تقاطع فائضي القوة والتاريخ يهدّد بخروج الأزمة عن السيطرة

النزاع الصيني الياباني يتجاوز الجزر

ت + ت - الحجم الطبيعي

توقعات المراقبين تكاد تجمع على أن التوتر الصيني - الياباني، الواقف على حافة الاحتكاك المسلّح، يتجاوز مسألة الخلاف بينهما حول السيادة على خمس جزر صغيرة، فهذه ليست أكثر من نتوءات صخرية نائية ضئيلة الحجم، ولا أهمية تذكر لها من النواحي الاستراتيجية أو العسكرية أو الاقتصادية، كما أنها خالية من السكان، صحيح أنها موضع نزاع تاريخي، بحكم قربها من البلدين..

ولو أنها أقرب إلى السواحل الصينية بمقدار 130 كلم، لكن من غير المعقول أن يهدّد التنازع حول مثل هذه التضاريس العائمة وسط البحر، بتفجير مواجهة بين ثاني وثالث اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، لاسيما أنه يمكن حلّ الخلاف بوسائط أخرى كالتحكيم الدولي أو الوساطة الدبلوماسية، على الرغم من تاريخ العلاقات المثقل بالجفاء والنفور بين الجارين العملاقين الآسيويين.

تجاهل هذه القنوات كلياً، ووصول التأزم إلى تخوم المواجهة، لا يعكس فقط عمق التوتر المزمن والرفض المتبادل بين طوكيو وبكين، بل يظهر أيضاً أن الأمر يستبطن حالة متقدمة من الصراع الجيو- سياسي الإقليمي- الأميركي. فخلفية المشكلة وخطوات الفعل وردّ الفعل من الجانبين منذ سبتمبر 2012، التي بلغت حدوداً غير مسبوقة أخيراً، فضلاً عن دخول واشنطن على خط الأزمة، باستعراض عضلاتها العسكرية الضاربة، يضع الأزمة في هذه الخانة.

فرصة مواتية

الخلاف على جزر سنكاكو باسمها الياباني و دياويو بالصيني، يعود إلى عام 1534، حين ادعت الصين ملكيتها لها، جارها الخصم رفض هذا الزعم وانتظر الفرصة المواتية لاسترجاعها عام 1895، مع سقوط اليابان في الحرب العالمية الثانية، وضعت أميركا يدها على الجزر، لتضعها من جديد تحت الإدارة اليابانية سنة 1972.

وقبل ذلك بأربع سنوات، حددت طوكيو مجالها الجوي، الذي يشمل الجزر، الذي حاججت بكين بشرعيته، وبقي هذا الواقع قائماً في ظلّ خلاف معلّق بينهما، ثم أخذت شحنة من النمو قبل عام ونيف، عندما تأججت المشكلة جرّاء إقدام طوكيو على شراء الجزر..

وتحويلها من ملكية خاصة إلى ملكية سيادية، رأت فيها الصين عملية استفزازية، حملتها على إرسال دوريات بحرية إلى المكان، ردّت عليه اليابان بالمثل، على الأثر جرى تبريد الوضع وإعادة تعليقه، بعد أن كاد يصل إلى حدود التفجير في الأيام الأخيرة.

موقف ملتو

الموقف الأميركي الملتوي أسهم بطريقة غير مباشرة في تنامي التوتر، فواشنطن دأبت على القول إنها تعترف بالإدارة اليابانية على الجزر، لكن مسألة السيادة عليها تبقى موضوعاً للتوافق بشأنه بين البلدين، تماماً كموقفها من تايوان، فهي تعترف بصين واحدة، وفي الوقت نفسه بدولتين على تلك الأرض.

معادلة تترك لها الباب مفتوحاً، للتدخل ولجم محاولات التغيير في توازناتها الراجحة لمصلحتها، التي تحاول بكين إحداث اختراقات فيها. وهنا يكمن لبّ التصعيد الراهن، فبمجرد إعلان الصين بوضع المجال الجوي والبحري المحيط بالجزر تحت سلطتها، مع التحذير من عبورها من دون إبلاغ سلطاتها العسكرية، سارعت واشنطن إلى إرسال القاذفة الاستراتيجية ب-52 إلى المنطقة، لتخرق أجواءها من دون إبلاغ السلطات الصينية.

وهكذا أرسلت اليابان وكوريا الجنوبية مقاتلاتها الجوية إلى أجواء الجزر، بعد التشاور مع واشنطن بالطبع. الرسالة واضحة، وتتعدى التنازع حول الجزر، هناك توازن استراتيجي في المنــطقة غير مسموح حصول اختلال فيه.

عملياً تراجعت الصين عن تحذيرها، إذ يبدو أنها أخطأت في حساباتها، خسرت جولة حرب الأعصاب، مع قدر من المصداقية في محاولة تصرفها كقوة عملاقة في المنطقة، ولو أنها كانت فرصة لها لعرض مقاتلتها الحديثة J-11، التي قامت مع طائرة الاستكشاف KJ-2000 المشابهة للأواكس الأميركية، بطلعات في سماء الجزر...

وقد تزامن ذلك مع قيام حاملة طائراتها الجديدة لياوننغ، بجولتها الأولى في بحر الصين الجنوبي، كما ترافق ذلك مع إطلاق بكين لأول روبوت إلى القمر، تطور تكنولوجي وعسكري أثار قدراً من الدهشة في واشنطن.

انكفاء صيني

غير أن الانكفاء الصيني اجتناباً لمواجهة لا يبدو أنها تسعى إليها بكين، لأنها لا تخدم مصالحها، فضلاً عن عدم قدرتها حالياً على كسب جولتها، من شأنه ترحيل الأزمة التي قد تسهم زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن الأسبوع الثاني من ديسمبر إلى بكين في تنفيسها.

مع ذلك عندما تجتمع العصبية القومية الملتهبة هذه الأيام في الصين، كما في اليابان، مع فائض القوة من جهة الصين، وتوقها إلى تصفية حسابات الاحتلال الياباني الشرس لها في ثلاثينيات القرن الماضي، إلى جانب استحضار اليابان لتاريخها الإمبراطوري، الذي يتجلى في خطاب رئيس وزرائها المتشدد، عندئذ تكون الخلطة جاهزة في أي لحظة، إذا لم يكن للتفجير فعلى الأقل للتوتير، الذي يهدد بتمدّد جبهة النزاعات إلى الشرق الأقصى، ومن جهة أخرى يوفر لواشنطن وضعية توظفها للتأكيد على دورها البارز في الإقليم.

Email