بعد انسحاب واشنطن من معاهدة الصواريخ

أمريكا و روسـيا عالم على صفيح «نووي»

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

إعلان الولايات المتحدة الأمريكية، في اليوم الثاني من هذا الشهر، انسحابها من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة وقصيرة المدى، الموقّعة مع روسيا سنة 1987، قد يعني إعلان وفاة اتفاق دام 30 عاماً، ما أثار ويثير قلقاً عالمياً من أن تكون هذه الخطوة صافرة البداية لسباق تسلّح منفلت العقال، وإيذاناً برفع مستوى الحرب الباردة القائمة بالفعل بين الجبّارين الأمريكي والروسي منذ بضع سنوات، إلى مستويات جديدة أشد خطورة.

كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أعلن أكثر من مرة منذ انتخابه عزمه الانسحاب من هذه المعاهدة متهماً موسكو بعدم احترامها، لكن واشنطن أعلنت الانسحاب رسمياً في الثاني من فبراير الحالي، على لسان وزير الخارجية مارك بومبيو الذي قال إن واشنطن أبلغت أطراف هذه المعاهدة بقرارها. وفي تبريره للقرار قال: «لقد خرقت روسيا الاتحادية معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى بشكل واضح».

وكان ترامب قد قال في وقت سابق إن الولايات المتحدة ستطوّر خياراتها العسكرية الخاصة، وستعمل جنباً إلى جنب مع الناتو وحلفائها الآخرين «لمنع روسيا من استخدام أسلحتها بطريقة غير قانونية».

هدية لبوتين

وذكر توني بلينكن، المسؤول السابق في البيت الأبيض، أن انسحاب واشنطن من المعاهدة يعتبر «هدية» للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وقال: «الغريب في الأمر هو أن القيام بهذا الأمر يبدو صحيحاً، لكنه نفذ بطريقة خاطئة، فنعم، من الصحيح مواجهة روسيا فيما يتعلق بخروقاتها للمعاهدة ولكن من الخطأ الانسحاب من المعاهدة كرد على ذلك».

ولتفسير موقفه، قال المسؤول الأمريكي السابق: «إذا قام أحد بخرق القانون فأنت لا تمزق القانون كرد، بل تعزّزه، وهذا (الانسحاب سيكون هدية لفلاديمير بوتين وروسيا، حيث يزيل أي عوائق قانونية تقيد الطريقة التي تتعامل بها روسيا صوب هذا النوع من الصواريخ، وعلى الصعيد الآخر نحن مَن سيكون ملوماً عوضاً عنهم (روسيا) ومن المرجّح أنه سيبعدنا عن حلفائنا ويدفع نحو سباق للتسلح».

إمكانية التراجع

وإذ تمهل المعاهدة الدولة التي تود الانسحاب منها 6 أشهر، فإن أمريكا تستطيع خلال هذه الفترة العودة عن قرار الانسحاب بحال اعتبرت أن روسيا تلتزم بالاتفاقية مجدداً، وسيدقّ هذا الانسحاب ناقوس الخطر لعودة سباق التسلح بين واشنطن وموسكو.

وبعدما أعلن الرئيس الأمريكي قبل بضعة أسابيع عزمه الانسحاب من المعاهدة، علّق مصدر في الخارجية الروسية أن الولايات المتحدة «تحلم» بأن تكون هي القوة الوحيدة المهيمنة على العالم بقرارها الانسحاب من المعاهدة.

ورأى مجلس الدوما الروسي أن الانسحاب أحادي الجانب للولايات المتحدة من المعاهدة قد يؤدي إلى أزمة في مجال الرقابة على الترسانات النووية. وأضاف أن المعاهدة بين موسكو وواشنطن اشترطت القضاء على صنف هام من الصواريخ الحاملة للسلاح النووي كاملة.

ويعتقد الخبراء أن الولايات المتحدة يمكن أن تستأنف إنتاج أنظمة الصواريخ المحظورة وتزيد من مدى عمل الصواريخ المتوافرة لديها حالياً. ويرى البرلمانيون الروس أن فسخ المعاهدة قد يحفّز سباق التسلح في العالم.

ماذا يعني؟

تفرض حساسيّة المعاهدة النووية التي انسحبت منها واشنطن بالضرورة سؤالاً مهماً: ماذا بعد الانسحاب الأمريكي؟ فلقد وضعت المعاهدة التي ألغت فئة كاملة من الصواريخ يتراوح مداها بين 500 و5000 كيلومتر، حداً لأزمة اندلعت في الثمانينيات بسبب نشر الاتحاد السوفييتي صواريخ «إس إس 20» النووية، التي كانت تستهدف عواصم أوروبا الغربية.

لكن الانسحاب من الاتفاق لا يعني بالضرورة اندلاع حرب نووية بين الشرق والغرب، إلا أنها خطوة تثير مخاوف من تسارع السباق المحموم الرامي إلى تطوير وإنتاج الأسلحة النووية، لدى كلا المعسكرين، فضلاً عن حلفائهما. كما قد يكون للانسحاب من هذه المعاهدة تبعات ضخمة على السياسة الدفاعية الأميركية في آسيا، وتحديداً تجاه الصين منافستها الاستراتيجية الرئيسية التي يخوض ترامب معها حرباً تجارية، كما جاء في تحليل نشرته قناة «سكاي نيوز عربية».

فالصين ليست طرفاً في المعاهدة، وقد أنفقت أموالاً كثيرة على الصواريخ التقليدية، في الوقت الذي تحظر معاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى حيازة الولايات المتحدة صواريخ باليستية تطلق من الأرض، أو صواريخ كروز يتراوح مداها بين 500 و5500 كيلومتر.

خطر الصين

واشنطن التي تلقي باللوم على روسيا وتتهمها بانتهاك المعاهدة، تحدّثت عن هدف آخر لقرار الانسحاب، وهو الدخول في حقبة جديدة من المنافسة الاستراتيجية مع الصين في مياه المحيط الهادئ جنوب شرق آسيا.

وترى واشنطن أن الصين التي لم توقع على المعاهدة، تقوم بتطوير قدرات صاروخية تعتبرها واشنطن تهديداً لقواتها في المحيط الهادئ، جنوب شرق آسيا، وفقاً لمجلة «ذي إيكونوميست» التي نقلت عن كريستوفر جونسون، عميل وكالة الاستخبارات الأمريكية «سي آي إيه» السابق قوله: «يمكن للأيام الأولى أن تحدد مصير أي حرب مستقبلية، وامتلاك قدرات عسكرية تمكّن أمريكا من الوصول إلى قلب الأراضي الصينية يمثل أهمية كبيرة بالنسبة للجيش الأمريكي في أي مواجهة مع الجيش الصيني».

عواقب مترتبة

ويحذر خبراء من العواقب المترتبة على القرار الأمريكي، إذ إن التهديد الأمريكي الجديد ضد روسيا سيقود الأخيرة إلى الرد بحدة، ويبدو أن موسكو في طريقها إلى ممارسة ضغوط وتهديدات عسكرية جديدة على الدول المجاورة لها، حيث توجد قواعد عسكرية أمريكية، وهذا يمكن أن يؤدي إلى موجة من عدم الاستقرار على الصعيد العالمي وبشكل خاص يؤثر على أمن قارة أوروبا، والشيء المؤكد أن الروس سيتبنون سياسة أشد حسماً، وربما تهديداً، تجاه الدول الأوروبية، وسيدفعون جهود البلاد لتطوير أسلحة نووية، لا سيما الغواصات النووية، بهدف تهديد الأراضي الأمريكية.

تبرير ومخاوف

ورغم التبريرات التي تسوّقها واشنطن للانسحاب من المعاهدة، والرفض الروسي والأوروبي بل والعالمي لفكرة الانسحاب، فإن القضية برمتها لها تداعيات ومآلات بعيدة واستراتيجية، وربما تعمل على إعادة تشكيل نظام أمني عالمي جديد، ولن تقتصر التداعيات على الولايات المتحدة وروسيا فقط، فقد تمتد إلى الصعيدين الأوروبي والعالمي.

فالأمن الأوروبي بات محل تساؤلات وتشكيك؛ لأن الصواريخ الأمريكية ستعاود الظهور في دول مثل رومانيا وبولندا، حيث يعتبر الاتحاد الأوروبي معاهدة التخلص من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى حجر زاوية الأمن الأوروبي.

ولعل الترقب الأوروبي له ما يبرّره لأن أي تصعيد في سباق المنظومة العسكرية بين روسيا والولايات المتحدة له تأثير مباشر على الأمن في أوروبا.

ويرى خبراء أن أحد أهم أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي السابق يتمثل في الموازنات الضخمة التي كانت تُصرف لتمويل مشاريع التسلح خلال الحرب الباردة، وسوف يؤدي أي سباق تسلح جديد إلى إرهاق منافسي الولايات المتحدة اقتصادياً، لكن خبراء آخرين يحذرون من البناء على هذه المقاربة، إذ إن هناك فرقاً جوهرياً بين الاتحاد السوفييتي الذي اعتمد الاقتصاد الاشتراكي الموجّه وتوريد السلاح لأصدقاء وحركات تحرر بلا مقابل تقريباً، وروسيا التي تتبنى نظاماً رأسمالياً جعل من البلد سوقاً مرغوباً للسلاح الذي بات مصدر دخل مهم.

سباق تسلح

قبل الإعلان الرسمي الأمريكي عن الانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة وقصيرة المدى، اعتبر آخر رئيس للاتحاد السوفيتي ميخائيل غورباتشوف أن نية واشنطن الانسحاب من معاهدة حظر الصواريخ إعلان لانطلاق سباق تسلح جديد بين واشنطن وموسكو. وكتب الرئيس السابق للاتحاد السوفيتي الذي وقع معاهدة حظر الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى إلى جانب الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، في مقال خاص لصحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، أن هذا يشكّل «إعلاناً عن سباق تسلح جديد».

ووفقاً لغورباتشوف، فإن الانسحاب من هذه المعاهدة ليس الخطوة الأولى في نهج واشنطن في عسكرة الوضع الدولي، فالولايات المتحدة انسحبت قبل ذلك في عام 2002 من معاهدة الدفاع المضاد للصواريخ. وقال: «لقد ارتفع الإنفاق العسكري إلى مستوى فلكي وما زال ينمو».

ما بعد الانسحاب من معاهدة القوى النووية المتوسّطة

معاهدة القوى النووية المتوسطة (أي إن إف) التي أعلنت واشنطن وبالتالي موسكو عن الانسحاب منها، وقّعها عام 1987، كل من الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان والزعيم السوفييتي الأسبق ميخائيل غورباتشوف، وفيها تعهّدا بعدم صنع أو تجريب أو نشر أي صواريخ باليستية أو مجنحة أو متوسطة، وتدمير منظومات الصواريخ، التي يتراوح مداها المتوسط ما بين 1000-5500 كيلومتر، ومداها القصير ما بين 500 - 1000 كيلومتر.

بحلول مايو1991، تم تنفيذ المعاهدة بشكل كامل، حيث دمر الاتحاد السوفييتي 1792 صاروخاً باليستياً ومجنحاً تطلق من الأرض، ودمرت الولايات المتحدة 859 صاروخاً. وقام الاتحاد السوفييتي بحلول عام 1991 بإتلاف الأنظمة الصاروخية «بيونير» و«تيمب - أس» و«أوكا» وصواريخ «آر - 12» و«آر-14». أما البنتاغون فتخلص من أنظمة «بيرشينغ» والنماذج البرية من صواريخ «تمهوك».

وتشير نصوص المعاهدة إلى أنها غير محددة المدة، ويحق لكل طرف منها الانسحاب بعد تقديم أدلة مقنعة للخروج، بحسب موقع «أرمز كنترول» الأمريكي.

وبدأت المفاوضات بين أمريكا والاتحاد السوفييتي للحد من الصواريخ النووية قصيرة ومتوسطة المدى من كلا الطرفين، واستقر الأمر على عدم نشر واشنطن صواريخها في أوروبا مقابل خفض موسكو لعدد الصواريخ، واستمرت المناقشات حول بنودها إلى أن دخلت حيز التنفيذ رسمياً عام 1988.

صواريخ «إس إس - 20» المتوسطة المتطورة، التي نشرتها روسيا كانت مصدر رعب للدول الغربية، لأن مداها يصل إلى خمسة آلاف كيلومتر وتتمتع بالدقة العالية في إصابة أهداف في أوروبا الغربية، وشمال إفريقيا، والشرق الأوسط، كما يمكنها ضرب أهداف في ولاية ألاسكا الأمريكية.

تفوّق

وكان البنتاغون يعرب مراراً عن قلقه من تفوق روسيا على الولايات المتحدة في هذا الصنف من الصواريخ. وتتوافر في ترسانة روسيا حسب المعلومات الواردة من وزارة الدفاع الأمريكية من ألف واحد إلى 6 آلاف ذخيرة نووية تكتيك، فيما تمتلك الولايات المتحدة 500 قطعة فقط من السلاح النووي التكتيكي ومن بينها 200 قطعة تخزن في مستودعات ألمانيا وإيطاليا وتركيا وهولندا وبلجيكا.

وجاء في تقرير بشأن السياسة النووية الأمريكية أن القوات المسلحة الأمريكية عاجزة عن توجيه رد متكافئ على استخدام روسيا لسلاحها النووي التكتيكي في أوروبا.

وقال قائد القيادة الاستراتيجية للجيش الأمريكي جون هاتن: «إننا نخاطر أن ننهزم في حال نشوب نزاع باستخدام السلاح النووي التكتيكي في أوروبا». وأجرت قناة «آر تي» التلفزيونية الفضائية الروسية استطلاع رأي الخبراء في هذا المجال.

ويرى غالبيتهم أن الولايات المتحدة معنية بالانسحاب من معاهدة الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى. وقال نائب مدير معهد الولايات المتحدة وكندا لدى أكاديمية العلوم الروسية، بافل زولوتاريوف، إن الانسحاب من المعاهدة يمنح الولايات المتحدة ورقة بيضاء لإطلاق إنتاج الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى المحظورة وتصنيع أنواع جديدة من الأسلحة النووية الضاربة.

دفاع وهجوم

أما رئيس مركز «بير» الروسي، يفغيني بوجينسك، فيعتقد أن استئناف إنتاج الصواريخ المحظورة لا علاقة له بمهام دفاعية، إذ إن الكمية الموجودة من صواريخ «توماهوك» وصواريخ «جو -أرض» كافية للدفاع والهجوم. وأضاف أن الصواريخ الأمريكية الجديدة ستنشر في أوروبا وآسيا.

ويرى مؤسس بوابة «Military Russia»، دميتري كورنيف، أن الولايات المتحدة بمقدورها أن تصنع بأسرع وقت ممكن نماذج برية من صواريخ «تمهوك»، ما سيشكل خطورة على أمن روسيا وسيؤدي إلى تفاقم الأوضاع على حدود روسيا مع الغرب، إذ إن أي إطلاق لصاروخ قد يتسبب إلى رد متكافئ من جانب روسيا.

ويعتقد كورنيف أن استئناف إنتاج منظومات «برشينغ» يمكن أن يؤدي إلى تزويدها بصواريخ فرط صوتية يبلغ مدى عملها 1.7 ألف كيلومتر. وقال: «في حال بدء الولايات المتحدة في إنتاج الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى سترد روسيا بالمثل.

وستظهر لديها الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى التابعة لمنظومات «إسكندر»، ناهيك عن ظهور نسخ برية من صواريخ كاليبر «بحر -أرض» و«جو - أرض». يجب ألا يغيب عن البال السلاح الفرط صوتي الذي قد امتلكه الجيش الروسي، والذي يعتبر اعتراضه أمراً مستحيلاً عملياً».

وقال الخبير العسكري، يوري كنوتوف، في حديث أدلى به لقناة «آر تي» الفضائية الروسية، إن روسيا تمتلك في الوقت الراهن كمية كافية من آليات الردع النووي وغير النووي حتى في حال فسخ معاهدة الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى من قبل الولايات المتحدة.

Email