الصين وروسيا تسدان فراغ انسحاب أميركا من دورها كشرطي للعالم

العالم أمام مخاض ولادة نظام عالمي جديد

■ إعادة اصطفاف دوتيرتي تظهر أن النفوذ الغربي بآسيا بدأ ينحسر

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما أعلن الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي في بكين أخيراً أن «أميركا خسرت» وأنه سوف «ينفصل» عن الولايات المتحدة للانحياز إلى جانب الصين الصاعدة، لم يكن ممكناً أن يكون وقع هذه الكلمات على آذان مضيفيه إلا كوقع الموسيقى.

فبلد مجاور حليف لأميركا كان ينأى في الظاهر عن نظام غربي كان مهيمناً لفترة طويلة ويقوم على مبادئ ديمقراطية واقتصادات السوق الحرة، في سبيل تبني رؤية اقتصادية وسياسية للحكم اكثر استبداداً تقودها الدولة، وقال: «أعيد اصطفافي بتياركم الفكري» مضيفاً أنه قد يذهب أيضا إلى روسيا لإجراء محادثات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

إعادة اصطفاف دوتيرتي، خطابياً على الأقل، سيعطي دفعاً للحجة العالمية القائلة إن النظام الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة في الحكم والاقتصاد آخذ في التراجع. وكان قادة دول في الشرق الأوسط يتحولون في الفترة الأخيرة إلى الصين وروسيا أيضا. وحتى داخل الديمقراطيات الغربية، تضغط حركات شعبوية رجعية ضد القواعد والأنظمة التي قامت على تحديد معالم هذه الديمقراطيات نفسها على مدى عقود.

فارق مهم

لكن في إطار رد الفعل العنيف كان هناك فارق بسيط هام، كما يقول بعض الخبراء. ففي الوقت الذي أصبح لأميركا هيمنة أقل في العالم، فإن البلدان التي صعدت للعب دور أكبر هي بلدان ديمقراطية على نطاق واسع وملتزمة بقواعد السوق الحرة، من الهند إلى اليابان وجنوب أفريقيا وأستراليا، وحتى تركيا.

وكانت الصين وروسيا تسعيان لتوسيع نفوذهما على مدى سنوات، خاصة مع انسحاب أميركا من دورها كزعيمة العالم. لكن «دولة السوق الاستبدادية» لم تجذب الكثير من المعتنقين الجدد يقول ستيفن هالبر، الزميل في جامعة كامبريدج.

وفيما قد تكون الصورة الحالية مزعجة في بعض الأوقات، يمكن النظر إليها كمخاض لولادة نظام عالمي جديد، نظام لا يزال يحتفظ بأسس الديمقراطية والاقتصاد الليبرالي للنظام القديم، لكنه ربما أقل تمحورا حول الغرب.

يقول أحد قدامى محللي السياسة الخارجية للولايات المتحدة جون هلسمان، والذي يقيم في ألمانيا: «ليست الحرائق في العالم هي المخيفة، بل غياب رجال الإطفاء، في ظل وجود ركنين رئيسيين لمحطتي إطفاء الحرائق في النظام الغربي، وهما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، في تراجع».

بعبارات أخرى، لم يعد النظام الذي بناه الغرب للنظام الدولي يخدم احتياجات العالم. فالولايات المتحدة وأوروبا هما أقل استعدادا للتدخل عندما تكون أجزاء أخرى من العالم غير قادرة على الاستجابة بطريقة فعالة للصراعات والتحديات العالمية الأخرى، وهو ما يعني تراجعاً في النفوذ الغربي.

لكن بقدر ما قد يبدو الوضع متشائماً، فإنه ينطوي على جانب إيجابي أيضا: وهو تراجع الاعتمادية. وبصفة عامة، يستند النظام العالمي الصاعد متعدد الأقطاب إلى المبادئ التي اعتنقها الغرب إلى حد كبير، يقول هلسمان. ويحدث هذا التحول فيما النظم العالمية التي أنشأها الغرب تواجه رياحاً معاكسة غير عادية.

نموذج جديد

وعلى الصعيد الدولي، كان انهيار النظام الغربي السائد يشجع روسيا والصين على تعزيز «نسخة جديدة من العلاقات الدولية من جانبهما». لكن الصين وروسيا لم تحققا تقدماً يذكر.

فقد شهدت الأزمة المالية صعوداً لمنظمة الدول العشرين متعددة الأقطاب حيثما سادت مجموعة السبع التي تتألف بالكامل من الدول الغربية، لكن هذا لم يؤد إلى عالم يلتزم بنموذج الصين في الحكم. وبقدر ما قد يحسد زعماء العالم نسبة التأييد الشعبي لبوتين المقدرة بـ 80%في الداخل، إلا أن لا احد منهم ينظر في السير على خطى الاقتصاد الروسي، يقول هلسمان. لكن عند الاستماع إلى كلام الرئيس دوتيرتي قد يتراءى للعالم أنه فعل ذلك. لكن من هنا إلى الاحتضان الكامل لنموذج الرجل القوي، فإن الطريق معبد بالمخاطر لقادة دول مثل دوتيرتي. ففي الفلبين تقاليد من الانتخابات والحكم الديمقراطي. وقد وجدت دراسة استقصائية على المستوى الوطني في الفلبين أن 76%من البالغين لديهم «ثقة كبيرة» بالولايات المتحدة، في مقابل 22%اعربوا عن «ثقة كبيرة» بالصين.

الرجل القوي

يؤكد الخبير ستيفن هالبر في جامعة كامبريدج: «من الواضح أننا في فترة من الصراع بين الحكم الديمقراطي وبين رؤية اكثر استبداداً للحكم على الصعيدين الوطني والدولي»، مضيفاً: «يشعر الناس ان ثقافتهم وهويتهم تحت التهديد، ويشعرون ان النظم الحاكمة لم تعد تعمل، ويريدون رداً قوياً على ذلك».

وليست البلدان الجديدة نسبياً في نادي المبادئ الغربية تشعر كذلك فحسب، بل ان أكثر من ربع المواطنين الفرنسيين مستعدون للقبول بدولة أكثر استبدادا، وفقا لدراسة حديثة.

Email