«ماذا يعني عالمٌ وحيد القطبية؟ بصرف النظر عن محاولاتنا تجميل تلك العبارة، فإنها تعني العالم الذي يرتكز وجوده على قوة واحدة تتحكم فيه.. تعني أيضاً عالماً له سيد واحد.. الولايات المتحدة الأمريكية ما إن خرجت من صراعٍ إلا ودخلت صراعاً آخر، من دون تحقيق أي حل شامل لأي منها».. تلك الصيحة التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال مؤتمر ميونخ للأمن في 10 فبراير 2007، مثّلت بداية تحوّل كبير في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، ربما كتبت نهاية التفاهمات بين الطرفين، تلك التي استمرت مُنذ نهاية الحرب الباردة في أواخر الحقبة السوفييتية، مروراً بتفكك الاتحاد السوفييتي، وحتى دعوة بوتين لعالمٍ متعدد الأقطاب، وهي الدعوة التي تلتها أدوار روسية متصاعدة على مدار العقد الماضي بشكل خاص، أعادت تدريجياً أجواء الحرب الباردة، على وقع تخوف واشنطن من صيغة تعدّدية، تشكّل تهديداً للنظام أحادي القطب.
عقب تفكك الاتحاد السوفييتي، وتحوّل العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا إلى ما يشبه الشراكة الاستراتيجية، في عهد الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين، ساد اعتقادٌ بانتهاء زمن الحرب الباردة بين البلدين بطي صفحة الاتحاد، في خطٍ متوازٍ مع تفاهمات أمريكية روسية منذ عهد يلتسن، إلا أنه خلال الأعوام الـ 12 الماضية، وتحديداً منذ خطاب بوتين الشهير بمؤتمر ميونخ، ومروراً بالعديد من التطورات الفاصلة التي ليست أولها الأزمة الأوكرانية، ولا آخرها صراع النفوذ في الشرق الأوسط أو أمريكا اللاتينية، عادت أجواء الحرب الباردة، لتغلّف العلاقة بين البلدين من جديد، وهي العلاقة التي يصبغها تنافس استراتيجي ساخن على المستويات كافة.
وصول ترامب
ما زاد توتر العلاقات، وصول دونالد ترامب إلى سدة الحكم في البيت الأبيض، فرغم الرسائل التي ساقها بخصوص علاقته بالروس، ووصفه الرئيس بوتين بأنه «زعيم قوي»، وثنائه عليه خلال فترة الدعاية الانتخابية، إلا أنه سريعاً ما انحرف مسار العلاقات.
ورغم الرسائل الإيجابية التي حرص الرئيسان على أن يبعثا بها خلال وبعد قمة هلسنكي التاريخية في يوليو 2018، والتي دفعت محلّلين للقول بعدها، إن «ترامب صار في جيب بوتين»، تسير الأمور في طريق مغاير تماماً، فموسكو العائدة لفرض نفسها كقوة عظمى مؤثرة وفاعلة إقليمياً ودولياً، تهدف لتأمين مصالحها وأمنها القومي، بينما واشنطن ترفض أن تزاحمها أي من القوى الدولية، وتنظر بعين الريبة للعودة الروسية التي تهدد بكسر الهيمنة الأمريكية.
سعي روسيا لتأمين مصالحها عجَّلَ بعودة الحرب الباردة، حيث صارت العلاقات بينهما «في أدنى مستوياتها»، بحسب أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة د. نورهان الشيخ، التي ذكرت في كتابها (العلاقات الروسية الأمريكية.. من الحرب الباردة إلى السلام البارد)، الصادر عن المكتب العربي للمعارف أكتوبر الماضي، أن «مسار العلاقات بين البلدين منذ تولي ترامب السلطة، والوثائق المختلفة الصادرة عن البيت الأبيض والبنتاغون، تؤكد أن التوتّر بين الجانبين ليس من قبيل الخلافات العابرة، وإنما تناقضات جوهرية وهيكلية، يصعب تجاوزها في المدى المنظور.
وبالنظر إلى القراءة التي تتبناها د. نورهان الشيخ، بخصوص العلاقات الأمريكية الروسية، فإنها توجز التناقضات الجوهرية في ثلاثة محاور رئيسة، تُعبر عن تلك التناقضات، وتمثل مسرحاً للمواجهة بين البلدين، وهي (التنافس الاستراتيجي وصراع المكانة بين واشنطن وموسكو، والتناقض بشأن القضايا الإقليمية، والتنافس في سوق الطاقة العالمية).
وقد جاءت اتهامات التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، وكذلك حزم العقوبات الأمريكية على روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية، وقضية سكريبال في بريطانيا، والملف النووي الإيراني، وملفات كوريا الشمالية وسوريا، وأمريكا اللاتينية والأزمة في فنزويلا، مؤشرات لعودة أجواء الحرب الباردة.
ترامب وبوتين
الولايات المتحدة كانت تنظر لروسيا، حتى بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، كدولة كبيرة المساحة، وذات تكنولوجيا نووية وصاروخية. ثم أعطى وصول بوتين للحكم في 2000، فرصة لإعادة ترتيب القوة الروسية، حيث استطاع إنهاء الحرب الشيشانية في 2007، وأصبح الاقتصاد الروسي أقوى، ثم اجتاح الجيش الروسي جورجيا، بسبب أزمة أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. حينها بدأت الولايات المتحدة تغيّر من نظرتها العامة لروسيا. وعندما بدأت شرارة «الربيع العربي» ومعها قضية القرم أصبحت المواجهة الأمريكية الروسية أكثر سخونة.
ووفق قراءة الباحث والمحاضر بجامعة «نيجني نوفغورود» الروسية الحكومية د.عمرو الديب- فإن الإدارة الأمريكية تقف أمام قوة لديها أحلام عودة الإمبراطورية، حيث تأتي التحركات الروسية التي رأيناها في سوريا وليبيا وأوكرانيا، بشكل موازٍ مع تجديد الترسانة النووية والقوة الصاروخية الروسية، حتى وصل الأمر للانسحاب الأمريكي من معاهدة الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى.
ويقول الديب لـ «البيان» عبر الهاتف من موسكو، إن هذا الاهتمام الأمريكي نراه في العقوبات الاقتصادية على روسيا، وفي الحرب الإعلامية الغربية ضد روسيا ورئيسها، وفي زيادة عدد قوات حلف الناتو بالقرب من حدود روسيا، أكثر من ثمانية أضعاف.
أما روسيا، فترى في الولايات المتحدة العدو القديم الذي كان له دور في تفكّك الاتحاد السوفييتي، بالإضافة إلى الاستفزازات المستمرة من جانبها عسكرياً واقتصادياً، فضلاً عن أن الأيدلوجية المسيطرة حالياً على رأس الكرملين، تتمثل في الاتجاه شرقاً.
وحتى رغبة ترامب في الوصول لنقاط اتفاق مع موسكو، تواجه بحرب إعلامية وقانونية من المؤسسات الأمريكية، ومن ثمّ فإن الخلاف الروسي الأمريكي، طبقاً لقراءة الديب - سيستمر، بشكل أو بآخر (..)، وسيفرز صراعات في مناطق مختلفة في العالم.
تناقض استراتيجي
بعث ترامب منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بعددٍ من الرسائل الإيجابية فيما يرتبط بعلاقته ببوتين، بدأت بما صرح به خلال حملته الانتخابية، بشأن وصف بوتين بـ «الزعيم القوي»، وحتى الرسائل الإيجابية التي جاءت عبر قمة هلسنكي التاريخية العام الماضي، لكن لم يمنع ذلك الخلافات الاستراتيجية الواسعة بين البلدين.
وفي محاولة لتفسير تلك التناقضات داخل الإدارة الأمريكية، يرى الباحث بمؤسسة «أمريكا الجديدة» في واشنطن باراك بارفي، أن الخارجية والبنتاغون والاستخبارات الأمريكية، يخالفون نهج ترامب وعلاقته ببوتين، فالمؤسسات الأمريكية خائفة كثيراً من برنامج موسكو في أوروبا والشرق الأوسط، مستشهداً في السياق ذاته بالموقف الروسي في أوكرانيا وجورجيا، وحتى ملف «الغاز»، بعد أن بلغت صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا مستوى قياسياً في عام 2018.
يتطرق بارفي، في حديثه مع «البيان» من واشنطن عبر الهاتف، لملف «الشرق الأوسط»، منتقداً الدور الروسي في سوريا، ووصفه بأنه «ذا تأثير سلبي»، مردفاً: «هنالك صراع بين واشنطن وموسكو في كل مناطق العالم تقريباً، في فنزويلا على سبيل المثال، نرى كيف أن روسيا لديها علاقات وطيدة مع هذا البلد، وهناك تنامٍ للحضور الروسي في أفريقيا الوسطى».
إخضاع روسيا
لكن في المقابل، وفي قراءة مختلفة عما أورده بارفي، فإن رؤية الإدارة الأمريكية تتلخص في رغبة إخضاع روسيا للأمر الأمريكي، كما كانت عليه بعد تفكك الاتحاد السوفييتي.
ولذلك، فإن العلاقات الآن «في أدنى مستوياتها» بين البلدين، بحسب المحلل السياسي الروسي تيمور دويدار، والذي يحدد في قراءته للموقف حالياً، خلال حديثه مع «البيان» عبر الهاتف من موسكو، أبرز الملفات الشائكة في العلاقة بين البلدين، وأولها حرب المصالح في سوق الطاقة العالمية، في خطٍ متوازٍ مع صعود الصين كقوة اقتصادية وعسكرية، وهي حليفة لروسيا في ذلك ضد الهيمنة الأمريكية.
من بين الملفات الشائكة، ما يتعلق بالاختلاف البنيوي في استراتيجية كلا البلدين، في التعاطي مع الأزمات، ففي حين «تميل الولايات المتحدة للقوة في سياستها الدولية، تدعو موسكو لاحترام القانون، والحفاظ على دور الأمم المتحدة»، في تقدير دويدار، الذي يشير إلى ملف الشرق الأوسط، باعتباره أحد أبرز الملفات الشائكة كذلك، ذلك أن «روسيا تسعى لأن يكون الشرق الأوسط مستقراً وآمناً ومتقدّماً اقتصادياً، بما يصب في مصلحتها، بينما أمريكا والغرب العكس تماماً (..)، تدخّل روسيا لحماية الحكومة الشرعية في سوريا، أكسبها صيتاً كبيراً في المنطقة، وظهورها بقوة على الساحة الدولية، ما مثل عائقاً أمام الخطة الغربية عموماً لتقسيم الشرق الأوسط، أو تحويله لبؤر حرب»، على حد تعبيره.
وفي ضوء ذلك، لا يعتقد المحلل السياسي الروسي بأن هنالك شيئاً إيجابياً يمكن توقعه في ملف العلاقة بين البلدين، على الأقل في المنظور القريب، ذلك على أساس أن «سياسة الأمن القومي الأمريكي، التي أعلنها ترامب، هي هجومية وعدوانية، وفي صالح مبدأ أمريكا أولاً.
وبالتالي، فسوف يكون هناك تنشيط لتصنيع الأسلحة، وتنشيط للحراك العسكري الأمريكي عالمياً (..)، العالم على المحك، لكن ربما يحدث تغير في العقلية الغربية، لأن الولايات المتحدة حالياً تستعرض نفسها، ليس فقط أمام روسيا، وإنما أمام حلفائها في الغرب، بما يزيد حدة التوتر، ويضع أوروبا - بخاصة أوروبا الغربية - في بؤرة الصراع»، ذلك بالإشارة إلى مخاوف أوروبا من أن تكون ملعباً للتحرش النووي بين الروس والأمريكان، بعد انهيار معاهدة الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى.
تحوّلات خطيرة واحتمالات مفتوحة
تدفع الضغوط المتلاحقة من جانب «صقور واشنطن» ورؤيتهم لمستقبل العلاقات مع «روسيا بوتين» إلى مزيد من التصعيد بين الجانبين في ملفات مختلفة ثنائية وإقليمية ودولية، فالموقف من الأزمة السورية على سبيل المثال، فضلاً عن الممارسات الإيرانية، وتوسيع حلف شمال الأطلسي، والأزمات المتلاحقة في دول الاتحاد السوفييتي السابق مثل أوكرانيا وجورجيا، وحتى الأزمة في فنزويلا «كل هذه الملفات تعيد أجواء الحرب الباردة بما لها من تداعيات على الاستقرار العالمي».
هذا ما يؤكده مدير المركز المصري الروسي للدراسات السياسية والاقتصادية أشرف كمال، في قراءته لواقع العلاقات الأمريكية الروسية حالياً. ويشدد على أن «واشنطن تخشى الطموحات الروسية في مناطق استراتيجية، والعودة إلى لعب دور مؤثر على الساحة الدولية، بينما في المقابل هناك قلق من نشاط واشنطن في مناطق النفوذ الروسي بذريعة الترويج للديمقراطية بآليات مختلفة قد تصل إلى تغيير الأنظمة الحاكمة بالقوة».
إلغاء معاهدة
ويبقى الموقف من «معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى» أحدث ملفات التصعيد والخلافات الحادة بين أكبر قوتين نوويتين، بعد قرار البلدين تعليق العمل بالمعاهدة.
وبحسب كمال فإن «الساحة الدولية اعتادت على تجدّد الخلافات وصراع المصالح بين الدول الكبرى، ولكن تجاوز مرحلة الردع والحروب بالوكالة في مناطق مختلفة، إلى مرحلة المواجهة المباشرة، يثير القلق على مستقبل الأمن والاستقرار مع تمسّك كل طرف بمواقفه».
وثمّة اعتقاد سائد في واشنطن بأنه من غير المتصوّر أن تكون هناك قوة أخرى يمكن أن تزاحمها في النفوذ على الساحة الدولية، وهناك قناعة بأنها لا تزال القوة العظمى الوحيدة في العالم، كما أن العقيدة العسكرية لكل من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي «ناتو» تضع روسيا في مصاف التهديدات الخطيرة التي يجب مواجهتها، بينما العقيدة العسكرية الروسية تضع كلاً من واشنطن وبروكسل في مربع الأعداء. وفي تصوّر كمال، فإن «سيناريوهات المواجهة المباشرة، وإن كانت ضئيلة، موجودة».
ويرى أن واشنطن لم تستخلص الدرس من الحرب الباردة السابقة، ومستمرة مع حلفائها في تجنب آليات الحوار مع موسكو، وتدفع إلى سباق تسلح مخيف. موضحاً في السياق ذاته أن «مؤشر العلاقات الروسية الأمريكية يعكس تحولات مهمة في السياسة الدولية؛ ذلك أن البلدين أعضاء بمجلس الأمن الدولي المعني بضمان السلم والأمن الدوليين».
تراجع وتقدّم
ولقد استطاعت السياسة الخارجية الروسية الاستفادة من فشل واشنطن في مناطق مختلفة بخاصة في الشرق الأوسط لتعزيز نفوذها، مع تراجع واشنطن خلال السنوات السابقة عززت موسكو تواجدها في المنطقة العربية ومع حلفاء واشنطن في المنطقة في الشمال الأفريقي، كما أنها أصبحت جزءاً من تسوية الأزمة السورية في إطار استراتيجية روسية مختلفة عن المرحلة السابقة مدعومة بتواجد عسكري قوي على مقربة من القوات الأمريكية بالمنطقة.
وبالتالي، وبحسب مدير المركز المصري الروسي للدراسات السياسية والاقتصادية، يمكن القول إن قدرة روسيا على مواجهة الولايات المتحدة مرهونة بطبيعة التحرك الأمريكي وبقدرة موسكو على تحمل تبعات المواجهة، خاصة وأن الاقتصاد الروسي يواجه العديد من الأزمات، وبالتالي فإن المواجهة بين البلدين سوف تقف عند مستوى معين ولن تنزلق إلى حافة الهاوية، حرصاً من الجانبين على تجنب المواجهة الشاملة مع استمرار محاولات تغيير عناصر المعادلة الدولية بما يحقق مصالحه.