ويتفاوض معهم ويوقع معهم عهود الامان واتفاقيات الصلح, وهو كلام غير دقيق لانه ـ هو الآخر ـ لا يضع في اعتباره الفارق في القياس بين ظروف عصر النبوة, والظروف الآن, لكن أحدا من الغاضبين لم يتنبه لخطورته ليس فقط بسبب انشغالهم بما يجري في حومة الوغى, بل ـ كذلك ـ بسبب رفضهم الاعتراف بخطأ منطقهم الذي استدعاه فتركوه معلقا في الهواء, لتستفيد منه (جماعة كوبنهاجن) وتتخذ منه دليلا على ان برنامج (حزب التطبيعيين) لا يتعارض مع الشريعة الاسلامية. وخلال المعركة ردد الجميع ــ بلا وعي ــ وصف (المرجع السني الاعلى في العالم الاسلامي) الذي اطلقته الصحف الاسرائيلية على فضيلة شيخ الازهر, مع ان اهل السنة لا يستخدمون هذا المصطلح بمعناه الفقهي, وليست لديهم (مراجع دينية عليا) او غير عليا, والا كان من مصلحة الاسرائيليين ان يروجوا لهذا الوصف ليضفوا أهمية استثنائية على اللقاء بين الشيخ والحاخام, وليوحوا بأنه فتوى من (المرجع السني الاعلى) بجواز تطبيع العلاقات معهم, تواجه فتوى المراجع الشيعية التي تحظر ذلك, فقد ردده الرافضون للتطبيع على سبيل (تصقيع) التهم الموجودة لشيخ الازهر, من دون ان يتنبهوا الى التأثير السلبي لاقرارهم بذلك على مشروعية حركة مقاومة التطبيع من الناحية الدينية. وعلى الرغم من أنهم يعلمون ان الازهر, هو مجرد مسجد وجامعة ومجمع للبحوث تتعدد اشباهه ونظائره في كثير من البلدان الاسلامية, وليس له او لشيخه سوى حق ابداء الرأي في شؤون الدنيا والدين, وهو رأي لا يلزم الا من يقتنع بصحته من المسلمين, وعلى الرغم من ان الشيخ (طنطاوي) نفسه, قال أن لقاءه مع الحاخام, لا يعبر عن رأي احد سواه, فقد اصروا على خوض المعركة ضده, باعتباره (المرجع الديني الاعلى) وبصفته معبرا عن رأي الازهر, الذي يعبر بدوره عن رأي كل المسلمين السنة, ومع ان من بينهم بعض عتاة المطالبين بالفصل بين الدين والسياسة, فقد نسوا في (حومة الوغى) ذلك, وطالبوا بانتخاب شيخ الازهر, ليمهدوا فيما يبدو لتأسيس سلطة دينية مستقلة تضاف الى سلطات الدولة الثلاث, وتكون المرجع الديني الأعلى لها... ومشكلة الجبهة الرافضة للتطبيع على الصعيد الشعبي, هي انها تكونت منذ البداية, من تيارات ايديولوجية مختلفة في نظرتها للصراع العربي الاسرائيلي يراه البعض صراع اديان, ويراه آخرون صراع قوميات, مختلفة في مواقفها من مسألة تطبيع العلاقات, ينطلق بعضها من نظرته الى الصراع باعتباره صراع وجود لا صراع حدود, ليرفض كل شكل من اشكال التطبيع مع اسرائيل في الحال والاستقبال, حتى لو انسحبت من كل الاراضي العربية التي احتلتها واعترفت بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني بما في ذلك اقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس, بينما ينظر البعض الآخر الى سلاح رفض التطبيع باعتباره سلاحا تفاوضيا, فيربط بينه وبين الانسحاب واقامة الدولة الفلسطينية. والغريب ان احدا من النشطين على صعيد هذه الجبهة, لم يسع بجدية لادارة حوار مسؤول بين قواها وتياراتها, ينتهي بتحولها من انفجارات عصبية, الى حركة سياسية, تتفق فيما بينها على اختلاف رؤاها الايديولوجية, على برنامج حدّ ادنى مشترك, يقوم على تعريف محدد وواضح وقابل للتعديل طبقا للظروف المتغيرة للتطبيع الذي ترفضه, يضع في اعتباره الظروف المحلية لكل بلد عربي, ويسعى لكي يحشد اوسع جبهة ممكنة من القوى الشعبية في جبهة الرافضين للتطبيع, تعمل بالتنسيق فيما بينها على صعيد كل الاقطار العريقة, وعلى التنسيق فيما بينها وبين المفاوض الفلسطيني والعربي... ولأن ذلك لم يحدث, فقد اصبح الرافضون للتطبيع اشبه بالمناضلين الموسميين, الذين لا ينزلون الى ميدان المعركة, الا عندما يكتشفون فجأة, ان احدهم قد غير موقفه, فيمتشق كل منهم قلمه ولسانه, من دون ان يحدد هدفه, او يسعى لاستعادة المختلف, وينهالون عليه سبا وتجريحا وتخوينا حتى يضطرونه في النهاية الى الهتاف بحياة (نتانياهو) ... ومع التسليم ان لقاء شيخ الازهر بالحاخام الاسرائيلي, هو خطوة اخطأها التوفيق, فإن الحملة عليه قد اخطأها حُسن التقدير, وافتقد بعض ما قيل فيها لحسن الادب, اما المهم فإن احدا ممن نزلوا الى حومة الوغى لم يتوقف امام قول فضيلته أن ما قام به ليس تطبيعا ولكنه حوار, وانه ضد التطبيع, ويعتقد ان كل من يطبع العلاقات مع اسرائيل يكون خائنا لدينه ولأمته, وهي مقولة شائعة, لم يعن احد بالتدليل على صوابها, أو بالبرهنة على فسادها, لان ذلك يتطلب ان تتحول حركة مقاومة التطبيع من انفجارات عصبية... الى حركة سياسية... وهو امر يبدو انه لن يحدث, لان البعض يفضلونها عصبية وموسمية!

Email