قضية .. «المياه» قابلة للاشتعال

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعتقد كثيرون أن الصراع في الشرق الأوسط يقتصر على الأرض والقضايا السياسية المباشرة، لئن حلّت، نعمت هذه المنطقة المضطربة بالأمن والأمان والسلام. ويغيب عن أذهان هؤلاء أن هذه المنطقة تعاني شحّاً في المياه العذبة، ما يعني أن الصراع المبطّن راهناً حول هذه الجبهة، قد يتصاعد ويتحوّل إلى حروب جديدة بعنوان مائي.

في لقاء عقد سنة 1990 بين العاهل الأردني الراحل الملك حسين والدكتور جورج حبش، سمع الملك من القيادي الفلسطيني الراحل كلاماً موسّعاً عن طبيعة الصراع في المنطقة، وأن إسرائيل لن تكف عن عدوانيتها حتى لو تم التوصل لاتفاقيات «سلام» معها، لأن من المرجّح أن تشن حروباً للاستحواذ على المياه.

إذن نحن أمام احتمالية عالية أن يكون الصراع على المياه في الشرق الأوسط سمة المستقبل، ذلك أن تحقيق الأمن المائي يعتبر من أهم الأولويات في المرحلة المقبلة وقد يكون النزاع على المياه من العوامل المضافة إلى العوامل الموجودة المسبّبة لعدم استقرار المنطقة.

كثير من المحللين يرون أن المياه إن لعبت دوراً مهماً في كل الحروب العربية الإسرائيلية الخمس. فقد جعلت هزيمة عام الـ67 من بحرية طبرية بحراً داخلياً لإسرائيل، مياهها بمثابة الذهب الأزرق، حسب رأي بعض الخبراء.

يقول بعض المحللين بمزاح مر إن معادلة السلام في المنطقة بسيطة نسبياً، ذرّتان من الهيدروجين زائد ذرّةً من الأوكسجين، إلا أن مشكلة الماء ما زالت تهدّد الأمن القومي والاستقرار الداخلي لدول المنطقة، كونها مولِّداً للمواجهات السياسية.

صيغ لم تتبدل

سنة 1991 قام معهد الموارد العالمية وهو أحد معاهد الدراسات الأميركية وهو يعنى بأبحاث الموارد الطبيعية في العالم برفع تقرير إلى الحكومة الأميركية محذراً فيه من أن اهتمامها بحل الصراع القديم في الشرق الأوسط يتركز على إيجاد صيغ لم تتبدل منذ بدأت تلك الجهود، وأنها تتجاهل أزمة خطيرة قادمة حتماً وهي أزمة المياه وما سوف تسببه من تأجج للصراع حولها.

وقالت جيسيكا ماثيوز نائبة رئيس المعهد في مقال لها نشر في عدة صحف أميركية، إنه إذا كانت مبادلة الأرض مقابل السلام تبدو صعبة بما فيه الكفاية أمام الجهود المبذولة لتسوية الصراع في الشرق الأوسط فإن مبادلة المياه بالسلام سوف تكون مستحيلة وأضافت قائلة: إن أي اتفاق سلام يتم الاتفاق عليه لا يعالج مشكلة الموارد المائية سيكون اتفاقاً هشّاً ولن يصمد أمام الحاجة إلى المياه وما يترتب على ذلك من صراع، لذلك فإن اعتقاداً جازماً بأن المياه سوف تكون سبباً في صراعات جديدة أو ذريعة لها.

إسرائيل والمياه

ومن المتعارف عليه أن إسرائيل تضع في أولوياتها استثمار المياه، إضافة إلى الشرب، بشكل منهجي وعلمي، وتتطلع إلى الحصول على المزيد منها من أنهر البلدان العربية المجاورة: النيل في مصر، واليرموك وروافد الأردن في سوريا والأردن، والليطاني وروافد الأردن في لبنان. وتنوي الإفادة من مياه اليرموك والمياه اللبنانية للري وتوليد الطاقة الكهربائية.

لا ينبغي لنا أن ننسى أن الحروب التي قامت بها إسرائيل بعد عام 1948 رمت في جوانبها الرئيسية إلى السيطرة على منابع المياه العربية، وكل المشاريع لإقامة دولتها على أرض فلسطين تضمنت مخططات لكيفية الحصول على المياه.

ففي عام 1885 ركز تيودور هرتزل في مذكراته على ضرورة ضم جنوب لبنان وجبل الشيخ. وفي عام 1947 نصح رئيس الوزراء الأسبق في إسرائيل، وأحد مؤسسيها ديفيد بن غوريون في كتابه «أرض إسرائيل» أن تشمل منابع نهر الأردن والليطاني وثلوج جبل الشيخ واليرموك.

وفي عام 1955 أكد بن غوريون «أن اليهود يخوضون مع العرب معركة المياه. وعلى نتائج هذه المعركة يتوقف مستقبل إسرائيل». وأضاف في عام 1967 في رسالة إلى الرئيس الفرنسي شارل ديغول: «أمنيتي في المستقبل أن يصبح الليطاني حدود إسرائيل الشمالية».

وفي عام 1983 وبعد ما يقارب مئة عام على مذكرات تيودور هرتزل، وجه القيادي البارز سابقًا في جهاز «الموساد» الإسرائيلي ديفيد كيمحي رسالة إلى وزير الخارجية الأميركية جورج شولتز يؤكد له فيها إثر توقيع اتفاقية 17 مايو مع لبنان في عهد الرئيس بشير الجميّل «أن انسحاب إسرائيل من لبنان مرتبط بحصولها على حصة من مياه الجنوب اللبناني». وفي عام 1985 كتب شمعون بيريز، وهو أحد مؤسسي الحركة الصهيونية، في ما أسماه «الشرق الأوسط الجديد» إننا «احتجنا في الحرب إلى أسلحة، ونحتاج في السلم إلى مياه».

وتوقّع الكاتب الأميركي غول كولي في كتابه عن حرب المياه، أن يشهد الشرق الأوسط حروباً بسبب الصراع على المياه، ذلك أن خطط التنمية في المنطقة سوف تعتمد على المياه فقط.

كما تناول الكاتب الأميركي توماس ستوفر نفس الموضوع في الندوة الدولية حول «إسرائيل والمياه العربية» والتي عقدت في عمّان عام 1984، حيث اعتبر أن المياه العربية التي استولت عليها إسرائيل بعد حرب عام 1967 «غنائم حرب» حيث احتلت إسرائيل منابع نهر الأردن واليرموك، وبانياس، وأضاف: إن أطماع إسرائيل في المياه العربية هي جزء من مفهوم إسرائيلي متكامل لسياسة الموارد التي تشتمل أيضاً على النفط والمعادن والسباق التجاري والحصول على الأيدي العاملة الرخيصة والموارد الاقتصادية الأخرى.

أزمة أوسع

خلال سنة 1992 ذكرت الوفود المشاركة في مؤتمر المياه والبيئة الذي عقد في مدينة دبلن أن الدول العربية هي الأكثر تعرضاً لخطر النزاعات والصراعات حول المياه، وقال الوفد الأميركي الذي شارك في المؤتمر إن أنهار النيل والفرات والأردن سوف تكون حلبة لصراعات دموية حقيقية في المستقبل، وإن المياه تستخدم كأدوات وكأهداف للحرب.

وفي سنة 1987 كتبت صحيفة لوس أنجلوس تايمز: إن كلاً من إسرائيل والعرب سيواجهون نقصاً حاداً في المياه وسيضطر الطرفان للتعاون أو خوض غمار حرب سببها عدم الاتفاق على تقاسم المياه بالطريقة التي ترضي إسرائيل.

وتحدث تقرير لوكالة المخابرات المركزية الأميركية أواخر عام 1993 وتم نشر أجزاء منه ووصف بأنه دراسة جدية معمقة لمشاكل المياه في العالم، عن وجود عشر مناطق مختلفة ستشهد في المستقبل صراعات ومواجهات عسكرية محتملة حول المياه، غالبيتها تعج بأزمات ومشاكل كثيرة ويحتل فيها الوطن العربي مركز القلب.

قبل ذلك وفي حدود سنة 1986 وخلال الفترة التي أصبح فيها من الواضح للخبراء العسكريين في الغرب أن العراق في الطريق إلى كسب الحرب التي بدأت مع إيران سنة 1980 كثرت التوقّعات والتصورات الميدانية عما سيسفر عنه هذا الانتصار من تغيير الكثير من الموازين السياسية والعسكرية في المنطقة ومنها تعديل ما سمي بإحكام تركيا لقدرة الضغط على كل من العراق وسوريا عبر التحكم في تدفق مياه نهري دجلة والفرات.

والمعروف أن تركيا بلد المنبع تواظب منذ زمن على إنشاء العديد من السدود على نهري الفرات ودجلة، كجزء من برنامج إروائي طويل الأمد. وتجاهلت أنقرة عند إنشاء هذه السدود جارتيها العراق وسوريا الأخرى التي تتشارك معها في مياه دجلة والفرات.

سد النهضة

ولعل أبرز مشكلة وأحدثها على صعيد أزمة المياه، سد النهضة الإثيوبي الذي أقلق مصر على نحو خاص. وحسب تقرير لشبكة بي بي سي للشؤون الأفريقية، فإن هناك مناطق قليلة في العالم تشهد توتراً، بنفس الدرجة التي تشهدها منطقة حوض نهر النيل، مشيراً إلى أن مصر وإثيوبيا بينهما خلاف كبير حول السد، والسودان في وسط المشكلة، حيث يجري تنفيذ تحوّل جيوسياسي كبير، بمحاذاة أطول نهر في العالم.

وستتمكن أكبر محطة لتوليد الطاقة الكهرومائية في أفريقيا، وواحد من أكبر السدود في العالم من تحقيق أطماع إثيوبيا مائياً، ولكن لأن 85 في المئة من مياه النيل تأتي من إثيوبيا، فإن مصر تخشى من أن تتحكم إثيوبيا في تدفق مياه النهر.

أزمة نقص المياه مرشّحة للتفاقم.. بانتظار الحلول

تفيد معطيات متعددة بأن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تعاني من نقص كبير في معدل الماء، لاسيما مع وجود 17 دولة تحت خط فقر المياه الذي حددته الأمم المتحدة،؟ وأن مُعدل الماء في هذه المنطقة ينخفض بشكل أسرع مما يمكن إعادة تجديده، ما يعني أن هذه المنطقة ستواجه صعوبات كبيرة وستفقد إمكانياتها.

الشرق الأوسط منطقة واقعة تحت الحاجة المُلحة لاتخاذ إجراءات حاسمة لتقليل الفجوة بين كمية الماء الموجودة وحجم الطلب عليها، فهي موطن لستة في المائة من سكان العالم، ولكنها تحتوي على واحد في المائة فقط من موارد المياه العذبة في العالم.

وكانت شبكة «سي إن إن» أوردت في تقرير لها في الآونة الأخيرة أن نقص الماء تحدّ كبير يواجه هذه المنطقة منذ مئات السنين، وتفاقمت المشكلة في الآونة الأخيرة، بسبب زيادة السكان والنمو الاقتصادي وإمدادات المياه المشتركة عبر الحدود.

وبالإضافة للأسباب السياسية، فإن هناك أسباباً أخرى تسببت في نقص كمية الماء في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أهمها تغير المناخ والجفاف المتكرر، وتراجع هطول الأمطار، وارتفاع معدلات التبخر، حسب التقرير الإقليمي العربي لعام 2018.

وحسب بيانات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، فإن حوالي 13 دولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يعانون من انخفاض كبير في منسوب الماء منذ عام 2014. وتفيد تقارير بأن الدول تعاني من ندرة المياه عندما تنخفض إمداداتها السنوية من المصادر الطبيعية إلى أقل من 500 متر مكعب للشخص الواحد لتلبية الاحتياجات المنزلية والزراعية والصناعية.

تقرير دولي

وفقًا لتقرير البنك الدولي، فإن ندرة المياه تحدث في المناطق التي تستمد الماء منها في الأنهار والآبار والصخور المشبعة بالماء. وحسب كلوديا سادوف، مديرة أولى في قطاع الممارسات العالمية لأمن المياه والإدارة المتكاملة للموارد بالبنك الدولي، فإنه عندما يتم سحب كمية كبيرة من الماء تفوق الكمية التي يمكن تجديدها، فإنك بذلك ستؤذي الطبقة الصخرية نفسها. وأوضحت أن هذه العملية تضر بالنظم البيئية، وتعطل الإنتاج الاقتصادي وتعرقل الجهود المبذولة لتحقيق الرفاهية.

وذكرت سادوف أنه من المحتمل أن تستعيد طبقات المياه الجوفية الماء الذي تم استخراجه منها، حال هطول الأمطار مدة عام كامل. ورأت أن التكنولوجيات الأخرى البديلة لتحلية الماء، تتمثل في معالجة المياه المُستخدمة، وإعادة تغذية المياه الجوفية، وتخزين مياه الأمطار.

ومن أكثر الطرق شيوعًا لتلبية احتياجات السكان في الدول التي تعاني من نقص الماء، تتمثل في تحلية مياه البحر. وفقًا للبنك الدولي، فإن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تعتمد على نصف طاقة تحلية مياه البحر في العالم، ما يجعلها أكبر سوق لتحلية المياه في العالم، علماً بأن عملية تحلية مياه البحر يتم تنفيذها في 150 دولة في جميع أنحاء العالم.

وحسب جمعية التحلية الدولية، فإن أكثر من 300 شخص في جميع أنحاء العالم يعتمدون على المياه المحلاة لتلبية احتياجاتهم اليومية. ومع ذلك، لا تقوى المناطق الفقيرة مثل اليمن، وليبيا، وقطاع غزة والضفة الغربية، والتي لا تزال تعتمد على المياه الجوفية كمصدر أساسي للماء على اتباع التكنولوجيات الرخيصة.

 

Email