أقلعت الطائرة من مطار «حضرة شاه جلال» الدولي في دكا، عاصمة بنغلادش، متوجهة إلى منطقة كوكس بازار على بعد ساعة طيران في الاتجاه الجنوبي الشرقي لبنغلادش قريباً من الحدود مع ميانمار. على متن الطائرة جلس نحو 45 إعلامياً من 27 دولة تنتمي لخمس قارات، بصحبة عدد من مسؤولي وزارة الخارجية في بنغلادش.
وبعدما حطت الطائرة في مطار «كوكس بازار» أقلّت مجموعة من المركبات الوفد الإعلامي بحراسة من سيارات الشرطة. شقّت المركبات طريقاً تخترق حقولاً غنّاء وأشجاراً كثيفة ويانعة، في منطقة ساحرة الجمال، حيث أشجار جوز الهند الباسقة وشجر المنغروف يانع الخضرة. وتتخلل المشهد بيوت ريفية متواضعة، وعلى مرمى البصر جمال طبيعي أخّاذ.
بعد ساعة، انحرفت المركبات يميناً لتسير على شاطئ رملي ذهبي، وكان جمال البحر والساحل الممتد على طول 125 كيلو متراً مدهشاً للجميع، وزاد من جمال المشهد قوارب تتهادى على صفحة الماء بشكلها النادر، فيما يلقي صيادون شباكهم ليجود عليهم البحر من خيره الوفير.
المشهد انتهى «سريعاً»، والمركبات عادت لتنحرف يساراً نحو طريق ضيّق باتجاهين يخترق سهولاً خضراء وغابات كثيفة، وقرى صغيرة وادعة هنا وهناك، وأسواقاً بدائية تعج بالمتسوّقين.
وتراءى لنا أننا بدأنا نقترب من مخيمات لاجئي الروهينغا عندما بدأت تقاسمنا الطريق مركبات رباعية الدفع تحمل شعارات وأعلاماً لمنظمات تعنى بقضايا اللاجئين حول العالم. وبعد ساعتين من لحظة الانطلاق وصلنا إلى مشارف المخيمات. على تلة رملية وقف الجميع يرقبون أكواخاً مترامية على مجموعة من التلال، غالبيتها من الصفيح أو الخيزران، تبدو عليها علامات بؤس، وحياة تشبه اللاحياة في مشهد تجاوز ما خزّنته الأذهان من صور تناقلتها وكالات الأنباء على مدى الأعوام الماضية لبيوت من الصفيح والبؤس داخل مخيمات الروهينغا.
على مشارف المخيمات بدأت تتضح معالم المأساة.. أطفال حفاة عراة، ونساء بملابس رثة بالية، ورجال أنهكهم القهر وقلّة ذات اليد، وأكواخ منخفضة السقوف صغيرة الحجم اتخذها اللاجئون بيوتاً تقيهم حرارة الشمس وبرد الشتاء.
وعند وصول الوفود يسارع السكان إلى الخارج ليحكوا مأساتهم ويطالبوا العالم بالوقوف إلى جانبهم بعد المجازر الدموية، التي ارتكبها جيش ميانمار بحقهم، ليس لأمر سوى أنهم من دين أو عرق آخر، وليس لذنب اقترفوه، بل استضعافاً لهؤلاء واستقواء عليهم.
كنّا هناك
التقى الوفد ممثلين عن الروهينغا للوقوف على الحقيقة عن قرب والاستماع إلى المطالب. يقول محب الله من قرية رمامة التي تعرضت لمذبحة، إن ألفاً من أبناء قريته قتلوا على يد جيش ميانمار. ويضيف «نحن جزء أصيل من شعب ميانمار ولدينا انتماء قوي للوطن. قبل الاستعمار البريطاني كنّا هناك، ولدنا هناك وعشنا هناك، ولن نقبل إلا بالعودة». ويردف قائلاً: «نخدم في الجيش والشرطة ولدينا أعضاء في البرلمان، وهذا يؤكد انتماءنا لبلدنا»، مطالباً بالعودة للوطن ومنح الروهينغا حقوقهم وإمكانية التعبير عن رأيهم بحرية، وتقديم المتورّطين في المذابح إلى العدالة، مشيراً إلى أن مأساة الروهينغا لم تبدأ في 2017، بل إنهم يتعرضون للملاحقة والتضييق والقتل منذ العام 1947 حيث هجّر 3 ملايين منهم بسبب هذه الممارسات.
استقبل الوفد بالورود وحسن الضيافة في مركز الحكومة الإغاثي داخل مخيمات اللاجئين والمعروف بـ«ميغا كامب»، يقع على مرتفع يشرف على الكثير من المخيمات من الجهات الأربع.
يقول محمد ميزان الرحمن، مفوض الإغاثة والإعادة للاجئين في وزارة إدارة الكوارث والإغاثة، إن مليوناً ومئتي ألف لاجئ من الروهينغا يعيشون داخل المخيمات الـ34 التي تكون التجمع البشري الطارئ في كوتوبالونغ بمنطقة كوكس بازار، مضيفاً أن المخيم أصبح خامس أكبر مدينة من حيث عدد السكان في بنغلادش، حيث فر إلى المخيم أكثر من 700 ألف من الروهينغا خلال 3 شهور فقط في 2017، إثر المذابح الدموية التي قام بها جيش ميانمار. ويوضّح المسؤول الحكومي أن 392 قرية دمرت كلياً أو جزئياً خلال المذابح بحق الروهينغا، وراح ضحيتها أكثر من 7500 بريء. ويشدّد على أن حكومة بنغلادش تقف إلى جانب شعب تعرّض لمذبحة دموية، ولن يخذلهم أو يتخلّى عنهم، وأن بلاده لا تستجدي أحداً من أجل مساعدتها على تحمّل أعباء اللاجئين، بل هي تريد ضغوطاً دولية على ميانمار لإعادة هؤلاء إلى وطنهم.
ويشير إلى أعمال تطويرية تتم داخل المخيم بمساعدة الجيش، ويكشف عن وجود 1800 متطوّع من بنغلادش يعملون بلا كلل أو ملل داخل المخيمات لمساعدة إخوانهم من لاجئي ميانمار.
يؤكد ميزان الرحمن للوفد الإعلامي الذين كانت «البيان» ممثّلة فيهم، أنه لا نقاشات بشأن توطين الروهينغا في بنغلادش، باعتبار أنهم جزء أصيل من أبناء ميانمار ويجب أن يعودوا إليها، قائلاً: إن البلاد لا تحتمل المزيد من السكان، فبنغلادش ذات الكثافة السكانية عالية، يقطنها نحو 165 مليون شخص على مساحة تقل عن 150 ألف كيلو متر مربع.
يأسف ميزان الرحمن لعدم احترام حكومة ميانمار للاتفاق الموقع مع دكا بشأن إعادة اللاجئين، مؤكداً أنها لم توفر البيئة المناسبة لعودة هؤلاء، حيث إن منازلهم ما زالت مدمّرة ولا مأوى لهم، لذا فإنهم يرفضون العودة بأي ثمن، بل بالتأكيد على الحقوق وإعادة إعمار مناطقهم، مع ضمانات دولية بعدم التعرّض لهم.
عاش الإعلاميون يوماً طويلاً داخل المخيم عاينوا فيه عن قرب حياة البؤس وشظف العيش التي تحياها أقلية الروهينغا. وبعدما أرخى الليل سدوله، قفل الوفد عائداً إلى فندق في كوكس بازار ليطير في صباح اليوم التالي إلى العاصمة دكا مجدداً. ورغم انتهاء الزيارة إلا أن السؤال الذي لا يزال ماثلاً في الأذهان «إلى متى ستستمر مأساة الروهينغا؟ وهل سيصحو ضمير العالم ليقول كلمته بشأن هؤلاء المستضعفين؟».
27
ضم الوفد المكون من 45 إعلامياً، والذي زار بنغلادش ومخيمات الروهينغا طيفاً واسعاً من الجنسيات تجاوزت الـ27، توزعت على الدول التالية، الإمارات العربية المتحدة، سلطنة عمان، مملكة البحرين، مصر، الجزائر، اليونان، تركيا، ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، بلغاريا، الولايات المتحدة الأمريكية، البرازيل، الفلبين، هونغ كونغ، تايلاند، كوريا الجنوبية، اليابان، الهند، سريلانكا، بوتان، نيبال، قرغيزستان، أوزبكستان، جنوب أفريقيا، إثيوبيا ونيجيريا.