قوارب الموت.. تونسيون يهربون من الفقر فيبتلعهم البحر

منيرة بن شقرة رئيسة جمعية المصير لشباب المتوسط تبكي | البيان

ت + ت - الحجم الطبيعي

بدموع حارقة تنسكب من عيون أذبلها الحنين، وصدى أنين لا يتوقف في قلب تسكنه لوعة الاشتياق وحيرة السؤال، تتحدث مئات الأمهات التونسيات عن أبنائهن الذين غامروا بركوب قوارب الموت، فلا هم وصلوا إلى شاطئ الأمان، ولا عادوا إلى ديارهم، ولم يرشح عنهم أي خبر يدلّ على أنهم لا يزالون أحياء، فتم تسجيل أسمائهم في خانة المفقودين.

مأساة حقيقية يواجهها المجتمع التونسي، من دون أن يجد لها حلًا في ظل تراكم الأزمات التي تعيق تحركات مسؤوليه. لذلك تتحرك عوائل المفقودين أسبوعيًا من خلال وقفات احتجاجية ضد الصمت، أو ربما بحثًا عن خيط من أمل لا يغادر قلوب الأمهات، رغم أن كل المعطيات تدعو لليأس، في ظل ابتلاع البحر الأبيض المتوسط لآلاف المغامرين خلال السنوات القليلة الماضية.

في مناسبات عدة، تنظم أمهات المفقودين وقفات احتجاجية أمام قصر الحكومة أو البرلمان أو وزارة الخارجية، رافعات صور أبنائهن ولافتات يطالبن من خلالها بالالتفات إلى قضيتهن التي تحولت إلى قضية رأي عام.

يتحركن ضمن جمعيات أهلية تخصصت في متابعة ضحايا الهجرة السرية، ومن ذلك جمعية أمهات المفقودين، وترأسها منيرة بن شقرة والدة أحد المفقودين التي أكدت لـ«البيان» أن عدد الأمهات المنضويات تحت لواء الجمعية بلغ نحو 504 أمّهات لم يجدن صدى لأصواتهنّ لدى الحكومة التونسية أو المنظمات والجمعيات المختصة لدى الاتحاد الأوروبي، مضيفة أن هذه المنظمات تستعملهن كمادة إعلامية لأمهات ملتاعات على فقدان فلذات أكبادهن خلال عملية هجرة سرية لا غير، من دون تقديم معلومات أو أدلة ملموسة على مصير أبنائهن.

أم تطالب بالكشف عن مصير ابنها | أرشيفية

 

إهمال ولامبالاة

ووفق فاطمة الكسراوي رئيسة «جمعية أمهات المفقودين»، فإن ممثلي عوائل المفقودين التقوا ممثلين من الاتحاد الأوروبي ومختصين دوليين بملف الهجرة، ووجدوا لديهم استعداداً واضحاً للتعاون، غير أنّ السلطات التونسية لا تتحرك بالكيفية المطلوبة، ربما لغياب الإرادة السياسية.

الكسرواي، ورغم أنها فقدت الاتصال بابنها رمزي الولهازي منذ غامر لركوب الموج في اتجاه السواحل الإيطالية في مارس 2011، لا يزال لديها أمل في أن تراه حيّاً، لذلك دعت الرئيس الباجي قائد السبسي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد إلى ضرورة التعامل بجدية مع هذا الملف والتحرك لمساعدتهم على الوقوف على حقيقة مصير أبنائهم. وشددت على أنها متأكدة من أن أبناءهم المفقودين موجودون ولا يزالون على قيد الحياة، مشيرة إلى أنه على السلطات التونسية أن تتدخل في هذا الملف وتتعامل معه بجدية لمساعدتهم على معرفة حقيقة مصير المفقودين.

وتبقى قضية الهجرة غير الشرعية شغلًا شاغلًا لجانب كبير من التونسيين. وفي هذا السياق، قال النائب بمجلس نواب الشعب إسماعيل بن محمود، وأحد المهتمين بالملف، لـ«البيان» أن الهجرة غير الشرعية من تونس إلى إيطاليا مرّت بمراحل عدة منذ فرض التأشيرة على التونسيين للدخول إلى إيطاليا في سنة 1986، وأخذت طابعاً أمنياً صارماً بالنسبة إلى السياسة الأوروبية من 1995 إلى 2011 عبر تنفيذ مقرّرات «القانون الجديد للهجرة»، ثمّ تنامت من سنة 2011 إلى الآن، حيث هاجر أكثر من 20 ألف تونسي إبّان الإطاحة بالنظام السابق في يناير من العام 2011.

وتابع بن محمود أن الهجرة غير الشرعية والتي تسمى محلياً بـ«الحرقة»، ويطلق على من يقوم بها اسم «الحارق»، شهدت توسعًا كظاهرة باتت تؤرق دول الضفتين الجنوبية والشمالية للمتوسط، وتسببت في مآسٍ لا حصر لها، وخاصة في ما يتعلق بالغرقى والمفقودين الذين عادة ما تنقطع أخبارهم لمدة أشهر وربما سنوات، كما حدث لمئات الشبان ممن لا تزال أسرهم تجهل مصائرهم.

وأردف النائب التونسي أن الهجرة السرية، تقف وراءها شبكات «مافيا» متخصّصة، تجني أرباحًا طائلة من وراء نشاطها، ومن الصعب الحد من تحركاتها، رغم الإجراءات الأمنية والعسكرية المعتمدة على السواحل التونسية، لافتًا إلى أنه ورغم المآسي المسجلة إلا أن هناك أسراً لا تزال تدفع بفلذات أكبادها إلى المجهول، أملاً في تحسين ظروفها الاقتصادية والاجتماعية.

الهروب من البلاد

وأرجع رئيس المنتدى مسعود رمضاني رغبة الشباب في «الهروب من البلاد» إلى أسباب عدة، من أهمها الوضع الاقتصادي والظروف الاجتماعية وكذلك تزايد حالة الإحباط بين الشباب الذين لا يرون مستقبلًا لهم في تونس، وعدم كفاءة التدابير التي اتخذتها الحكومات المتعاقبة. ومن بين الأسباب أيضاً تزايد قوة شبكات مهربي البشر في البحر، ودور وسائل التواصل الاجتماعي.

وأبرز الباحث الاجتماعي هشام الحاجي لـ«البيان» أن مأساة المفقودين من الذين غامروا بركوب قوارب الموت، أكثر إيلاماً من مأساة من غرقوا وتم العثور على جثثهم كما حدث مثلاً في حادثة غرق أحد المراكب بالقرب من جزيرة قرقنة، أوائل يونيو الماضي، ما أدى إلى غرق العشرات، لأن الموضوع في هذه الحالة يمكّن الأسرة من جواب واقعي، وإن كان مؤلماً، عن مصير الابن الذي فارق الحياة غرقاً، أما عندما تفقد الأسرة ابنها من دون أن تجد أي دليل حاسم، سواء على أنه توفي غرقاً، أو أنه لا يزال حياً يرزق، فإنه ستعيش لسنوات طويلة وهي في حالة قلق وألم وأمل وتوهّم، ما يعني مشاعر متداخلة، لا يمكن الوصول من خلالها إلى حالة الحسم الذي يؤدي إلى الوقوف على الحقيقة مهما كانت مؤلمة.

أمهات تونسيات ينشطن في لفت الانتباه إلى قضية المفقودين | أرشيفية

 

حملة ألمانية

تقود ألمانيا حملة واسعة لترحيل مئات المهاجرين من دول مغاربية (المغرب وتونس والجزائر)، المقيمين بـ «طريقة غير شرعية» في البلاد، بعد رفض طلباتهم للحصول على الإقامة أو صفة لاجئ. وكشف تقرير أن عدد المرحلين من هذه الدول، ارتفع من 61 في عام 2015، إلى 634 شخصاً خلال عام 2017، وفي الأشهر الثمانية الأولى من 2018، أُبعد 476 شخصاً إلى بلدانهم المغاربية.

وتأتي عمليات الإبعاد، في وقت يعيش فيه حزب المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل التحالف المسيحي الديمقراطي، خلافات حادة حول موضوع الهجرة، ما يهدد التحالف الحكومي بالسقوط.

ويسود تخوف وسط المهاجرين من أن تحذو باقي الدول الأوروبية حذو ألمانيا، خاصة أن لهذه البلدان إمكانية تحديد هويات رعاياها «على قاعدة تبادل معطيات بيومترية بطريقة إلكترونية».

وأعلنت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس التونسي الباجي قائد السبسي العام الماضي، التوصل إلى اتفاق يرضي الطرفين بشأن ترحيل اللاجئين التونسيين ممن رفضت طلباتهم، ويقدم مزايا اقتصادية ومالية للعائدين طوعاً.وتلتزم تونس وفقاً للاتفاق بتسريع عمليات التثبت من هويات المرحلين، واختصار الآجال إلى مدة لا تتجاوز 30 يوماً.

 

مفقودو البحر والهجرة بين الوعود وسياسات المماطلة

في بيان للرأي العام، قالت أمهات المفقودين: «تتوالى السنوات على فقدان فلذات أكبادنا شباب تونس المحرومة، تونس المنسية، تونس المغيبة في حوادث الهجرة غير النظامية عبر البحر نحو السواحل الإيطالية هرباً من البطالة والفقر، ومن سياسات أقصتهم وهمّشتهم، وأملاً في لقمة عيش تحقق كرامتهم وكرامة عائلاتهم. ورغم ما تملكه العائلات من معطيات حول ظروف رحلتهم فإن مسار البحث عن الحقيقة عن مصير أبنائنا لم ولن ينتهي إلا بمعرفة أين أولادنا».

وأضفن، إن «عائلات المفقودين خاضت كل الأشكال النضالية من مسيرات واعتصامات للضغط على الحكومات المتعاقبة وكل الفاعلين السياسيين، ورغم الوعود الكبيرة بالبحث في مصير أبنائنا فإن الملف يراوح مكانه نتيجة سياسات المماطلة والتسويف»، واتهمن السلطات الحكومية بأنها تخلت عن أبنائهن بسياساتها غير العادلة والتي دفعتهم لركوب الخطر، وها هي تتخلى عنهم مجدداً وترفض البحث بجدية في مصيرهم.

وقال البيان، إنه «رغم الإعلان عن لجنة التحقيق في 5 يونيو 2015 واجتماعاتها المتتالية، وتقديم العائلات لكل الوثائق والمؤيدات وجاهزية قاعدة بيانات المفقودين فإن الإرادة السياسية ما زالت غائبة ما يضعف الثقة في رئاسة اللجنة وجديتها».

وعبّرت الأمهات عن رفضهن لسياسة الحكومات المتعاقبة في التعامل مع ملف المفقودين وانعدام الإرادة السياسية في كشف مصيرهم وتعطيل عمل لجنة التحقيق في المفقودين، وأكدن عزمهن على تصعيد تحركاتها حتى تتحمل الدولة مسؤولياتها في كشف مصير المفقودين، والتعامل بجدية مع هذا الملف، داعيات الحكومة إلى تحمل مسؤولياتها الاجتماعية تجاه العائلات التي فقدت سندها.

 

تحرّك يفتقر للجدية في ملف معقّد

اتهام أسر المفقودين للسلطات الحكومية بإهمال قضية أبنائهم ليس جديدًا، وإنما يعود إلى سنوات خلت، وقد أشار إليه المعهد الوطني لصحة المهاجرين في إيطاليا، الذي وجّه رسالة إلى تونس في 10 يونيو 2013، اعتبر فيها أن طريقة تعامل الدولة هناك مع ملف المفقودين «غير جدية»، حيث لم ترسل تونس إلى إيطاليا حينها، سوى 80 تحليلًا جينياً فقط من بينها 40 يتعلق بمفقودين بين سنة 2004 و2007.

اعتصام يطالب بالكشف عن مصير مفقودي البحر والهجرة | أرشيفية

 

وفي يونيو 2015، شكلت الحكومة التونسية لجنة وطنية مكلفة بمتابعة ملف التونسيين المفقودين في إيطاليا من جراء الهجرة السرية، وتتكون هذه اللجنة من ممثل عن وزارة الشؤون الاجتماعية وهو رئيس اللجنة وممثلين من وزارة العدل والدفاع الوطني والداخلية والشؤون الخارجية ومختص في القانون الدولي ومختص في الطب الشرعي وممثل عن المجتمع المدني وممثل عن عائلات المفقودين.

ورغم مرور أكثر من ثلاثة أعوام على تشكيلها، لم تُصدر هذه اللجنة الحكومية حتى الآن تقريرًا متكاملًا عن تطوّرات الملف، رغم قيامها بجمع تحاليل وبصمات عائلات المفقودين وإرسالها إلى السجون ومراكز الإيقاف الإيطالية بعد أن تولت إيطاليا إنشاء بنك للتحاليل الجينية والبصمات للكشف عن هويات المساجين والموقوفين لديها.

وفي 22 من شهر يوليو 2017 أوضح وزير الدولة السابق لدى وزير الشؤون الخارجية المكلّف بالهجرة رضوان عيارة، خلال جلسة عامة عقدها البرلمان التونسي، أن عدد التونسيين المفقودين في سواحل إيطاليا، خلال رحلات هجرة غير شرعية، بلغ 504، منذ 2011، ووصف النتائج المسجلة في ملف التونسيين المفقودين في إيطاليا بالمحتشمة، معلّلا ذلك بارتباط جميع معطيات الملف بالجانب الإيطالي. تونس - البيان

Email