الأغوار الفلسطينية.. الحياة في حقل ألغام

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاحتلال كان غبيّاً.. الاحتلال ظل غبيّاً.. ظن أن كل شيء سيُحسم بالقوة.. جرّب ذلك عشرات المرات، وفشل.. لكنه لم يتعلّم، الفلسطينيون رفضوا وصفهم بمجرد ضحايا واكتشفوا مكامن قوتهم، اختاروا مقاومة الاحتلال وغبائه إذ لا يوفّر حتى الأطفال في الخيام.

في الأغوار الفلسطينية تهاوت أشباه البيوت أمام أعين الأطفال.. البيوت ظلّت وستظل في مخيلة هؤلاء، وسيعيدون بناءها ذات يوم.. هدموا البيت، وضاع النشيد.. طفل يجلس فوق الباب، من هنا اعتاد الدخول إلى البيت، لكن هذه المرة لن ينجح في الدخول.. هدموا البيت، والباب فقد وظيفته ومعناه.. أصبح مادة للعب!.

في الأغوار «تُروّد» الأم لطفلها: نم يا حبيبي.. نم واكبر على مهلك.. أمامنا أكثر من شتاء، ولك عندي ألف حكاية، الأطفال لا يفهمون كل هذا الغضب، لكنهم يحاولون أن يعيشوا كما تشتهي الطبيعة، على مقربة من مستوطنات «ميحولا» و«دوثان» و«شاكيد».

كيف أنقل لكم ما يحدث في الأغوار؟.. أحكي عن عيون أطفال تحدق في المجهول، وهم يجمعون مادة لهوهم مما تيسّر، أم عن عائلات تفترش الأرض، أو بعضها؟ أم عن عامود الخيمة الذي تحوّل إلى «أرجوحة» للصغار، أم أنقل لكم مشاهد الشموخ وراء حياة بدائية في البادية؟

«البيان» تجولت في الأغوار، فرصدت حكايات تلخّص واقع الحياة الصعبة، وتتبّعت الاستيطان و«التعطيش».. ووثقت الطبيعة والتنوع في المعاناة، على وقع حقول الألغام الأرضية، المحاطة بمناطق تدريبات ومناورات عسكرية، كان الأطفال في استقبالنا، ولسان حالهم يقول: صوِّروا واذهبوا.. صوِّروا سنبقى..

«جنّة».. و«ساحة حرب».

مناطق عسكرية

في الأغوار، يعيش الفلسطينيون في «جنّة»، لكنها تربض على مقربة من مساحات أعلنها الاحتلال مناطق عسكرية، زُرِعت بالألغام الأرضية، وتحاط بمناطق رماية مفتوحة، ولذا فالمواطنون يخشون الصعود إلى الجبال المحيطة، لما سمعوه من قصص لمزارعين ورعاة، فقدوا حياتهم نتيجة لهذه المغامرة.

محمد صوافطة يعتبر أن الأغوار جنّة فلسطين، وسلّتها الزراعية، لكن الاحتلال يسعى جاهداً كي يحيلها إلى مناطق قاحلة، فتحرمنا معسكرات الجيش من التمتع بجبال «جباريس» و«إبزيق»، أو التنزّه بحرية في سهولنا. يضيف لـ«البيان»: «الاحتلال ينهب سر قوتنا وحياتنا، فيجعلنا نلازم الجفاف على مدار العام، إذ إنه يتحكم بكل ما يروي حقولنا، ويدخل جوفنا، ومستوطناته تسرق مياهنا كما يحلو لها ».

ويوالي: المناطق هنا تخطف الأبصار، خصوصاً في فصل الربيع، لكنها أشبه بساحة حرب، والأهالي ممنوعون من البناء أو التوسّع، حتى المسجد هدموه أمام أعيننا، وكل شيء نبنيه، يُهدم بلمح البصر!

أراضٍ خضراء

مشهد المستوطنين المدجّجين بالحقد والكراهية والسلاح، يشي بأيام سوداء، ستحلق بالمزارعين ورعاة المواشي في الأغوار، بعد سيطرتهم على المراعي والحقول، وطرد أصحابها الشرعيين، وقد أصبح هؤلاء «الرعاع» يزاحمون «الرعاة» على مهنة رعي المواشي، باحتلال السفوح والجبال.

تروي التجاعيد الغائرة في وجه الحاجة أم أحمد حكايات تمسّك أهالي الأغوار بأراضيهم، وإصرارهم على البقاء متشبثين بأرضهم، رغم مرارة وقساوة العيش، مؤكدة أنها وعائلتها، علاوةً على مواجهة برد الشتاء فإنهم يواجهون الاعتداءات المتكررة لجيش الاحتلال وقطعان المستوطنين، التي «تزيد الطين بلّة» كما تقول.

توضّح لـ«البيان» وقد انهمكت بجسدها الهزيل في شدّ حبال خيمتها التي كانت تذروها الرياح ذات اليمين وذات الشمال، وتكاد تقتلعها: المستوطنون يهدمون خيامنا وأحلامنا، فغالباً ما نصحو على صراخهم، وهدير جرافاتهم، محاولين ترحيلنا، ولكن «إحنا ويّاهم والزمن طويل».

ويعكس حال عائلة أم أحمد في قرية فصايل، ما تكابده العائلات الفلسطينية في الأغوار، من محاولات الاحتلال، اقتلاع الأهالي وترحيلهم، تمهيداً للاستيلاء عليه، وضمّها للمستوطنات، فهناك العديد من العائلات المهددة بهدم مساكنها، ومصادرة أراضيها، ويجسّدون صموداً أسطورياً، يطابق حكاية «الكفّ والمخرز».

تهجير قسري

في ميدان معاناة ثانٍ، كانت الطفلة رجاء (12 عاماً)، تحاول عبثاً كفّ شقيقتها الصغيرة عن البكاء، وهي تهيم بها على وجهها إلى عالم المجهول، بعد أن هدم الاحتلال مسكنها الوحيد في قرية الفارسية، ليلقي بها الاحتلال مع أربعة أشقاء، إلى العراء.

رجاء، بدت متماسكة رغم صغر سنها، وأظهرت ابتسامة خجولة وهي تضم شقيقتها إلى صدرها كما لو كانت أمها، فيما البرد كان «ينخر عظامها» وكانت تجلس على أنقاض منزلها، محاولة استراق بعض الدفء، كلما ظهرت الشمس من بين الغيوم المبلدة، وكل ما كانت ترجوه، بيت يقيها وعائلتها برد الشتاء القارس.

رفضت رجاء الحديث إلينا، وإن كان في عينيها ألف سؤال وسؤال، تعلم علم اليقين، أنْ لا إجابات شافية لها، في ظل إنسانية ألقت بها قوات الاحتلال في مزابل التاريخ، لكن من المؤكد أنها تعلم بجواب واحد، وهو أن هذا الاحتلال كاره لكل ما هو فلسطيني، ولن يهدأ له بال، قبل تهجير أهالي الأغوار، ممن لا سلاح لديهم، إلا سلاح البقاء.

تأخذك عيناك في قرية إمريحة، إلى مساكن بدائية، أنهكتها اعتداءات الاحتلال، وأراضٍ تنهشها مستوطنات «حرميش» و«شاكيد» و«دوثان» و«ريحان» من جهاتها وفصولها الأربع، لتحيلها إلى منطقة منكوبة، بعد أن أحكمت قوات الاحتلال عزلها عن محيطها، وزرعت حدودها بالألغام.

علاوةً على ذلك، تقيم قوات الاحتلال ثلاثة أبراج مراقبة عسكرية، لتقليص المراعي، والحد من أي مشاريع تنموية قد يبادر إليها الأهالي، لتحسين ظروف معيشتهم، حيث يعتمدون على الزراعة وتربية المواشي، لكن المستوطنات التي تحيط بها كالسوار بالمعصم، تأكل الأخضر واليابس وتدفع بالمواطنين إلى حياة الجحيم.

حقول ألغام

الزائر لمناطق الأغوار الفلسطينية يشعر بأنه في ثكنة عسكرية، فالمناطق المزروعة بالألغام، قريبة جداً من المنازل، كما في منطقة واد المالح، التي حول الاحتلال أكثر من 70 في المئة من أراضيها إلى حقول ألغام ومناطق مناورات ورماية عسكرية، في وقت تسيطر قوات الاحتلال على عيون الماء المنتشرة فيها، وتيحلها إلى مستوطنتي «ميحولا» و«مسكيوت».

حقول الألغام هذه تشكل خطراً حقيقياً على حياة الأهالي، لا سيما أن قوات الاحتلال لا تلتزم بأية قوانين أو أعراف دولية، من تلك التي تحظر عسكرة المناطق السكنية والزراعية، وتحويلها إلى مناطق ملغومة.

وبحسب الباحث في شؤون الاستيطان، عارف دراغمة، فإن ما يجري في مناطق الأغوار من استيطان وتهويد يتعدى البناء والتوسع الاستعماري، إذ ينهب الثروة الوطنية وسلّة فلسطين الزراعية، ويجسّد ما بات يُعرف بالاستيطان الاقتصادي .

مناورات عسكرية

التدريبات التي تجريها قوات الاحتلال بالذخيرة الحية في الأغوار تتسبب بتدمير مساحات واسعة من الأراضي الزراعية التي تئن تحت الدبابات المصفحة والمجنزرات الضخمة ، في وقت تحبس فيه هذه المناورات، أنفاس ساكني المناطق القريبة، لا سيما أن منازلهم في غالبيتها مكونة من الصفيح وبينها بيوت شعر، الأمر الذي يخالف القانون الدولي، وينتهك الحقوق الإنسانية للأهالي، ويعرض حياتهم للخطر!

ويوضح مسؤول ملف الاستيطان في محافظة الأغوار معتز بشارات لـ «البيان» أن قوات الاحتلال تجبر في أحيان كثيرة المواطنين على مغادرة مساكنهم، بحجة إجراء مناورات عسكرية، ومن يرفض المغادرة يتعرض للضرب ويكون عرضة للاعتقال.

التعطيش.. سياسة الاحتلال لخنق الفلسطينيين

في الأغوار، تسيطر قوات الاحتلال على كافة المصبّات المائية، وبرك تجميع المياه بشكل كامل، وتحرم الأهالي الذين يعتمدون على الزراعة والثروة الحيوانية بشكل أساسي، من الاستفادة منها، ما أدى إلى جفاف مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، وتلف العديد من المزروعات، وإلحاق خسائر فادحة بالمزارعين.

وحتى ينابيع المياه الصغيرة، عندما يحاول الفلسطينيون استخدامها، تعمد سلطات الاحتلال إلى اقتلاع الأنابيب البلاستيكية الممدودة إليها، وتحبط مساعيهم في سحب المياه، حتى لو كان ذلك بكميات قليلة، بل إنها ردمت العديد من هذه الينابيع وعيون الماء، للحيلولة دون استفادة المزارعين منها، كما جففت العديد من آبار المياه، وأقامت جدراناً استنادية حول أخرى، لسحب مياهها إلى المستوطنات المحيطة، الأمر الذي يحرم الفلسطينيين حتى من مياه الشرب.

وفي بعض المناطق، يضطر الأهالي إلى المشي على الأقدام لعدة كيلومترات، للحصول على بضعة أكواب من الماء، كما هو عليه الحال في مناطق عين البيضاء وبردلا ووادي المالح، ويتكبد المواطنون جراء ذلك مبالغ مالية كثمن لأكواب الماء وتكاليف نقلها، وفي أحيان كثيرة لا يكتب لهذه المحاولات النجاح، إذ تعمد قوات الاحتلال إلى مصادرة صهاريج المياه، أو فرض الضرائب على السيارات الناقلة للماء!

حقول ألغام

ورغم أن منطقة وادي المالح، تعدّ من أكثر مناطق الأغوار خصوبة ووفرة في الماء، إذ تقع على ثاني أكبر حوض مياه في مناطق الضفة الغربية، وتتميز بعيون الماء الدافئة والحارّة، الأكثر ملاءمة للمناطق الزراعية والرعوية، إلا أن أهلها يغامرون بحياتهم، ويتسللون من بين حقول الألغام، للحصول على كميات قليلة من الماء، لا تكاد تكفي للشرب، أو رعي المزروعات، أو سقيا المواشي، لكنهم مصرّون على البقاء في أراضيهم، وعدم إفساح المجال لقوات الاحتلال بالسيطرة عليها.

ولأن منطقة وادي المالح، تحاكي في طبيعتها الجنوب اللبناني، فإن قوات الاحتلال تتخذ منها مكاناً استراتيجياً لإجراء مناوراتها وتدريباتها العسكرية، علماً بأن هذه المنطقة، تشكل ثلثي مساحة أراضي الأغوار، وتضم نحو 13 خربة وقرية صغيرة، وطبقاً لاتفاقية أوسلو تُصنّف الأغوار الفلسطينية ضمن المناطق «ج».

نكبة جديدة

ليس فقط الخان الأحمر يتعرض للتهجير والتهويد، فالرأس الأحمر في الأغوار الفلسطينية، يتعرض أيضاً لنكبة تتجدد كل يوم، فيعيد مشهد العائلات الفلسطينية وهي تهجر مساكنها، حاملة ما تيسر من فراش ومتاع، هرباً من الألغام الأرضية التي باتت تتهدد حياتها، مشاهد تهجير الآباء والأجداد، إبّان النكبة الفلسطينية العام 1948.

مناوراتوأجبرت مناورات الاحتلال المستمرة في منطــــقة الرأس الأحمر، وقراراته العسكرية بإخلاء المنطقة، المواطنين على الرحيل إلى مناطق أكثر أمناً، وقد حملوا معهم القليل من الطعام والشراب، وبعض ما يقيهم برد الشتاء والتقلّبات الجوية.

وكانت يدا العجوز أبو محمد ترتجفان من البرد، وهو يحاول تثبيت خيمة جديدة، متخذاً تدابير بدائية، لمنع دخول مياه الأمطار إليها، فيما راح أحفاده الصغار، يشعلون النار فيما تيسر من حطب، طلباً للدفء.

حطب ونار

أبان أبو محمـد، وقد اعتمر كوفية حمراء، غطّت ملامح وجهه، في مواجهة البرد الشديد: «الحطب والنار هما الوسيلة الوحيدة للطهي والتدفئة، فلا يوجد لدينا غاز، ولم تصلنا الكهرباء بعد»، وأضاف أن جميع السكان يعانون من ظروف معيشية سيئة ، لا ماء، لا كهرباء، لا غاز وسلطات الاحتلال تواصل انتهاكاتها لاجبارنا على الرضوخ لمطالبها بهدف تهجيرنا عن منطقتنا.

Email