«عملاء إسرائيل».. تمتصّهم كسيجارة وترميهم كعلبة فارغة

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما أن دخلت مكتبه حتى بادرني بضحكة مجلجلة. كان الأمر غريبًا بعض الشيء، فهو محامٍ فلسطيني جاد، وقليلًا ما يبتسم أو يضحك، ناهيكم عن إطلاق ضحكة عالية. وقبل أن أسال عن سبب الضحك، قال: قبل قليل كان عندي شخص وقال فور دخوله: هل تعرفني؟ قلت: لا. قال: أنا العميل فلان.

يقول المحامي: أول ما تبادر إلى ذهني أنني أمام مناضل عريق ويريد أن يقدّم نفسه بظرافة. لكن ذلك الشخص كرّر التعريف الغريب بنفسه: لماذا تستغرب؟ أنا العميل فلان، وأستغرب أنك لا تعرفني. ثم بدأ بكشف آثار ضربات تلقاها على يد شباب الانتفاضة.

يواصل المحامي: قلت له هات من الآخر، ماذا تريد؟. قال: لقد خدمت المخابرات الإسرائيلية أكثر من خمسة عشر عامًا، والآن وقّعوا اتفاقًا مع منظمة التحرير الفلسطينية، وبالتالي لن يحتاجوا لنا. أريد أن أرفع عليهم دعوى تعويضات عن «نهاية الخدمة». صمت المحامي قليلًا ثم قال له: طالما أنك عميل اذهب إلى محامٍ عميل ليتولى «قضيّتك». هل وصلت الوقاحة إلى هذا الحد؟

كانت مسألة غريبة بالنسبة للمحامي، لكن الفلسطينيين الذين دخلوا السجون بسبب هؤلاء العملاء، غالبًا، لا يستغربون وقاحة العملاء، ذلك أنهم يدركون الوسائل التي تتّبعها أجهزة الاحتلال في عملية تفريغ الضحية من محتواه الإنساني والوطني، وتحويله إلى عميل ثمّ إلى ممسحة لا تناقش ولا تجادل، لا تتمتّع بإرادة القبول والرفض، إنما الاستجابة الميكانيكية العمياء، بحيث يكون العميل مطواعًا لا يفكّر، حتى، في تقييم ما يطلبه منه سيّده.

زرع العيون

«العملاء» ليست ظاهرة جديدة أو طارئة، بل لا توجد حالة احتلال في التاريخ لم يلجأ فيها المحتل لزرع عيون ومتعاونين معه وسط الشعب الخاضع لاحتلاله، وذلك انطلاقًا من قاعدة ذهبية تقول إن القلعة لا تقتحم إلا من الداخل.

وربما تكون إسرائيل الاحتلال الأشد شراسة في هذا المضمار لأسباب عديدة، منها أن صراعها مع الفلسطينيين خصوصًا والعرب عمومًا ليس حدوديًا أو مؤقّتًا مثل الظواهر الاستعمارية المعروفة في التاريخ، بل إنه صراع وجود، لخّصه رئيس وزراء إسرائيل وأحد مؤسسيها دافيد بن غوريون حين كتب «الأرض واحدة ومالك الأرض اثنان، ولا بد أن تكون لواحد منهما فقط، ولا بد لهذا الواحد أن يتبع كل الوسائل، بما فيها الخديعة، لامتلاك الأرض».

لذلك فإن هذا النوع من الصراع الوجودي يتطلّب من طرفيه، الإسرائيلي والعربي، انتهاج كل الأسلحة، لكن ما هو واضح لكل العالم أن إسرائيل لا تلتزم بأية معايير أخلاقية أو قانون دولي في محاولات قمع الفلسطينيين ووأد طموحاتهم الوطنية ومنعهم من استرداد حقوقهم التاريخية، وكذا محاولاتها إحباط أي توجهات نهضوية أو وحدوية أو علميّة عربية.

وهي في هذا السياق تحاول اختراق جبهة الفلسطينيين والعرب من الداخل وتجنيد من تستطيع خديعتها الوصول إليهم، واستغلال ظروف قاسية تصنعها هي، بالإضافة لضعف الولاء لدى نفر قليل من الناس، رغم أن الاحتلال الإسرائيلي يتعمّد إشاعة نوع من الهوس وانعدام الثقة لدى الفلسطينيين على نحو خاص، بوصفهم واقعين تحت الاحتلال المباشر، لكي تبدو العمالة وكأنها أمر عادي.

نقاط الضعف

وفي تجنيدهم للعملاء يراعي عناصر الاستهداف الإسرائيليون نقاط الضعف في الشخص المستهدف، ويدرسون سماته الشخصية ومزاجه وظروفه ونقاط ضعفه قبل الاقتراب منه. لكن ثمّة وسائل رئيسية ثلاثة تستخدمها أجهزة مخابرات الاحتلال للتجنيد وهي الجنس والمال والعاطفة.

وتبدأ حكاية الخداع بمنح العمالة اسمًا آخر (الصداقة)، ثم يطورّونها إلى «منفعة متبادلة» تحت مسمى «ساعدنا نساعدك»، وفي هذه المرحلة يقولون له: المطلوب منك تزويدنا بنشطاء ترويج المخدرات، باعتبار ان هذه الآفة خطر عليكم وعلينا.

ثم يطلبون منه معلومات عادية وبديهية من نوع، كم ولد عند فلان وما هي أعمارهم، وإن كانوا متزوجين أم لا، وكيف هي علاقات فلان مع أبنائه. هذه الطريقة تعتمد على الاستدراج النفسي بحيث يقتنع الضحية أنه لا يقدّم للعدو معلومات مضرّة، لكنه لا يدرك أن هذه ليست سوى الطريق إلى الطعم المعلّق في المصيدة.

لا يدرك أنهم لكي يستخدمونه بفاعلية يجب «قولبته» أولًا وإعادة تشكيله بحيث يتحوّل تدريجيًا إلى شخص فاقد الإرادة، يؤمر فيطاع. ولهذا فإن الاحتلال لا يمكنه أن يرصد حركة مقاوم من بيت إلى دكان، مثلًا، من دون مساعدة العملاء المسؤولين عن مئات حالات الاغتيال والاعتقال التي تجري للمقاومين الفلسطينيين.

وتقوم أجهزة الاحتلال بتدريب العميل على التعامل مع السلاح وحماية نفسه وإطلاق النار بلا تردّد. وعادة ما يتم تدريب العملاء على كيفية توظيف الجنس والمخدّرات في مهمّات جمع المعلومات وإسقاط الضحايا بعد التصوير والابتزاز والتهديد بنشر الصور، وهذا يعتبر سلاحًا فاعلًا في يد أجهزة المخابرات الإسرائيلية (بالنسبة لمجتمع تقليدي) وكذلك يقوم جهاز المخابرات الإسرائيلية الداخلي (الشين بيت) باستغلال الزيارات التي يقوم بها محتاجو تصاريح المرور والعمل والسفر للعلاج أو الدراسة.

دوافع التجنيد

نقاط الضعف أو الدوافع التي تستغلها الأجهزة الإسرائيلية باتت معروفة ومتكررة، فالوضع المادي يعتبر بيئة ملائمة لجراثيم الاحتلال، وبذلك يستغلون الاحتياجات المادية للضحية فيعرضون عليه تحقيق رغبته وتلبية حاجته، وحتى «أمنياته الشخصية»، ويعمدون لعرض مبالغ أو رواتب على موظفي الفنادق، أو سائقي سيارات الأجرة، فهؤلاء ذوو دخل محدود وفي الوقت نفسه هم أهداف دسمة لأن وظيفتهم تقتضي الاحتكاك بالناس والاقتراب منهم لمسافة قصيرة جدًا.

في كثير من الحالات كان الاحتلال يعيد فلسطينيين يدرسون في الخارج من على المعابر بعد انتهاء زياراتهم لأهاليهم في الوطن، ويطلبون منهم مقابلة مراكز المخابرات، وهناك يساومونهم ويضعونهم بين خيارين، إما القبول بالعمل مع العدو أو تحطّم أحلامهم الدراسية بعد أن يكونوا أنهوا ثلاث أو أربع سنوات، وربما يحصل هذا وهم في سنتهم الدراسية الأخيرة، مستغلين هذا الوضع كنقطة ضعف للإيقاع بالضحيّة.

ثمة حالات مرضية، كأن يكون لشخص ما طفل مصاب بالسرطان، وهو يحتاج للعلاج إما في مستشفيات في الأراضي المحتلة عام 48 او في الخارج، ويستغل الاحتلال هذه الحالة الإنسانية ويساوم والد الطفل المريض، فإما أن يقبل الخيانة أو ينظر إلى طفله يموت أمام عينيه.

لكن في كل الأحوال، لا يمكن لأي أسلوب أو ظرف أو سبب أن يجعل إنسانًا يبيع نفسه ويخون شعبه ووطنه، ما لم تتوفّر لديه عوامل سلبية وأمراض نفسية واجتماعية، مثل ضعف الانتماء الوطني والوازع الأخلاقي والإنساني، وارتفاع منسوب الأنانية والذاتية لديه، وكذلك ضعف الحسابات الذي يجعله يتوهّم ويصدق أن أمره لن ينكشف. لذلك فهو يخون نفسه أولًا ثم يتهاوى، وحين ينكشف أمره يتخلون عنه كما يتخلى المدخّن عن العلبة الفارغة.

«الموساد».. الغموض البناء والتسريب المحسوب

يعتبر جهاز المخابرات الإسرائيلية الخارجي «الموساد» أحد أكثر أجهزة الاستخبارات غموضاً في العالم، حيث تحيطه إسرائيل - هو يحيط نفسه - بكتمان شديد وفق سياسة إسرائيلية باتت معروفة بـ«الغموض البنّاء» على غرار التعاطي مع البرنامج النووي الإسرائيلي، لدرجة أن اسم رئيس الجهاز لا يظهر للعلن إلا بعد أن يصبح الرئيس السابق لـ«الموساد».

وهذا الجهاز أشبه بخشبة كبيرة معظمها في الماء ولا يظهر منها سوى الجزء الصغير، وهو ما ليس في الإمكان إخفاؤه، أو المطلوب أن يصل إلى وسائل الإعلام الإسرائيلية، كتسريبات لغاية محددة ومحسوبة حيث تشير هذه الوسائل إلى أنها تنشر وفقاً لـ«مصادر أجنبية»، ويسرّب «الموساد» أخباراً من هذا النوع استكمالاً للهدف منها، والقصد من ذلك الآثار الدعائية والنفسية والردعية، وكذا رسائل للإسرائيليين في الداخل لاعتبارات حزبية وانتخابية.

الخداع

فيكتور اوستروفسكي ضابط مخابرات إسرائيلي سابق ألف كتاباً أثار ضجة واسعة قبل سنوات بعنوان «عن طريق الخداع» كشف فيه جانباً من أنشطة جهاز المخابرات الإسرائيلية الخارجي «الموساد» وعملياته القذرة في البلدان العربية وغيرها من بلدان الشرق الأوسط.

ويتحدث الكتاب عن الوجه الآخر للخداع في هذا الجهاز، رغم تحذير بعض المراقبين العرب من السم المدسوس في العسل متمثّلاً في محاولة استروفسكي، رغم خروجه، من جهاز «الموساد» تأكيد أن ولاءه يبقى لإسرائيل حيث يصورها بأنها كيان لا يقهر، وأن جهاز المخابرات ذراعه طويلة وقادر على الوصول إلى أي مكان، وتحويل المستحيل إلى ممكن.

الانتفاضة الكبرى تصدّت للعملاء بالاستتابة والردع

برز الدور الخطير للعملاء على نحو أكبر خلال الانتفاضة الأولى التي انطلقت في ديسمبر 1987، حيث أدركت فعاليات الانتفاضة بأن وجود العملاء في أوساط الفلسطينيين من شأنه إحباط النشاطات الانتفاضية وسيوقع النشطاء في براثن الاعتقال أو الاغتيال.

لذلك بادرت التنظيمات الفلسطينية إلى ما سميت بعمليات «ردع العملاء»، وتلك العمليات تدرّجت من مطالبة العملاء بالتوبة، وصولًا لتصفية الخطيرين منهم الذين يرفضون الاعتراف والتوبة، وبالتالي الاستمرار في كونهم خطرًا على الانتفاضة والمنتفضين. واعتبرت تلك العمليات منذ الأشهر الأولى للانتفاضة كجزء من فعالياتها.

وفي سياق تلك السياسة، تعرض عدد كبير من العملاء لعمليات الملاحقة و«الردع» بعد انتهاء المهلة الممنوحة للتوبة، حيث تمثلت العمليات بخطف العميل ليلًا، ونقله إلى مكان مهجور مثل كهف في جبل أو مزرعة نائية، وإجراء تحقيق ميداني معه للحصول على ما لديه من معلومات من شأن معرفتها تجنيب المنتفضين الملاحقة والاعتقال أو الاغتيال، وإذا لم يكن العميل خطيرًا، كان يتعرّض لعملية تأديب ويمنح فرصة لمراجعة نفسه، حتى يتراجع عن تعامله مع الاحتلال.

لكن في حالات خطيرة من هؤلاء الذين تورّطوا في الاغتيالات أو الإسقاط اللا أخلاقي، فإن الحكم عليهم كان الإعدام على أيدي مجموعات المقاومة الشعبية في ذلك الوقت، مثل النسر الأحمر والفهد الأسود وغيرهما. وحسب معطيات إعلامية، بلغ عدد العملاء الذين قتلوا خلال الانتفاضة الأولى حوالي 750 عميلًا.

ردع العملاء

كان الهدف من عمليات «ردع العملاء» إثارة حالة من الرعب في صفوف العملاء ونقلهم من الهجوم إلى الدفاع، وفي حالات معيّنة إنقاذهم وإعادتهم إلى أحضان الشعب، وتجنيب الانتفاضة والمنتفضين عينًا راصدة لصالح الاحتلال، وبالتالي تفكيك الحالة الشعبية من داخلها.

وحاولت مخابرات الاحتلال - آنذاك - حماية عملائها، ليس لسواد عيونهم إنما بسبب استمرار الحاجة إليهم، واتخّذت إجراءات لاستيعاب العملاء، كما فعلت بمنطقة جنين عندما أنشأت قرب قرية «فحمة» معسكرًا حمل نفس اسم القرية للتمويه، ومعسكرًا آخر في منطقة «الدهنية» قرب غزة وأسكنت العملاء فيهما مع عائلاتهم، بالإضافة لنقل بعض العملاء الأشد خطرًا، إلى مناطق الداخل المحتل عام 1948.

وبعد إقامة السلطة الفلسطينية عام 1995، تقرر استلام السلطة لهذه المناطق، فقامت إسرائيل بإخلاء غالبية العملاء، إلى مناطق الداخل. ولا يخلو الأمر من جدل بشأن آلية التعامل مع ظاهرة العملاء في ذلك الوقت.

الفلسطينيون يجمعون على ضرورة التصدي للعملاء، لكن كانت هناك حالات لعمليات قتل ذهب ضحيّتها أبرياء، إما بسبب الإفراط في وسائل الضغط أثناء التحقيق أو الاستعجال في الحكم عليهم، وفي بعض الحالات النادرة، جرت ربما عمليات تصفية حسابات.

لكن على نحو عام، كانت الانتفاضة تحظى بمشاركة أغلبية الفلسطينيين، وتأييدهم جميعًا. ففي إحدى القرى حدث أن أحضر ملثّمون جثة قتيل إلى ساحة القرية، وبعد أن تلوا بيانًا تضمن اعترافاته الخطيرة، طلبوا من والده أن يلقي عليه نظرة الوداع، تقدّم الأب وكشف الغطاء وبصق في وجه ابنه واستدار مبتعدًا.

 

Email