تركيا ومأزق الانتماء: بقلم- د. حنيف القاسمي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يكن قرار الاتحاد الاوروبي في ديسمبر الماضي بشأن رفض عضوية تركيا بالاتحاد اول قرار من نوعه, ولم يكن مسعى تركيا للانضمام الى الاتحاد اول محاولة لها, فقد جاء ذلك القرار الذي صدم نخبة التغريب في تركيا بعد اكثر من ثلاثة عقود من الاستجداءات التركية المتكررة. وذلك على الرغم من حرص الحكومات العلمانية التركية على اثبات ولائها للنموذج الغربي. والقيام بالادوار المطلوبة منها لتحقيق المصالح الغربية خير قيام. مبررات الرفض المعلنة تتمثل في سجل تركيا في مجال حقوق الانسان, وتسوية المسألة الكردية في تركيا. وحل النزاع الاقليمي بين تركيا واليونان, والتجاوب مع المساعي الدولية لحل المشكلة القبرصية. وهذه الامور هي الشروط التي حددها الاوروبيون لانضمام تركيا. ولاشك ان هناك اسبابا ومبررات اوروبية ذات اهمية استراتيجية دعتها الى الاصرار على رفض دخول تركيا في المنظومة الاوروبية وهي ـ بطبيعة الحال ـ تتجاوز التصريحات التي اطلقها المسؤولون الاتراك بعد الموقف الرسمي الاخير للاتحاد. وهي التصريحات التي صبت جام غضبها على المانيا واليونان باعتبارهما مسؤولتين عن ذلك الموقف الاوروبي السلبي. ومع ذلك يبقى للموقف الذي تبنته كل من المانيا واليونان اثر كبير في انتهاء الاتحاد الاوروبي الى ذلك القرار. وهو ما عبر عنه وزير الخارجية الايطالي لمبرتو ديني ان قمة لكسمبورج اهانت تركيا لنيل رضا المانيا واليونان, وان المجلس الوزاري الاوروبي فرض شروطا مهينة على تركيا لكي تنال رضا اليونان والمانيا. مهما يكن من امر, فالقرار الذي لم يكن يحمل اي عنصر مفاجىء تجاه التعامل الاوروبي مع تركيا في شأن انضمامها, احدث ردود فعل تركيا غاضبة وغير مألوفة, انعكست على تصريحات المسؤولين الاتراك بعد سماعهم القرار المذكور, والتي اتصفت نبرتها بالحزن واليأس وخيبة الامل. وربما زاد من حدة تلك التصريحات الاستجابة التركية للشروط والمعايير التي وضعتها اوروبا لتنسجم تركيا مع النموذج الغربي. بالاضافة الى حرص الحكومات التركية العلمانية المتعاقبة على اثبات ولائها لذلك النموذج. ولعل الموقف الاوروبي, والدور الذي تتوقعه اوروبا من تركيا لايخلوان من مفارقة غريبة فأوروبا حريصة على انسلاخ تركيا من جذورها الشرقية الاسلامية, وهي في الوقت نفسه لا تريد تركيا الاوروبية, وهي ــ اي اوروبا ــ مع ذلك تريد ان تستمر تركيا في لعب دور الشرطي المحافظ على مصالحها في المنطقة. ومع تكرار الصفعات الاوروبية, لم تع النخبة العلمانية التركية اي درس تجاه قبولها في منظومة غريبة عنها, رافضة لخلفيتها الحضارية. بل كان استمرارها على تقديم طلب الانضمام الى تلك المجموعة مؤشرا على حالة فقدان الذات والهوية التي تمر بها. وهي الحالة التي دفعتها الى البحث عن بديل غربي آخر بعد ان يأست من اتاحة مكان في الاطار الاوروبي, وقد كان البديل الذي سعت اليه نموذج غربي آخر تمثل في الولايات المتحدة الامريكية والتي تريد ــ بطبيعة الحال ــ ان يستمر الدور التركي في المنطقة, نظرا لما تتمتع به من اهمية جيو ــ استراتيجية. ولعل التطمينات الامريكية لتركيا بعد صدمتها الاوروبية تشير الى الحرص الامريكي على الحاق تركيا بالمنظومة الغربية, وذلك بالنظر الى تلك الاهمية. وقد جاءت تلك التأكيدات على لسان الرئيس الامريكي بيل كلينتون نفسه الذي قال في (17/12/1997): عندما تنظرون الى حجم تركيا, واذا فكرتم في ما تعني على الصعيد الجيو ــ استراتيجي, واين تقع, وما بامكانها ان تقفل وتفتح من الابواب, فان هذا امر فائق الاهمية. في المقابل كان للتوجه التركي نحو الولايات المتحدة ــ خاصة بعد يأس النخبة ــ ما يبرره خاصة وان هذه النخبة ملتزمة بالخط العلماني ذي التوجه الغربي الذي قامت عليه الجمهورية التركية منذ تأسيسها في عشرينيات هذا القرن على يد كمال أتاتورك. وهو الخط الذي استبعد كليا اي انتماء للخلفية الثقافية ذات الطابع الشرقي الاسلامي للاتراك. بل اعتبرت النخبة العلمانية التركية العودة الى جذور تلك الثقافة بمثابة العودة الى عصور التخلف والظلام. وبسبب من ذلك, استبعدت النخبة ابتداء, ومنذ تأسيس الجمهورية, الاعتراف بأي فضل لتلك الثقافة, بل حملتها مسؤولية التردي والتخلف والتراجع الحضاري الذي اصاب تركيا في ذلك الوقت. ولاشك أن طرح النموذج الغربي كبديل جاء بعد ذلك التشخيص الخاطئ للحالة التركية, والذي رأت فيه تلك النخبة أن الشر يكمن في كل منتمٍ إسلامي. غير ان تجربة التغريب المطلق, المنطلقة من الفكر العلماني, لم تحقق الأحلام والآمال التي وردت في شعارات علمانية تركيا منذ حدث ذلك التحول المثير في تاريخ تركيا, بل على العكس من ذلك, فقد شهدت تركيا - ومازالت تشهد - أزمات عامة, تفاقمت إلى درجة البؤس والشقاء اللذين ألقيا بظلال قاتمة على عموم الحياة التركية, هذا بالإضافة إلى حالة الضياع الثقافي والتشتت الفكري في الانتماء إلى الهوية, والتي كانت أحد أهم الآثار الخطيرة لفرض مظاهر التغريب قسراً على أمة لها جذور ثقافية وعقائدية مختلفة تماماً وهي الحالة التي شبهها الأتراك بقولهم ان تركيا سفينة شرقية يقودها ربان ظل يُكرِهها على الاتجاه غرباً. إزاء ذلك الموقف الحافل بالبؤس, كان السعي إلى إيجاد مخرج لذلك المأزق أمراً مشروعاً, وقد تجلى ذلك عندما اكتسح حزب الرفاه ذي التوجه الإسلامي, وبزعامة نجم الدين أربكان, الانتخابات عام ,1995 وهي الانتخابات التي حملت - لاحقاً - أربكان إلى السلطة وأشركته فيها مع حليفته تانسو تشيللر. ولعل تجربة الرفاه في المشاركة في حكم تركيا - والتي كانت أقل من عام واحد - حافلة بالعديد من الخطوات التي سعت إلى العودة بتركيا إلى الهوية الثقافية ذات الطابع الإسلامي والشرقي, وأحدثت كذلك, اختراقاً غير مسبوق لاحتكار النخب العلمانية ذات التوجه الغربي منذ تأسيس الجمهورية التركية الحديثة. من أهم تلك الخطوات بعض المبادرات التي قام أربكان بها لمد جسور التعاون مع الدول الإسلامية, والتي كانت ترفضها المؤسسة الحاكمة السابقة, وقد حقق مسعى أربكان نجاحاً مشهوداً تجلى في عقد صفقة الغاز مع إيران, والتي بلغت نحو 23 مليار دولار, ورفع التبادل التجاري مع ليبيا إلى نحو ملياري دولار, كما تجلى في قمة اسطنبول الثمانية, والتي أسفرت عن إعلان اسطنبول الذي اشتمل على محاور عديدة لتفعيل التعاون الاقتصادي بين الدول المشاركة فيه. ورغم أن التقارب مع الدول الإسلامية يعد أمراً طبيعياً بالنسبة للأتراك, الذين تجمعهم مع تلك الدول العديد من القواسم المشتركة, إلا أن هذا الأمر قد أزعج النخبة العلمانية التركية, التي رأت في مثل ذلك التقارب إقصاء لتركيا عن الهدف الذي كانوا يسعون إلى تحقيقه منذ عقود, وهو الانضمام إلى أوروبا حيث يكمن التقدم والرخاء والتحضر!, كما أن ذلك التقارب أزعج - بطبيعة الحال - الدول الغربية, وفي مقدمتها الولايات المتحدة, التي أثارت زيارة أربكان لإيران وليبيا حفيظتها, وأثارت سخطها واستنكارها. المهم في شأن (التمرد) الأربكاني على النخبة التغريبية والدول الغربية, أنه حقق بعض المكاسب الاقتصادية عبرت عنها الأرقام التي تقدمت, إضافة إلى البحث عن شركاء يلتقي معهم في انتماء حقيقي. وربما يكون هذا الخيار (الشرق الإسلامي) هو الأجدر بتركيا, وهي البلد الذي - كما يقول أستاذنا فهمي هويدي - : دخل التاريخ من باب الإسلام حتى استمد رصيده وعزته من انتمائه إليه, ووجد نفسه منذ العشرينات مطالباً بمخاصمته والتخلي عنه, وفي حين تقع 97% من أراضي تركيا في آسيا, وتفرض عليهم الجغرافيا انتماءً شرقياً بامتياز, فإن كمال أتاتورك قرر أن يتحدى الجغرافيا - فضلا عن تنكره للتاريخ - وأراد لتركيا التي تقع 3% فقط من أراضيها في أوروبا أن تصبح غربية, وأن تظل طيلة سبعين عاماً تتسول ذلك الانتماء من الغرب, الذي ما برح يتمنع ويتدلل حتى رفض الأوروبيون أن يمنحوها ذلك الشرف. وكيل كلية العلوم الانسانية *

Email