وأنت تقترب من نهر الفرات، ثاني أكبر نهر في العالم العربي، وأحد أهم المصادر المائية في سوريا والشرق الأوسط، تتوقع أنك على موعد مع روضات وغابات كحال أية مدينة على ضفاف النهر، خصوصاً وأنك تقترب من أطلال مدينة هارون الرشيد التي اختارها من بين كل مدن سوريا والعراق وهي مدينة الرقة.

كل ما تقرأه عن مدينة الرقة الجميلة ومن بعدها الطبقة التي كانت أحد أهم المدن السياحية في الرقة قبل اندلاع الحرب في سوريا، يزول ويتحطم مجرد أن ترى الصورة الجديدة التي خلفتها الحرب على مدن الماء الجميلة.

لكن الصدمة كانت تفوق التصورات المسبقة حول كل ما تقرأه في التاريخ عن مدينة هارون الرشيد أو كل ما تسمع عنه حول مدينة الطبقة من رونق الغابات والأشجار المترامية على ضفتي النهر قرب سد الفرات. فلا غابات ولا روضات سوى بقايا أشجار يابسة جفت من قلة الماء، أو بالأحرى قتلها تنظيم داعش السوداوي، إذ وجدنا أنفسنا أمام حالة ممنهجة من التصحر والتخريب في مدينة الطبقة، أشجار تموت عطشاً على ضفاف النهر قتلها تنظيم داعش بعد حرمانها من المياه القريبة، أشجار جرداء بينما نهر الفرات يمر من أمامها.. كان المشهد لا يصدق صحراء أمام الماء.. ووثقت «البيان» هذه المشاهد لتكون وثيقة تاريخية على أسوأ حقبة تمر في الجزيرة السورية.

«الطبقة» سابقاً

من يعرف مدينة الطبقة سابقاً، يصاب بالذهول وهو يرى حجم التصحر والسواد الذي سيطر عليها طوال عامين من سيطرة تنظيم داعش، فالطبقة تعتبر من أهم الغابات الحراجية في سوريا من الموارد الطبيعية المتجددة والتي تؤدي دوراً هاماً في الحد من التصحر وحماية الموارد المائية ومصدراً كبيراً للتنوع الحيوي وذات فائدة كبيرة للإنسان والحيوانات كونها المصدر الرئيسي والأساسي للأوكسجين، كما أنها تعتبر القاعدة الأساسية للسياحة.

ومن لا يعرف الطبقة، فهي أحد أهم المواقع السياحية في سوريا لتنوعها الحيوي حيث تمتلك ما يقارب /‏‏‏18157.5هكتاراً من الأراضي المزروعة منها /‏‏‏13888/‏‏‏هكتاراً من الحراج الصناعي و/‏‏‏1655/‏‏‏هكتاراً من الأشجار المثمرة و/‏‏‏2614.5/‏‏‏هكتاراً من الحراج الطبيعي ومنها مساحة /‏‏‏9000/‏‏‏هكتار تروى بالمحركات على النهر و/‏‏‏4890/‏‏‏هكتاراً تروى بالصهاريج ويبلغ عدد المواقع الحراجية /‏‏‏28/‏‏‏موقعاً وعدد الجزر /‏‏‏19/‏‏‏جزيرة مزروعة بعدد من أشجار الزينة وأشجار الصنوبر وأنواع أخرى من الأشجار المثمرة ويقارب عدد الأشجار حوالي مليونين ونصف شجرة.

ولكن هذه الثروة الطبيعية تعرضت للعديد من المشاكل خلال السبع سنوات الماضية من الحرق والقطع ومنها ما تعرض للقصف نتيجة الحرب التي دارت في المنطقة.

سألنا من هم أعلم بسلوكيات التنظيم في مدينة الطبقة لماذا تموت هذه الأشجار عطشاً بينما النهر على بعد أمتار.. وماذا فعل أهالي المدينة بعد زوال التنظيم!؟

أبو أنس، من مدينة الطبقة، وأحد العاملين سابقاً في المزارع الحراجية في الطبقة، يقول إن التنظيم كان يحاول أن ينشر التصحر في محيطه، حتى لا يكون مكشوفاً على الآخرين، وتشكل الأشجار المحيطة بنهر الفرات خطراً على التنظيم.

ويضيف أنه يبرر موت الأشجار عطشاً بقاعدة «الضرورات تبيح المحظورات»، مشيرا إلى أن التنظيم لديه القدرة على تطويع كل النصوص لصالحه، حتى القتل يستصدر له فتاوى خاصة.

ولم يكتف التنظيم بمنع الماء على الأشجار، بل ذهب إلى أبعد من ذلك وقام بقطع الأشجار الكبيرة وتحويل الأخشاب إلى دفاعات وحواجز على أطراف المدينة.. لتتحول المدينة إلى يباب في ظل «دولة الخلافة»!؟

وحتى اليوم يحاول المجلس المدني في الرقة إعادة الحياة إلى الغابات التي كانت تميز مدينة الطبقة المتربعة على ضفاف النهر، إلا أن ذلك يتطلب إمكانات عالية جداً من الناحية الزراعية فضلاً عن الخبرة.

ويقول أحد أعضاء المجلس المدني في الطبقة سابقاً عواس الخليل؛ كانت المهمة في البداية فالمدينة تحولت إلى صحراء قاحلة، فيما حطم التنظيم بعد خروجه كل البنية التحتية بما فيها تخريب مضخات سد الفرات، لكن بعد عودة الحياة إلى طبيعتها حاول الأهالي مع جهود المجلس إعادة اللون الأخضر إلى أطراف هذه المدينة.

ويؤكد خليل أن الأشجار التي ذهبت وقطعها التنظيم لن يستطيع أحد تعويضها بعد 15 عاما أخرى، ذلك أن الثروة الحراجية كانت على مدار 15 سنة سابقة.

حال مدينة الطبقة يندرج على كل المدن والقرى التي سيطر عليها التنظيم الإرهابي، ففي مدينة البوكمال التي تسمى بدرة الفرات ثمة خراب وغياب تام للأشجار ومن بين هذه الأشجار أشجار الرمان العريقة في قرية السوسة التي حولها التنظيم إلى ساحات قتال.

«البيان».. شاهد على العصر

من حسن حظ «البيان» أنها شهدت الأيام الأولى من تحرير مدينة الطبقة من تنظيم داعش وعاشت ما قبل ولادة أيام الحرية والانعتاق من تنظيم داعش، كما التقطت كيف عادت الحياة إلى شوارع هذه المدينة وكيف تحولت المدينة من اللون الأسود إلى ألوان الحياة الطبيعية.

في أول ساعات الليل تتحول المدينة إلى ساحة أشباح، فأنت لا ترى أضواء في المنازل بعد أن حطمها التنظيم، ولا ترى أي مظهر من مظاهر الحياة، الخوف يتسلل إلى نفسك وأنت تتجول مع بداية ساعات الليل.

وقد كانت شهادة «البيان»، جزءاً من تاريخ هذه المدينة الوادعة على نهر الفرات، وشهدت حالات التحول بين الطبقة بعد التحرير والطبقة اليوم التي تضج بالحياة وتستعيد شخصيتها أما اللون الأخضر فبدأ يتسلل إلى الغابات وإلى المنازل أيضا، فهناك فرق كبير بين عامين من تحرير الطبقة.

ينقل أبو علي أحد أصحاب المحال التجارية من مدينة الطبقة شكل الحياة وحالات التحول والتغيير التي طرأت على المدينة، وهو يبكي ابنه الذي قطع رأسه التنظيم، ويقول: لم تكن هناك حياة ولم نكن نعيش كما الآخرين، بالنسبة لي قطعوا رأس ابني وسط ساحة الطبقة بعد أن ألصقوا بهم تهمة الخيانة والعمل مع الفصائل المسلحة، إلا أن ابني الذي لم يتجاوز العشرين لم يعرف أبداً حمل السلاح وكانت الغاية من ذلك تخويف وترهيب الشباب في مدينة الطبقة وبالفعل كان الترهيب الصفة الأساسية في الحياة بمدينة الطبقة.

وبعدها؛ ظل أتباع التنظيم وهم يمرون من جانب محلاتي التجارية يرددون ويسمعونني بشكل واضح هذا الأب الفاسد الذي ربى المرتدين والخونة، كانت هذه الكلمات دائماً ما أسمعها.

ويضيف أبو علي، لن تتوقف الحياة رغم خسارة أحد أبنائي، لقد غادرنا اللون الأسود لون الظلام والظلم وعادت المدينة إلى حالها وبدأت تنتعش وتستعيد كل شيء، فاليوم لا خوف ولا رعب في المدينة بينما العدل بين الناس وحرية الحياة متاحة للجميع، مختتماً؛ هذه ربوة هارون الرشيد الذي اختارها من بين كل المدن.

 

اقرأ أيضاً:

ـــ الرقة.. مدينة من التاريخ