واشنطن وأنقرة.. هل اقتربت العلاقات من «نقطة اللاعودة» ؟

ترامب وأردوغان | أرشيفية

ت + ت - الحجم الطبيعي

«صفقة صواريخ إس-400 محسومة ونشرها أكتوبر المقبل» هذا ما أكدته تركيا رسمياً، في وقتٍ تسعى فيه واشنطن إلى إثنائها عن تلك الصفقة التي تمثل في تصور الولايات المتحدة تهديداً لطائراتها في تلك المنطقة، وتُعارض حيازة تركيا أنظمة دفاع جوية روسية وأمريكية معاً، في الوقت الذي يرى فيه الناتو - الذي تعد تركيا ثاني قوة عسكرية فيه - أن ذلك قد يمثل تعارضاً لمصالحه وأسراره، على أساس أن تركيا ستلجأ للتعاون العسكري والتدريب المشترك مع القوات الروسيّة، وذلك من شأنه أن يؤدي إلى تسريب معلومات عسكرية لموسكو.

وفيما هددت الولايات المتحدة الأمريكية بفرض عقوبات على تركيا حال امتلاكها ونشرها منظومة إس-400، فإن تلك الأزمة تفتح سيناريوهات مختلفة قد تشعل توتراً جديداً بين البلدين بعد تجاوز التوتر القريب الذي ارتبط بمسألة القس الأمريكي أندرو برانسون، يضاف ذلك التوتر أيضاً إلى مجموعة الملفات الخلافية بين البلدين.

بالعودة قليلاً إلى الوراء وتحديداً إبان أزمة القس الأمريكي أندرو برانسون قبل نحو ثمانية أشهر تقريباً، حينما وصلت العلاقات الأمريكية التركية إلى ارتدادة غير مسبوقة صاحبها تراشقٌ واسعٌ بين الجانبين قبل أن تطلق أنقرة سراحه، ومن ثمّ تعود الليرة التركية إلى الاستقرار، وتعود أيضاً العلاقات إلى مجاريها بين البلدين الحليفين بحلف شمال الأطلسي «الناتو»، ويصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نظيره التركي رجب طيب أردوغان بـ«الرجل القوي والذكي» و«الصديق» مثمناً «العلاقات الجيدة جداً» على حد تعبيره في تصريحات تالية للصحافيين بالبيت الأبيض 17 نوفمبر الماضي، تكشف تلك العودة في حينها عن تفاهمات تركيّة أمريكية جديدة بعد تجاوز عقبة أزمة القس وما صاحبها آنذاك من عقوبات فرضتها واشنطن على مسؤولين أتراك والقرارات الأمريكية التصعيدية الأخرى.

لكنَّ الصورة بشكلٍ عام لا تبدو علاقات صداقة مثالية كما كانت في السابق على هذا النحو الذي تُصوره تصريحات ترامب وحديثه الناعم عن أردوغان بعد سلسلة من التصريحات الخشنة والهجومية ضد تركيا إبان أزمة القس؛ فثمة ملفات خلافية أوسع تجمع بين البلدين تنعكس بدورها على ملفات وقضايا بعينها في منطقة الشرق الأوسط، إضافة إلى تأثيرها على العلاقات الثنائية، فضلاً عن تداعياتها على دور البلدين بحلف الناتو.

ملفات خلافية

وما التوتر المُشتعل بين الجانبين (الولايات المتحدة وتركيا) مؤخراً على خلفية صفقة صواريخ إس- 400 الروسية التي أبرمتها تركيا مع روسيا ربما عوضاً عن منظومة «باتريوت» الأمريكية، إلا حلقة ضمن حلقات خلافية أخرى بين البلدين في خطٍ متوازٍ مع بعض التوافقات بينهما؛ من أبرز تلك الملفات الخلافية - بخلاف التوتر الحادث بشأن منظومة الصواريخ - الموقف من إيران على سبيل المثال، وكذا الموقف من الأكراد شرق سوريا، ذلك بالإضافة أيضاً إلى قضية فتح الله غولن.

وكان وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، في تصريحات له منتصف شهر فبراير، قد اعتبر أن وحدات حماية الشعب «ب ي د» تعتبر أكبر عائق أمام العلاقات بين البلدين.

وتضاف السياسة التركية في المنطقة أيضاً إلى تلك الملفات الخلافية التي تُنذر بـ«الطلاق بين البلدين» على حد تعبير المجلس الأوروبي في تقرير له يناير الماضي، وهي السياسة التي قد لا تروق في بعض تفاصيلها المفصلية للولايات المتحدة، دليل ذلك أن مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية دان كوتس، قد أكد خلال كلمته بجلسة استماع في لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ الأمريكي شهر يناير الماضي، على أن «السلطات التركية تحاول تحدي الولايات المتحدة في المنطقة (...) العلاقات بين البلدين تزداد صعوبة»، مشيراً إلى أن «تركيا تمر بتحول في هويتها السياسية والقومية (..) طموحاتها الإقليمية وعدم ثقتها بالولايات المتحدة، بالإضافة إلى ارتفاع مستوى تسلط زعمائها يزيد من صعوبة العلاقات الثنائية خلال السنوات الخمس المقبلة».

وقد جاءت أزمة صواريخ إس-400 كتعبير عملي مفجر لتلك الخلافات العديدة، في الوقت الذي يعتقد بعض المحللين السياسيين بأن نقاط التلاقي والاتفاق بين الجانبين أعمق، من منطلق وحدة الهدف، لكنّ أدوات التنفيذ مختلفة.

منظومة إس- 400

فيما يتعلق بأزمة منظومة إس-400 الروسية ابتداءً، باعتبارها مفجّرة للخلافات بين البلدين أخيراً وبشكل واضح، يقول المحلل السياسي الأمريكي عضو التحالف الأمريكي الشرق أوسطي آشلي أنصارا، في حديثه مع «البيان» عبر الهاتف من واشنطن، إن صفقة منظومة إس- 400 الروسية التي أبرمتها تركيا مع موسكو هي صفقة قديمة يتجدد اللغط بشأنها في ظل تلويح الولايات المتحدة الأمريكية بفرض عقوبات على تركيا، على اعتبار أن تلك الصفقة «لم تكن محل رضا من واشنطن، في الوقت الذي أراد فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان إتمام تلك الصفقة بشروط خاصة، من بينها فرصة تصنيع بعض المعدات اللازمة للمنظومة، فيما عارض الرئيس دونالد ترامب تلك الصفقة وأيضاً وزارة الدفاع الأمريكية التي كان لها موقف مشابه.

وفي ضوء ذلك - بحسب أنصارا - فإن توتراً جديداً يلوح في الأفق بين الولايات المتحدة وتركيا، يعيد للأذهان الأزمة القريبة المرتبطة بقضية القس التي شكلت زخماً واسعاً على الساحة الدولية قبل شهور، والتي حُسمت في النهاية وعادت المياه لمجاريها بين البلدين بعد إفراج تركيا عنه.

وفي تصور أشلي فإن الولايات المتحدة ستتخذ من جانبها موقفاً صارماً في مواجهة تلك الصفقة، في الوقت الذي تجد فيه تركيا نفسها أمام رغبة لا رجعة فيها في استكمال الصفقة ونشر إس-400 على أساس أنه لا أحد يستطيع أن يجبرها على اتخاذ قرار مغاير عن رغباتها، بينما تريد في الوقت ذاته إرضاء الناتو.

وبحسب تقدير خبير العلاقات الدولية بالقاهرة طارق البرديسي للموقف بشأن التوتر الحادث بين البلدين أن الناتو حريص على أن تبقى تركيا قوة كبيرة، على أساس أن الجيش التركي يعتبر ثاني قوة عسكرية بالحلف، وبالتالي فإن الناتو وبقية أعضائه (بخلاف الولايات المتحدة) معنيون ويهمهم جداً بقاء تركيا في ذلك الملف، ويغضون الطرف عن أي تصرفات تركية بعكس حال سياسة الولايات المتحدة الأمريكية التي تعارض بشدة صفقة إس-400 وتنظر إليها باعتبارها تعارضاً في المنظومات الدفاعية والعلاقات في إطار حلف الناتو، وهو تعارض طبقاً للبرديسي لا يمكن أن تقبله واشنطن تحت أي ظرف.

ويضيف لـ«البيان»: لهذا السبب «أتصور أن تكون هناك أزمة كبيرة بين البلدين؛ لأن واشنطن تريد أن تبقى تركيا عضواً في حلف شمال الأطلسي وأن تلتزم بأطره الخاصة، وأن تحصل في إطار ذلك على باتريوت وإف 35 من واشنطن، وتبتعد تماماً عن المنظومة التي أعلنت تركيا عن نشرها في أكتوبر المقبل».

لكنّ خبير العلاقات الدولية يتوقع في الوقت ذاته إمكانية أن تلجأ تركيا - بعد قليل من التصعيد من جانبها والتمسك بإصرارها على نشر منظومة إس-400 الروسية في أكتوبر المقبل - إلى حل ثالث يمكن أن يحل المشكلة، على غرار أن تقوم - بالاتفاق مع موسكو - على بيع إس- 400 إلى دولة أخرى، وذلك قبل أن يدفع التوتر والتصعيد الحادثان العلاقات بين البلدين إلى حافة الهاوية، وبالتالي قد تضطر تركيا إلى المراوغة.

إيران.. ورقة مساومة

جانبٌ آخر من الملفات الخلافية بين البلدين يمكن الإشارة إليه بالنظر إلى العلاقات التركية الأمريكية «التي هي علاقات قديمة لكنّها في الوقت ذاته لم تخل من بعض التوترات في أوقات مختلفة، عادة ما يتم احتواؤها لوجود إطار واضح للعلاقات الاقتصادية والأمنية بينهما ولكونهما عضوين بحلف الناتو»، هذا ما يؤكده المدير التنفيذي للمركز العربي للبحوث والدراسات هاني سليمان، الذي يتحدث في تحليله لـ«البيان» لواقع العلاقات الأمريكية التركية، عن جانب مُحدد من جوانب التوتر بين الجانبين، وهو ما يتعلق بالموقف من إيران، باعتباره أحد الملفات التي تثير من حين لآخر توتراً بين البلدين؛ ذلك أن تركيا تعتقد بأن ثمة توافقاً في المصالح بأكثر من ملف مع إيران، يظهر ذلك في التنسيق الذي يتم بينهما في الملف السوري (حتى وإن اختلفا في الأهداف والمواقف من الحكومة السورية)، وكذا موقفهما الداعم لقطر، والتنسيق الكائن بين تركيا وإيران في أمور عدة أخرى، ربما لم تحظ بطبيعة الحال بقبول أمريكي، على أساس أن «تركيا تنظر لإيران على أنها حليف استراتيجي ربما يتم استخدامه لترجيح الكفة في مواجهة الولايات المتحدة».

وتركيا هي واحدة من ثماني دول معفاة من العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية على إيران.

وبحسب سليمان فإن العلاقات التركية الإيرانية التي تتسم بعدم التطابق الفعلي أو العداء الواضح هي «علاقات مرحلية ومهمة بالنسبة لأنقرة التي ترغب في استثمار تلك العلاقات في مواجهة وجهة النظر الأمريكية في الملف السوري، وتحديداً ملف الأكراد، وملفات أخرى مثل مواجهة الدول الداعية لمكافحة الإرهاب وبمواجهة دول مقاطعة قطر (الرباعي العربي)، على اعتبار أن مصالح البلدين (تركيا وإيران) متقاربة في الإقليم، ومن ضمنها مواجهة الولايات المتحدة.

ذلك علاوة على الاستفادة الاقتصادية التي تجنيها تركيا، بخاصة أن تقارير تحدثت عن ضلوعها في الاستفادة من النفط الإيراني بشكل غير مباشر.

لكن وفي قراءة مختلفة لطبيعة العلاقات على المستوى الثنائي، فإن تركيا - في تصور خبير العلاقات الدولية بالقاهرة الدكتور أيمن سمير - هي دولة «وظيفية» منذ خمسينات القرن الماضي، تُستخدم لتحقيق الأهداف الأمريكية في الشرق الأوسط ضد الدول العربية تحديداً، أو في مواجهة النفوذ السوفييتي أثناء الحرب الباردة، ومن ثمّ فإن الخلاف بين البلدين هو خلاف ظاهري، تحاول الولايات المتحدة استثماره لتحقيق أهدافها في العالم العربي أو في مواجهة روسيا.

وبموازاة ذلك هناك خلاف حقيقي بين تركيا وروسيا، فعلى مدار التاريخ كانت هناك قرابة 17 حرباً بين الجانبين (روسيا وتركيا) انتصر فيها جميعاً الروس، وبالتالي هناك عقدة تركيّة بشكل خاص من الروس حتى لو تعاونت معهم في ملفات مختلفة مثل الملف السوري.

الأكراد

شكّل الموقف من الأكراد شرق سوريا حلقة ضمن حلقات خلافية أخرى بين الولايات المتحدة الأميركية وتركيا، ويقول الباحث الكردي في ميونخ إبراهيم كابان، في حديثه مع «البيان» عبر الهاتف، إن الولايات المتحدة وجدت في الأكراد الجادين الوحيدين في مقارعة داعش؛ لذا تحالفت معهم وحشدت التحالف الدولي على هذا الأساس.

بينما تركيا لديها أهداف عنصرية ليس لها علاقة بأمن المنطقة، وهذه المصالح مختلفة مع المصالح الأمريكية وكذلك الدول المتحالفة مع أمريكا.

وتركيا - وفق كابان - تفكر صراحة باحتلال أجزاء من سوريا والعراق، وهو ما ترفضه الدول العربية، لهذا فإن التقارب الأمريكي من الأكراد يؤمن لهم تواجداً استراتيجياً في سوريا والعراق.. بينما الأتراك من أجل محاربة الأكراد تعاونوا مع الروس وكسروا حاجز حلف الناتو حول الروس حتى تمددت المصالح الروسية إلى سوريا وكذلك البحر المتوسط.

صفقة إس ـــ 400.. عواقب وخيمة

أثارت صفقة منظومة إس-400 الدفاعية الروسية، التي أبرمتها تركيا مع روسيا في وقت سابق ومن المقرر أن تتسلمها أنقرة الصيف المقبل على أن تنشرها في أكتوبر، ردود أفعال واسعة، أبرزها الاستنكار الأمريكي المصحوب بتهديدات بفرض عقوبات، وكذا موقف حلف شمال الأطلسي (الناتو) الرافض لشراء تركيا تلك المنظومة، في الوقت الذي تبدي فيه أنقرة تمسكاً بالمضي قدماً في الصفقة، فيما لا تعير روسيا انتباهاً لـ«تعليقات الأطراف الأخرى» وترى أن الأمور تتم بسلاسة.

وأعلن الكونغرس الأمريكي، في وقت سابق، عن أنه بصدد تعليق توريد مقاتلات إف 35 لتركيا بسبب خطط الأخيرة الحصول على إس-400 الروسية. كما هددت وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون تركيا بـ«عواقب وخيمة» إذا لم تتخل من جانبها عن شراء إس-400، وذلك بحسب ما نقلته مؤخراً صحيفة «ديفينس نيوز» عن الناطق باسم «بنتاغون» تشارلي سامرز.

وفي فبراير الماضي، وقع الرئيس الأميركي دونالد ترامب مشروع قانون للإنفاق يمنع تسليم تركيا الجيل الجديد من مقاتلات «إف-35»، وهو المشروع الذي عده محللون رداً على صفقة صواريخ (إس- 400)، بينما حلف شمال الأطلسي (الناتو) قد حذر تركيا من شراء صواريخ إس-400، وذلك في تصريحات نقلتها شبكة CNN عن قائد القيادة الأوروبية الأمريكية للحلف كريس سكاباروتي، والذي نصح الولايات المتحدة الأمريكية بألا تورد مقاتلات إف 35 لتركيا حال إصرارها على المضي قدماً في صفقة شراء منظومة إس- 400 الدفاعية الروسية، وذلك على أساس أن تلك المنظومة «لا يمكن أن تعمل مع المنظومات الموجودة لدى الحلف ولا في منطقة الدفاع الجوي التابعة له».

بموازاة ذلك تُبدي تركيا من جانبها تمسكاً واسعاً بمنظومة الصواريخ الدفاعية الروسية، وأعلنت مؤخراً عن نشرها في أكتوبر المقبل، حتى إن وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو قد وجه انتقادات لحلفاء بلاده في الناتو بسبب موقفهم، وقال في كلمة له يوم 6 مارس أثناء افتتاح مركز تواصل انتخابي لحزب العدالة والتنمية في ولاية باليكثير غربي تركيا، إن بلاده سعت لسنوات من أجل الحصول على منظومة مماثلة لمنظومة إس-400 من حلفائها، لكن تم وضع عراقيل أمام ذلك، والآن ينزعج هؤلاء الحلفاء من تلك الصفقة، ووجه حديثهم لهم قائلاً: «يجب ألا تدخلوا»، كما أشار إلى أن دولاً من دول الحلف لديها منظمة إس-300.

وبخصوص التهديدات التركية أفاد وصفها الوزير التركي بأنها «غير مقبولة» ومن غير المقبول أن تفرض واشنطن قراراتها على تركيا، فهي دولة مستقلة وتتخذ قرارتها دون إملاء من أحد.

أما روسيا من جانبها، فلا تُعير أية أهمية لتلك التهديدات الأمريكية، وهو ما بدا واضحاً في تصريحات مدير التعاون الدولي بـ«روستك» الروسية الحكومية (التي تصنع منظومة إس-400 الصاروخية) فيكتور كلادوف، الذي قال إن موسكو غير مهتمة بـ«اعتراضات الآخرين». وأمام تلك المواقف، تظل السيناريوهات مفتوحة بشأن العلاقات الثنائية بين البلدين.

Email