استعمار الجزائر.. اعترافات الضمير بجرائم لا تموت

صور من مظاهرات 11 ديسمبر 1960 في الجزائر | ارشيفية

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما من حالة استعمارية تخلو من خروج عناصر مشاركة فيها عن نسقها لتطعن بمشروعيّتها وتكشف خباياها وما ارتكب فيها من جرائم، لكن ليس بالضرورة للدوافع ذاتها لدى هذه العناصر.

ولعل الكتب التاريخية التي تعج بشهادات لضباط وجنود وأكاديميين وإعلاميين، حول ما ارتكب من فظائع خلال الحملة الفرنسية على مصر أو الاستعمار الفرنسي للجزائر، خير دليل على المثل القائل «إن خليت بليت»، أي لا بد من وقفة ضمير يقفها أناس شعروا في لحظة ما أنهم شاركوا في ارتكاب جرائم، أو شاهدوا مرتكبيها، وقد آن الأوان للكلام إنصافاً للضحايا وللتاريخ، الأمر الذي فيه مصلحة لبلدانهم، في نهاية المطاف. كان اعتراف جنرال فرنسي أمام كاميرات التلفزيون بأنه قتل بمسدسه أربعة وعشرين جزائرياً عزلاً من دون محاكمة، وأنه أمر بإلقاء عشرات الجزائريين في البحر من المروحيات، بمثابة قنبلة إعلامية وسياسية وإنسانية.

وما زاد من القوة التفجيرية لتلك القنبلة، مبادرة الصحافي الفرنسي جاك ديكان الذي نشر، لأول مرة، مجموعة من الصور كان التقطها في أوج الثورة الجزائرية (نهاية الخمسينيات) تُظهر مدى بشاعة التعذيب والقتل الذي حصل على يد المستعمرين. أما الجنرال جاك ماسو فروى أنه وبقية الضباط الذين كانوا تحت إمرته تولّوا قتل أكثر من ثلاثة آلاف جزائري بعد تعذيبهم، وكانت الذريعة عدم وجود «شواغر» في السجون الفرنسية.

احتفالات باستقلال الجزائر | أرشيفية

 

تضليل سياسي

ما إن تقرأ شهادة تشعرك بالغضب، حتى تقرأ ما هو أفظع منها، مثل جندي الاحتياط كلود جوان الذي كان شاهداً على جنود مارسوا التعذيب وارتكبوا تجاوزات غير إنسانية. وقد نشر سنة 1960 كتاباً بعنوان «الوحل»، استنكر فيه ما كان يجري.

وتنقل عنه صحيفة «الخبر» الجزائرية قوله سنة 2013- خلال حوار أجرته معه- إن الدعاية الفرنسية نقلتهم إلى الجزائر وجعلتهم يتوهّمون أنهم بصدد إنجاز مهمة حضارية، وأوضح بأن كثيراً من الجنود انتحروا بعد عودتهم إلى الديار، بينما يعاني آخرون من آلام نفسية.

ويفسّر سلوك بعض الجنود الفرنسيين من الاحتياط أنهم تعرضوا لعملية غسيل للدماغ على أيدي الأجهزة النفسية التابعة للجيش الفرنسي. وقد اقتنع كثير من الجنود بنجاعة التعذيب بغية الوصول إلى انتزاع معلومات من الثوار، وذلك بغرض وقف الهجمات الفدائية، وهذا يعني أنهم كانوا ضحية عملية تضليل من القيادة السياسية.

رؤوس بشرية

وورد في اعتراف الجنرال روفيقو (16/‏04/‏1832) بعد عودته من هجوم على بعض القرى التي باغت جنوده سكانها وهم في عز النوم: «كان جنودنا ممتطين ظهور الخيل يحملون الرؤوس البشرية على أنصال سيوفهم، وأما أجزاء الأجسام والملطخة بالدماء فقد أقيم منها معرض في باب عزون، وكان الناس يتفرجون على حلي النساء الثابتة في سواعدهن المقطوعة وآنذاك المبتورة».

ومما جاء في تقرير لجنة التحقيق البرلمانية في نوفمبر 1833: «لقد اعتدينا على حرمات المساجد والمقابر والمنازل والأماكن المقدسة عند المسلمين. قتلنا رجالاً يحملون رخص المرور التي أعطيناها لهم. كما أننا ذبحنا كثيراً من الجزائريين لشبهة عارضة، وأبدنا قبائل بأكملها تبين بعد أنها بريئة».

وكتب الجنرال مونياك تحت عنوان «رسائل جندي» يصف فيها كيف قتل جزائرياً: «لقد قطعت رأسه ويده اليسرى ثم وضعت الرأس في طرف الرمح وعلقت اليد في البندقية وسرت بها إلى معسكر، وهناك تكلف أحد الجنود بحملها إلى الجنرال باراني ديلي الذي كان يعسكر قريباً منا فأحدث ذلك في نفسه أعظم السرور...».

وقال أيضًا في رسالة وجهها إلى أحد أصدقائه في فرنسا سنة 1845: «هذه هي الطريقة المثلى التي نحارب بها هؤلاء العرب.. قتل جميع الرجال من سن الخامسة عشرة فما فوق. الاستيلاء على جميع الناس والأطفال ونفيهم إلى جزر المركيز أو أي مكان آخر. وباختصار القضاء على كل من لا ينحني كالكلب تحت أقدامنا».

مشاركة المرأة في الثورة الجزائرية | أرشيفية

 

كبش الفداء

لكن بعد مرور عقود من التعتيم، ثمّة سؤال يقفز للأذهان حول الدوافع وراء هذه الاعترافات، إن كانت صلة بالصراع السياسي التقليدي بين اليسار واليمين في فرنسا مع اقتراب موعد كل انتخابات رئاسية، حيث يريد اليمين من ورائها إحراج اليسار الذي يعاني من عقدة الذنب تجاه ما جرى للجزائر وفيها خلال الحقبة الاستعمارية. هل الأمر يتعدى ذلك إلى وخزة أو صحوة ضمير انتابت على نحو مفاجئ هؤلاء الضباط والجنود، ومعهم بعض من النخبة؟ أم أن في الأمر محاولة لتبرئة فرنسا الدولة من فضائح التعذيب وإلصاقها بضباط بعينهم (كبش فداء).

بعض الجنرالات، اتهموا المستوى السياسي باستغلال «سذاجة العسكريين»، وحماستهم، مؤكدين أن السلطة كانت على علم بكل ما كان يفعله العسكريون، بل كانت تشجّعهم على ارتكاب تلك الجرائم للقضاء على الثوار وكبح الدعم الشعبي عنهم. أحد الباحثين الفرنسيين كتب في رسالة دكتوراه أن الجيش الفرنسي كلّفته حكومته بدءاً من ربيع 1955 بممارسة جميع الأساليب في حرب شاملة لإخماد الثورة، متسائلًا عن الدوافع وراء تخويل السلطة آنذاك صلاحياتها إلى الجيش ليحكم الجزائر.

تنكيل شامل

ليس فقط السياسيين والضباط والأكاديميين، فقد أكّد جنودٌ فرنسيون «خدموا» في الجزائر، وباتوا سياسيين ومسؤولين كباراً، أن معظم قطاعات الجيش الفرنسي مارست التعذيب بشكل واسع بحق الأسرى والمدنيين والفلاحين بمن فيهم النساء.

لسنا في معرض البحث في دوافع فرنسا وراء التهرّب من فتح هذا الملف الأسود، لكن من الضرورة بمكان إلقاء الضوء على أولئك الذين يتحدّثون ويكشفون المستور من التاريخ. وحتى لو جاء الكشف متأخّراً يبقى أفضل من بقاء الحقائق مدفونة في باطن التاريخ، فإذا مات جيل الحقبة أصبحت الحقيقة بقعة سوداء، ومعرفة الوقائع أصعب منالاً.

لكن في إشارة عابرة، ينبغي التذكير أن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لا تموت بالتقادم، وهذا أحد الأسباب الكامنة خلف رفض المسؤولين الفرنسيين فتح الأرشيف للمختصين، الأمر الذي من شأنه كشف أسماء ضباط مارسوا التعذيب والقتل والاغتصاب وهذا بالتأكيد يؤدي إلى معرفة أسماء المسؤولين السياسيين آنذاك وبالتالي تعرّض كل هؤلاء إلى الإدانات وربما إلى الملاحقات القانونية الدولية، لذلك فالأفضل لأية دولة استعمرت شعوباً أن تتجنب ما يزيح الستار عن «بقع الأرشيف السوداء» في حقبة يحلو لمستعمريها أن يلخّصوها بمجرد عمليات لحفظ النظام العام في مستعمرتها.

منطق مضاد

هذا المنطق يناقضه منطق آخر مثّله بعض المختصين في شؤون حرب الجزائر مثل روبرت بارات وهنري علاق اللذين ظهرا في برنامج تلفزيوني حول التعذيب في الجزائر بثته القناة الرابعة البريطانية، وأوضحا القطعة الصغيرة الظاهرة للعيان من جبل الماضي الاستعماري وأنه بمثابة «الشجرة التي تخفي الغابة».

تلك الغابة كانت عبارة عن فظائع ارتكبها الاستعمار الفرنسي، مثل مجازر 8 مايو 1945 (45 ألف ضحية خلال أسبوع واحد) وعشرات الآلاف من ضحايا القتل الجماعي، بما في ذلك إغراق مئات من الجزائريين في نهر السين وهي المعروفة باسم مجازر أكتوبر 1961 وإجراء تجارب نووية على جزائريين. شهادات كثيرة، وهذا ليس سوى نقطة من بحر من الفظاعات لا يفوقها سوى كفاح الشعب الجزائري الذي لطّخ وجه المستعمرين بدماء مليون ونصف مليون شهيد.

 

الوجه الآخر للحملة الفرنسية في مصر والشام

أضاف المترجم أحمد العدوي للمكتبة العربية كتاب «جيش الشرق» لمؤلفه «تيري كرودي» أحد خبراء الحقبة النابليونية، ليقدّم فيه وثيقة باعترافات ضباط ناجين من الحملة الفرنسية على مصر والشام، حيث كشف زيف الصورة الأسطورية التي وضعها الغرب لحملات نابليون، رغم أن الكاتب لم يغفل «ما أنجزته الحملة من صدمة حضارية فتحت أعين العرب على أساليب النهضة الحديثة، كما سجّلت موسوعة (وصف مصر) لبنة علم المصريات».

وينقل عن كبير الخياطين «بيرنويه»، أن السرية كانت محاطة بالحملة، واعتقدوا أنهم ذاهبون لصقلية أو مالطا. وتكشف رسائل «موران» كيف كانت قوافل العبيد تحمل السلع من بقاع الأرض لمصر. وعن الضابط لافال ينقل قوله: «لقد بيع الحبشيون التعساء العراة كما الخيول أمامه بأسواق القاهرة بـ150 قرشاً».

حفلات تنكيل

وتذكر الرسائل، أن عقوبات رادعة كانت تفرض على الجنود الفرنسيين المدانين بالسرقة، وتم إعدام جنديين أُدينا بقتل سيدتين تركيّتين، لكن العقوبات ضد السكان كانت أشد قسوة، وهو ما أكده العلامة الجبرتي.

وبحسب رسائل «بيرنويه» فقد اعتقلوا أكثر من ألفي تركي، وقطعوا رؤوسهم واحداً تلو الآخر وألقوهم بالنيل. ويذكر «لافال» ما حل بسليمان الحلبي الثائر الذي قتل كليبر، وكيف تم إحراق يده ثم وضعه على الخازوق إمعاناً بتعذيبه.

وتكشف رسالة «دوجيرو» عن حفلة مروّعة لإطلاق النيران على المماليك الذين ألقوا بأنفسهم في النيل، راح ضحيتها الآلاف، وشاهد حرق عدد منهم أحياء، وترك كثير من الفرنسيين حين يسقطون جرحى، وتسميم جنود فرنسيين أصيبوا بالطاعون. وبرغم ذلك كانت مقاومة المصريين شرسة، ومن ذلك ذبح أهل دمنهور لحامية فرنسية بأكملها.

وحين اتجهت قوات نابليون إلى يافا، وقعت هناك مجزرة رهيبة بعد سقوط أسوارها المنيعة. ويروي «بيرنويه» عن الأطفال المذبوحين وعويل النساء، وخديعة نابليون حين عرض الأمان على الناجين ولما ألقوا أسلحتهم قادهم الفرنسيون إلى شاطئ البحر، حيث اصطف 6 آلاف منهم في انتظار إعدامهم، قبل أن تحل النهاية عند أسوار عكا.

 

اقرأ أيضاً:

ـــ آخر فرنسي في الهند.. من مستعمر إلى رجل صالح

Email