دماء الهنود تلطخ وجه المكسيك من جديد:بقلم - طلعت شاهين

ت + ت - الحجم الطبيعي

رغم الثروات الطبيعية الهائلة التي تتمتع بها المكسيك, الا انها تعيش خارج التاريخ, مجتمعها متخلف تسيطر عليه الأمية, ولا يزال يعيش في الكثير من مناطقه على طريقة القرون الوسطى, حيث يمتلك الاقطاعي الأرض و(ما) و(من) عليها, من انتاج وزرع وفلاحين, واكثر الاقطاعيات الكبيرة المنتشرة في جنوب البلاد يمتلكها اجانب, او سكان من اصول اجنبية, اما (مهنة) الفلاحة في تلك الاقطاعية فهي لسكان البلاد الاصليين من الهنود, الذين ورثوا العبودية للاجانب منذ وصول كولومبس الى بلادهم قبل خمسة قرون. المدن المكسيكية الرئيسية تغص بالهاربين من مناطق السيطرة الاقطاعية, تسيطر عليها مافيات منتشرة هنا وهناك, تعيش على تهريب المخدرات وممارسة الجريمة المنظمة, التي تغلغلت حتى وصلت الى قيادة مكافحة الجريمة نفسها, وليس بعيدا واقعة اكتشاف أن القائد العام لقوات مكافحة تهريب المخدرات ضالع في تلك العمليات من قبل ان يتسلم ذلك المنصب, او ان الضابط الذي كلفه محافظ العاصمة بمكافحة الجريمة واجه اتهامات عديدة تؤكد انه قتل بيديه اكثر من عشرة افراد اثناء خدمته بالجيش, مما اضطر معه المحافظ الى تقديمه للمحاكمة بدلا من تسليمه (عصا) النظام. إضافة الى كل هذا, هناك مكونات مجتمعية كاملة تعيش خارج نطاق الحياة السياسية, من أن المحرومين من ممارسة حقوقهم السياسية هم ابناء البلاد الأصليين من الهنود المنتشرين في سلاسل الجبال, وبين اشجار الغابات, ولا يعرفون عن الحياة غير ما كان يعرفه اجدادهم, الذين استقبلوا (كولومبس) ورجاله بحفاوة لا تليق إلا بصديق يقدر معنى الصداقة, ثم سرعان ما اكتشفوا انهم سلموا انفسهم لجلاديهم إلى الأبد. ما بين عنف الاقطاع في الريف وعنف المافيات في المدن, تاريخ المكسيك المعاصر ممزوج دائما بالدماء, ورغم محاولات البعض اهالة التراب على تلك الدماء حتى لا تعود الى الظهور من جديد, إلا ان دماء الهنود تعود لتلطخ وجه المكسيك من حين لآخر, وتلك الدماء التي خلفتها المأساة التي عاشها هنود المناطق الجبلية الفقيرة في الجنوب قبل ايام قليلة, التي راح ضحيتها 45 شخصا من الهنود الفقراء العزل, اكثرهم من النساء والاطفال والعجائز الذين هم دائما ضحايا العنف المنظم, كانت الدماء هذه المرة ناتجة عن مذبحة ارتكبتها قوات مدربة ومسلحة على ايدي الجيش المكسيكي, الذي تسيطر عليه قيادات الحزب (الثوري الدستوري) الحاكم, الذين لا يزالون يرون الحياة السياسية, والحكم على طريقتهم الخاصة, ويرفضون الاعتراف بما يجري على ارض الواقع من تغييرات تخطت زمن الاقطاع. هذه المذبحة الجديدة ليست الاولى ولن تكون الاخيرة, والضحايا في كل مرة هم الهنود سكان البلاد واصحاب الوطن- وهذه المذبحة الاخيرة دليل على ان قادة الحزب الحاكم في المكسيك يرفضون الاعتراف بما حدث في الانتخابات الاخيرة, ويحاولون العودة الى الاسلوب نفسه الذي مكنهم من السيطرة على الاغلبية في البرلمان طوال سبعة عقود, ورغم تغيير نسق الانتخابات والتعديلات الجوهرية التي تمت في السنوات الثلاث الماضية, التي اعقبت تولي الرئيس الحالي (ارنستو زيديو) الحكم خلفا للرئيس السابق (كالوس ساليناس) , الذي هرب من البلاد بعد ان تكشفت حقائق كثيرة حول الفساد الذي مارسه اثناء فترة حكمه, والاثراء غير المشروع الذي مكنه ومكن اسرته من تكوين ثروة ضخمة في بنوك سويسرا على حساب الجماهير. اذا كان المراقبون السياسيون اعلنوا من قبل انه كان متوقعا أن تسفر التغييرات السياسية المعلنة عن تغييرات في نسق الحكم, خاصة بعد الهزيمة الساحقة التي لقيها الحزب على ايدي (المراقبين الدوليين) الذين راقبوا هذه الانتخابات لأول مرة في تاريخ المكسيك المعاصر, الا انهم كانو يرون ايضا ان اراقة الدماء من جديد اكثر احتمالا, خاصة في مناطق الجنوب الفقيرة التي تقطنها اغلبية هندية, وتقع تحت سيطرة الاقطاع الذي لا يزال يعيش منغلقا في فكر القرون الوسطى, ولا يرى في الفلاحين سوى انهم من ادوات الانتاج في الارض. وتوقع اراقة دماء فقراء المكسيك في اطار التغييرات السياسية على ارض الواقع كان مؤكدا, لأن كل الدلائل كانت تشير الى ان القوى الرئيسية في الحزب الحاكم سوف ترفض هذه التغييرات, وموافقتها على اجراء هذه التغييرات كان شكليا, ليساعدها على تفادي الضغوط السياسية الداخلية الناتجة عن المعارضة المتزايدة لممارسات السلطة المتعسفة والفساد, اضافة الى الضغوط السياسية الخارجية التي تمارسها بعض القوى الدولية في اكثر الاحيان كنوع من الشعارات, أي ان الموافقة على تلك التغييرات كانت كنوع من عمليات التجميل, وعندما وافقت عليها لم تكن تعلم انها ستسفر عن تلك الهزيمة الساحقة التي انتقلت بموجبها رئاسة العاصمة الى حزب معارض. الحزب الحاكم لم يكن يرغب في اجراء تغييرات سياسية حقيقية في بلاد حكمها منفردا طوال سبعة قرون, لكنه كان مجبرا على قبولها تحت ضغوط داخلية تمثلت في ظهور (جيش التحرير الثاباتي) نسبة الى الزعيم الفلاحي (اميليانو ثاباتا) القائد الحقيقي لثورة التحرير, والذي كان اول ضحاياها- في مناطق الجنوب في وقت كان الكل يعتقد ان ظهور حركات تحرير جديدة في امريكا اللاتينية بات مستحيلا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي المتهم الاول والدائم في هذه المنطقة من العالم, كان ظـهور هذا الجيش الثوري في يناير 1994 مفاجأة اذهلت الجميع, بما فيهم عناصر المخابرات المركزية الامريكية, التي كانت تعتقد انه قد تم دفن (ثورة الفقراء) في العالم وآن الأوان لها لترتاح من متابعة حركات التحرر, التي كانت منتشرة في امريكا اللاتينية وافريقيا طوال العقود التي امتدت بطول الحرب الباردة. لأن هذا الظهور الثوري المسلح والانتصارات التي تحققت في مواجهة جيش البلاد, دفع المعارضة الحزبية المنظمة الى رفع رأسها من جديد والمطالبة باصلاحات تضمن تبادل المواقع بين السلطة والمعارضة, وازدادت الضغوط حدة ضد الحكومة حتى رضخت لتلك المطالب. لذلك فان هذه المذبحة الاخيرة كانت مخططة بدقة من قبل الحزب الحاكم لتحقيق العديد من الاهداف, أولها إعادة نشر المزيد من قوات الجيش في تلك المنطقة التي زحفت عليها قوات الثوار وخرجت عن سيطرة الدولة, تلك المنطقة التي تم الاعتراف بها كمنطقة محرمة على الجيش تنفيذا لأحد بنود الاتفاقية التي تم التوصل اليها اثناء المفاوضات التي جرت مع الثوار خلال عام 1995, فقد كان اول مطلب لثوار (الجيش الثاباتي) ابعاد الجيش تماما عن هذه المنطقة, لأن القوات الحكومية في مناطق الجنوب تعتبر احد الاسلحة التي يمتلكها الاقطاع لارهاب الفلاحين الهنود, كما لو كانت قوات خاصة بالاقطاعي وليس الدولة, وهو المطلب الذي نفذته الحكومة تحت ضغوط الهزائم التي لقيها الجيش في تلك المنطقة, رغم تفوقه على الثوار في العدد والعتاد, لكن قادة الحزب من الاقطاعيين الذين يرون ان مصالحهم الاقتصادية في المنطقة باتت مهددة, يحاولون العودة إليها باستخدام سلاحهم القديم الذي يملكه الجيش, اضافة إلى إلقاء الرعب في النفوس ونشره في منطقة الجنوب التي بدأت تجهر دعمها للثوار, الذين استطاعوا خلال ثلاث سنوات من الجهود المتواصلة ان يحققوا للهنود مكاسب لم تمنحها لهم الدولة خلال قرن من الزمان, خاصة الرعاية الصحية والتعليمية التي تدعمها منظمات غير حكومية, وهيئات دولية. والدليل على ان المذبحة الاخيرة كانت مخططة باحكام ان الجيش قام قبلها بتحريك العديد من قواته الى منطقة قريبة من الجنوب استعدادا للتدخل في اللحظة المناسبة, وقبل ان تتمكن قوات الثوار من السيطرة على منطقة الاحداث, فقد اشارت تقارير محايدة الى ان الجيش كان يمتلك 74 نقطة تمركز منذ تنفيذ جزء من الاتفاقيات التي تم التوصل اليها مع الثوار عام 1995, ولكن نقاط التمركز ازداد عددها خلال عام 1996 الى 96 نقطة, وقبل ايام قليلة من المذبحة كان الجيش قد وضع نقاط تمركز يصل عددها الى 170 نقطة. ايا كان امر ما حدث في مذبحة الهنود في جنوب المكسيك, فانها لن تخرج عن كونها حلقة في سلسلة متواصلة من حلقات العنف الذي يمارسه قادة حزب وجدوا انفسهم فجأة في مواجهة مع جرائمهم التي ارتكبوها طوال سبعين عاما من الحكم, وهو موقف اليائس الذي افلتت من بين يديه خيوط اللعبة, فقرر ان يعود الى سلاح العنف الذي مارسه طوال سنوات حكم اوشك على الانهيار, لذلك كان من الممكن استغلال الحدث لاحداث المزيد من الضغوط الدولية على نظام (الحزب الثوري الدستوري) الحاكم في المكسيك للتخلي عن السلطة التي قرر الشعب تسليمها للمعارضة في الانتخابات الاخيرة. لكن الغريب هو موقف القوى الدولية المؤثرة في الحركة السياسية الداخلية في المكسيك, التي ترفع الشعارات في اوقات غير مناسبة وعندما يواجه الشعب موقفا كالذي يواجهه الهنود الآن, فان شعارات (حقوق الانسان) تنكس اعلامها, وتحل محلها محاولات التمويه على المشاهدين, والبحث عن تبريرات لتبرئة القاتل وادانة القتيل, فيبدو الامر كما لو كانت المذبحة التي ذهب ضحيتها اطفال ونساء وعجائز مجرد مسرحية هزلية لامتاع الجالسين امام اجهزة التليفزيون. الولايات المتحدة التي تملأ العالم ضجيجا بحديثها عن (حقوق الانسان) , والتي تعتبر الشريك الاقتصادي الرئيسي للمكسيك لا ترى في مذبحة الهنود سوى مناسبة لارسال برقيات العزاء للرئيس الجالس على مقعد السلطة التي ارتكبت الجريمة, والمفترض انه المسؤول عن ما حدث (؟!) , والاتحاد الاوروبي يطالب على استحياء بالبحث عن القتلة او عن ضحية اخرى واعلان ادانتها وتقديمها للعدالة, لأن الادانة الواضحة الصريحة قد تعني خسارة سوق ضخمة صالحة لاستهلاك فائض ما تنتجه مصانعها. وكلا الجانبين يعلم من هو القاتل, ومن الذي اصدر إليه الامر بالقتل, لكن المصالح الاقتصادية في زمن ( الخصخصة) أو التخصيص) و(الليبرالية الاقتصادية) و(السوق المفتوحة) و(العولمة) تحكمه الارقام, وعدد الهنود المقتولين في المذبحة ليس سوى رقم يضاف الى الارقام التي تنشرها الصحف في ركن قصي لا تراه العين الباحثة عن (ارقام البورصة) . كاتب مصري متخصص في شؤون امريكا الاتينية *

Email